علَّمتني الشرفاتُ التي وقفتُ خلفَها، كثيراُ وأنا صغير، أَنْ لا شيء يدوم، حتَّى وأنت مُختبيء وراء شُرفةٍ بالية، الأصواتُ تأتيك عاريةً من ملامحها، والحزنُ يهز ذيله للعابرين، لكن ، لا شيء يدوم. العالمُ مؤلمٌ فعلاً من وراء النافذة : العاهرة تهشّ حزنها وهي تمشي، والمنتحرون يسيل لحمُهم دون إرادةٍ منهم، أقفُ وحيداً في الشرفة، ربَّما، لأنَّ لديَّ ما أنظرُ إليه، أنا مولودٌ في شرفةٍ يتيمة، وحين كبرتُ صرتُ أفتح قلبي بصعوبة كنافذةٍ تكافح كي لا يغطيها التراب، عرفتُ شرفاتٍ تآكلتْ حين مات أصحابها ونوافذ تعرَّت جدرانها قبل أن تتعرَّى النساءُ فيها. أنا مدينٌ باعتذارٍ لآفِ الشرفات حين كان العالمُ عارياً كنتُ أنظر إليه، كأنَّه صُدفة ميتة، سمعتُ شيوخاً من الماضي يئنون تحت شُرفتي، ورأيت العانسات ، يسحبن النحيبَ من آخره، فيما السباب يخرج بمفرده، دون أن يُلقيه أحد، بعض الشتائم كانت تتعلَّق بين الضُلف، ولا تجد مَن يُرسلها إلى الأرضِ، كي تولَد. طولُ إقامتي في الشرفة كان لا يعني في الحقيقة سوى أنني موجود، مُعلَّق كالرِّضا على وجوه المهزومين، نعم من شرفة قصيرة، يُمكنك أن تتعلَّم كيف تشمّ العالم، دون أن تعلقَ أوساخُه بملابسِك. أبي تعرَّق في بلدٍ بعيد لكي يعود ببيتٍ وخمس شرفاتٍ مغلقةً دائماً ومُتْربة، لكنها رغم ذلك تدرِّبَ الغبارَ على محبَّة الطيران. علمتني الشرفات، أن عرق الذين يكذبون دائماً أوضح، كأنَّهم يبلّلون الكذب، كي لا يدوم، علَّمتني أن الجروحَ طويلةٌ بما يكفي، وأنَّ اللوعةَ قادمةٌ من مكانٍ بعيد، لكنَّها أبداً، لا تدوم.