القاص والروائي أحمد البدري مبدع واحاتي عاشق للحياة في الصحراء الغربية. ولد عام 1961 ، الواحات الخارجة، وإن كانت ترجع أصوله إلي (جرجا سوهاج). درس الهندسة الميكانيكية في جامعة المنيا، وينتمي إلي ما عرف فيما بعد بجيل الثمانينات من الروائيين المصريين، حيث التحق البدري بالاشتراك في الجماعة الأدبية بالمنيا في مطلع ثمانينيات القرن الفائت، حيث نشر في تلك الفترة الكثير من القصص في الدوريات الأدبية المختلفة . قَدَّم البدري العديد من المؤلفات الأدبية مثل »الصدي» (ديوان عامية)، »سقوط الأقنعة» (مجموعة قصصية)، »الوجع» (ديوان عامية)، »اللعبة» (مسرحية شعرية)، »شجر السنط لايموت» (مجموعة قصص)، »عودة يوسف»(رواية)، »حكايات مهندس في المغارة»، »طالع النخل» (مجموعة قصصية)، وأخيرا مجموعة قصصية بعنوان »بوح الروح ». لجأ البدري في بوح الروح إلي الارتكاز علي التجريب السردي في عملية البناء القصصي، وقد وجد روحه منصهرة في بوتقة هذه القصص القصيرة جدا، والتي تحمل في باطنها فتنة المفارقة الحادة التي أشار إليها دي سي ميوك في حديثه عن تعريف المفارقة الأدبية. وقد اختطف البدري أفكار قصصه القصيرة من رحم الخيال الذي يمتلكه، مازجاً بينها وبين الواقع الذي يكتوي بناره كل لحظة. وقد نوّع الكاتب في اختيار عناوين أقاصيصه، نجده يطرح علي سبيل المثال »موت، مباغتة، الراقصة، لعبة، تحايل، مراوغة، برواز، ترقية، شهادة، استشهاد، عتاب، بعث، حافلة، همسة، حرية، فراشة، سجين، حيلة، استئصال»، وغيرها من العناوين التي تناولتها المجموعة. قبل الولوج في عوالم القص عند أحمد البدري، ينبغي الوقوف عند عنوان المجموعة (بوح الروح) جاء هذا العنوان مركباً من مضاف ومضاف إليه، وكأنه يريد القول: إن الروح تحتاج للبوح والفضفضة دائماً، كي تتخفف من آلامها، وعذاباتها اليومية إزاء ما تلاقيه هذه الروح من منغصات مستمرة، تربكها وتجعلها في قلق يومي لا نهاية له. وفي ظني أن العنوان يحمل رؤية الكاتب نفسه ومدي ميله إلي عوالم الرومانسية والأحلام المتوقدة داخل ذاته الساردة ، ومن ثم فإن الروح لا تستطيع الحياة دون أن تحكي كثيراً لمن تحب ما يشغلها ويهز أركانها الداخلية. وتكمن طبيعة أحمد البدري الشخصية متجسدة في هذا العنوان الغارق في الإنسانية بشغف، فهو العاشق المكلوم بمحبة الآخرين والإنصات إليهم والحنين الذين يسكن قصصه من خلال تصويره للحياة في الواحات الخارجة التي أصابتها الحداثة وأخرجتها من نقائها إلي غياهب التناقض في ظل واقع غامض مؤلم. جاءت البنية الكلية لمجموعة »بوح الروح» مرتكزة بشكل واسع علي القصة القصيرة جدا (ق.ق. ج) هذا النوع الأدبي الذي يقترب من حقيقة السرد الشعري في شكله الخارجي، وطبقاً لمقولة الصوفي الكبير عبد الجبار النفري: »كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.» فقد نلاحظ من خلال الفعل السردي قيمة الكلمة المكتوبة، وهدفها، ومدي اتساعها الدلالي والتأويلي، لأنها تمثل مشهداً سردياً قائماً بذاته يعتمد علي حركة المفردة بنفسها داخل القصة، وهي لحظة فنية بامتياز من خلال قدرة الكاتب أيضا علي اختيار مفرداته بدقة وعناية ، حتي لا تتسبب في ترهل القصة وضياع أهدافها الفنية والاجتماعية، فيقول السارد في قصة بعنوان (غرور): »هرول، تقدم الصفوف، لم ينظر خلفه، دس وجهه في الأرض.. لا يري سوي أقدامه تصرع الثري. فرح كثيرا بتقدمه.. ظل يجري، ويجري، ظن أنه الأول، اصطدم بفرع شجرة، سقط مغشيا عليه....» ارتكز السارد العليم في قصة غرور بالكشف عن صفات المغرور الذي يظن نفسه أفضل من أقرانه الآخرين، من خلال تقدمه لكل الصفوف وجريه المستمر، كي يكون الأول، وعندما ظن أنه الأول سقط مغشياً عليه، جاء غروره وتكبره وعدم وضوح الرؤية لديه. جاءت لغة السرد في القصة الفائتة معتمدة علي اللغة المشهدية / بمعني آخر المفردة التي يصنع من خلالها مشهدا سرديا قائما بعناصره كافة. وارتكز البدري علي الجملة الفعلية المتحركة في عملية السرد فاستخدم جملا قصيرة مثل (هرول تقدم الصفوف دس وجهه ، لم ينظر خلفه ،.....) فقد احتفي بالحركة التي سيطرت علي عقلية البطل، فاستخدم اثني عشر فعلا في قصة قصيرة مكونة من ثلاثة أسطر فقط. وفي ظني يمكن القول إن الذات الساردة تنطلق من حركية الوجود نفسها التي ترتبط بالإنسانية وظواهرها المتعددة، فتطرح بعض القضايا الاجتماعية التي أسهمت في تفكك المجتمعات وسقوطها. ويقول أيضا في قصة بعنوان (تكريم): »تجاهلوه عمراً، طاردهم الخجل، كرموه راحلاً، لكنه ما زال قيد الانتظار». تطل المفارقة برأسها في القصة السابقة، حيث جاء الحديث عن تكريم الراحلين. ويقول في قصة (لقاء): »جاءت علي غير موعد، رقصت الأرض أسفله .... تناسي القلب هجرها، حينما أشرق سحر بعينيها علت نبضات القلب، فسكنت عنان السماء... سري الدفء في الجسد الميت منذ رحيلها الأول». اتكأ البدري في القصة الفائتة علي الحس الرومانسي الصادم الذي ينتهي مفارقة لافتة حين تعلن الذات الساردة عن الرحيل الذي سكن الروح وبقي الجسد نابضا بحب لا يفني مهما حدث اللقاء المفاجئ. كما اعتمد البدري علي تسجيل اللحظات الكاشفة في بنية السرد القصصي من خلال التقاط مشاهد إنسانية بسيطة مسلطا الضوء علي نقاء سريرة الإنسانية رغم تقيدها بتقلبات المجتمع الراهنة. كما تسجل القصة أثر هذا الرحيل الأول في قلب العاشق الهائم، دون أن يكترث بعواقب العشق في المجتمع وبخاصة في الواحات. وقد يقع العشق تحت سلطة القهر الاجتماعي التي تكون سببا في موت الحب في القلوب النقية. تحمل قصص »بوح الروح» للكاتب أحمد البدري شغفاً بالحياة مشغولاً بمنغصاتها وتفاصيلها السردية التي لن تنتهي.