في مثل هذا اليوم (التاسع من سبتمبر من العام الماضي) رحل الكاتب الكبير خيري شلبي ، ولكنه لايزال حتي الآن يملأ الدنيا نكاتًا وضجيجًا، كعادته في الحياة التي عاشها مقتولا يبحث بين الأحياء الموتي عن أيقونة الحياة الأبدية، عبر خيال واقعي سحري هو الأول في الكتابة العربية، لقد ظلت الأماكن والأشجار والحيوانات والحشرات .. بل عاشت الأشياء جميعًا تتنفس في قصصه، تموت وتحيا، تتحاور، تتخاطر، تنمو وتكبر وتشيخ، تتأنسًا، تحكي وتحكي ولا يسعنا إلا أن نسمعها! في رواية "الشطار" يصحبنا كلب عبر أكثر من خمسمائة صفحة في حالة حكي فريدة، تأخذنا دون ملل، نتعرف خلالها علي شخصية هذا الكلب، نعايشه ونتابع حركته عبر الرواية باستمتاع كبير. الأماكن أيضًا لها حضورها الكثيف. في"وكالة عطية" نحن علي موعد مع تشيؤ البشر وتأنسن الجماد، ذلك المبني القديم الذي اكتسي بملامح البشر، وفرض عليهم ملامحه الخاصة. لكل من يسكنه عالمه الغرائبي (الواقعي) العجيب!، تفاصيل الحكي تفوق حرارتها سخونة الأنفاس بالمكان، وتتجاوز برودة الموت الساكن في تجاعيد وشوش أبطاله المهمشين ! لحياة وعوالم شخوص روايات خيري شلبي خصوصية لا يضاهيها سوي خصوصية حياة خيري شلبي نفسه، بكل ما فيها من غرائب وصراعات وتشرذم وصعلكة، وبكل ما يعتريها من جمال وقبح يمتزجان في ديمومة، وفي صراع أبدي. إنها عظمة الكتابة عندما تلتحم بالواقع وتحطم تابوهاته، تقفز فوق آلامه وأحلامه لكي تصبح هي والذات والأشياء والأماكن والبشر شيئًا واحدًا متكاملاً وقادرًا رغم مفارقاته المتعددة علي الحياة والنمو والتصاعد في جرأة تتجاوز السائد الأخلاقي الساذج إلي الأخلاق بمعناها الأكثر شموخًا وتفاعلاً، وهي أخلاق البناءِ والقدرةِ علي تجاوز الضعف والبحث الدائم عن الواقع حتي في أكثر لحظات الخروج عن الوعي ! إنها لغة الواقع الذي يأخذنا إلي الأساطير ولغة الأساطير التي تذهب بنا تدريجيًا إلي الواقع بكل قسوته وصلافته، ففي رواية "السنيورة" يصل الواقع إلي تخوم الأسطورة، وفي "بغلة العرش" تتحقق الأسطورة واقعيًا! خيري شلبي الذي عاش إمامًا للمهمشين ومؤرخًا للمنسيين، كما نعاه الدكتور شاكر عبدالحميد في المؤتمر الذي عقده المجلس الأعلي للثقافة عندما كان أمينا له .. خيري شلبي الذي لا يعرف التاريخ الأدبي المصري الحديث كاتبًا بمثل غزارته وتنوع ممارساته الإبداعية بين الرواية والمسرح والمقال الصحفي والنقد الإذاعي وكتابة البورتريه وتحقيق الكتب .. خيري شلبي، الشخصية الدرامية التي انغمست في شرايين المجتمع المصري منذ أن كان بائعًا سريحًا إلي أن أصبح واحدًا من أهم وأشهر كتاب الرواية العربية.. خيري شلبي الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم من العام الماضي عن أكثر من سبعين عامًا وأكثر من سبعين عملاً إبداعيًا .. هذا ال "خيري شلبي" الكبير، لم يجد أحدًا بانتظاره في ذكراه الأولي سوي ورشة الزيتون وعدد من أصدقائه وأصدقاء الشاعر شعبان يوسف !