احصل علي النافذة أولاً وأنا أضمن لك أن القمر سيأتي صاغراً معها، والنجوم، والشجر سوف يأتي، وإذا جاء كهؤلاء جميعاً، مرة، صدقني، سيأتي النهرُ دائماً من تلقاء نفسه. أعرفُ رجلاً يخوضُ في الخمسين، واقفاً كل يوم أمام نفسه عارياً، لا يتغطي سوي بنافذة. لا أملك من حطام الدنيا سوي عينين ونافذة، أري بهما العالم الذي يدور في رأسي، لا بيت لي، ولا أصدقاء، أهلي كلهم هجروني، لم يبقَ معي دائماً وإلي النهاية، سوي الشرفات، كانت تعويضاً كافياً عن العالم، ذلك الملعون الذي لا أمله ولا نافذة يمنحُ الحبَ بيدٍ ويأكل بالأخري خُبز العاشقين. نعم، أنا من هؤلاء الذين لم تبق لهم الحياة شرفةً علي حالها، دائماً تتقوس بجسدها إلي الأمام، تخلع عظامها شيئا فشئيا من الجدران العالية، شاخصة بغضب إلي الأرض، لا يستطيع المرء أن يحتمل الحياةَ كنافذة، أن يظل عُمراً فوق الجميع، ثم يشيخ شيئا فشيئا حتي تلامس رأسه التراب، ليس سهلاً، أن يخلع البناؤن عظامك قطعة قطعة أمام الناس لتصير أرجوحة للصغار. بعض الشرفات تودّع حياتها التليدةَ في البناية، وتهوي علي الأرض مرة واحدة، كأنّها قررت فجأة أن تنتحر. بعض الشرفات تفعل ذلك، لأنها تلعن قصص الحب التي انمحت من جدارها، تلعن الندوبَ الثقيلة التي تحفرها الأيدي علي خشب النوافذ. تلعن الدموع التي هطلت والشرايين التي تمزّقت علي سور قلبها. بعض النوافذ تسقط كالثورات الزائفة، وتتكوم كالروث في جانب الميدان. أنا من هؤلاء الذين يعتقدون أن الحبَ نافذة، حيث لابد له أن يعيشَ وأن يتألم، لدرجة أنني حين كنت صغيراً كنتُ أعشق النافذة أولاً، وقد لا يبقي لدي وقت لأعشق الفتاة التي أطلت منها مصادفة، بعض الفتيات ظهرن مرة واختفين، في شرفات لا أزال أحبها إلي اليوم. خسرتُ عشيقاتٍ كثيرات، لأن نوافذهن كانت أقل جمالاً من سيقانهن. تفهمني النوافذ أكثر حين أحلّ ضيفاًعليها، تعاملني بأخوَّة وصبر، تعلمني كيف أفتحها لتكشف البحر لي، وكيف أغلقها لأبكي. أنا صديقُ النوافذ المفتوحة في أواخر المدن، المضاءةِ بمصباحٍ وحيد، صديق الحب الذي يترعشُ تحت الضلف، وصاحب كل الشرفات التي تُغلق، كل يوم بلا تلويحةٍ للوداع. كل الملاءاتِ النديَّة المُعلقة في السماء أخواتي، وإخوتي الشبابيك. من ديوان »الأيام حين تعبر خائفة» تحت الطبع الهيئة المصرية العامة للكتاب