كتبت في مثل هذه الأيام، من ثلاث سنوات، أنني رأيت فيما يري النائم أنني أقترب فرحًا جذلان من الحضرة النبوية الشريفة، أحمل بشارة أننا نحتفل هذه الأيام بالمولد النبوي، نقيم السرادقات، ونعقد الاحتفالات، ونصنع الحلوي وأشكالها وعرائسها تعبيرًا عن إجلالنا للذكري وصاحبها، ولكني فوجئت فيما يري النائم بعدم الرضا بما نقيم ونعقد، ونزف ونفرح .. لماذا ؟!. جاءني هاتف المنام أن الاحتفال بمولد النبي يكون بإحياء سُنته، قلت لنفسي: وهل نحن قصرنا في إحياء السُّنة النبوية ؟! نحن نطبع الأسفار التي جُمعت فيها، وندرسها ونتدارسها، ونجتهد في الشروح والتفاسير، ونقيم جمعيات السُّنة وجمعيات العشيرة المحمدية وجمعيات آل البيت وجمعيات الأشراف المنَسبين إلي شجرة النبوة . أجابني الهاتف بأن إحياء السُّنة يكون أساسًا في قلب المؤمن، في فكره وسلوكه وعمله، في اقتدائه وتأسِّيه بسنّة نبيه .. في عبادته، في تطامنه إلي ربه وتواضعه .. في إيثاره وفي شمائله وخُلُقه الذي به أدَّبه ربه فأحسن تأديبه .. فيما نقله إلينا وسنَّتهُ والتزمه من وحي ربه، وتركه لنا هديًا نسير عليه، وقال لنا : » تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا أبدًا : كتاب الله وسنّتي »، وأوصانا بذلك الله عز وجل، فقال: »لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ». طفق الهاتف يذكِّرني بأنه عليه الصلاة والسلام أوصانا بالمحبة وبأنها أساس الإيمان، وبأنه لا إيمان بلا محبة: »لا تؤمنوا حتي تحابوا. ألا أدلكم علي شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم »، وتعددت وصاياه بمفاتيح هذه المحبة، ولكننا تركنا المحبة، وأعطيناها ظهورنا، وزَرَعْنَا الكراهية وأفشيناها، وتركنا السلام وطفقنا نروّع الناس، ونتفنن في الإرهاب والإهلاك، ولا نبالي بسنّته ولا بما أمَرنا به الذكر الحكيم الذي نقله إلينا. طفق الهاتف يذكِّرني بسّنته عليه السلام في الرحمة والتراحم وفي حرمة الدماء، وكيف نقل إلينا ما استنه القرآن من قدسية الروح، حتي في الطير والحيوان، وأنه ليس من الإسلام قتل النفس التي حرم الله، وأن أول ما يُقضي فيه بين الناس يوم القيامة في الدماء، وينبهنا إلي أن زوال الدنيا أهون علي الله من قتل نفس بغير حق. ولكن ها قد ظهر من يقتلون ويذبحون ويسفكون الدماء، ويذبحون الناس بأسوأ مما تُذْبح بهائم الأنعام، ناسبين أنفسهم وعملهم الضال إلي الإسلام!
تساءلت فيما يري النائم، هل هذا من واجب الناس أم من واجب الحكومات؟! ولكن الهاتف ردَّ عليَّ بأن الحكام منا، والتقصير مشترك بيننا وبينهم، وأضاف أن الشيء بالشيء يذكر.. فقد حذرنا عليه الصلاة والسلام في سنّته من السلطة وحب السلطة، حتي قال لأحد صحابته عن الولاية: »إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلاَّ لمن أخذ بحقها وأدي الذي عليه فيها» .. وقال لمن سأله إمارة: » لا تطلبوا الإمارة، فإنك إن أُعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها، وإن أُعطيتها من مسألة وكلت بها » .. وأضاف الهاتف يذكِّرني بأننا عشقنا السلطة عشقًا مريضًا، وأهرقنا في سبيلها الدماء، حتي قتل الابن أباه، والأب ابنه، والأخ أخاه سعيًا إلي هذه السلطة التي كلف بها الناس علي خلاف ما أوصانا به عليه السلام في سنّته.. فكيف انفتح هذا الباب علي مصراعيه فور أن انتقل نبينا إلي الرفيق الأعلي ؟!
لم يدعني الهاتف إلاَّ وذكَّرني بوصية القرآن المجيد لنا : » وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَيَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » ( آل عمران103 )، وكيف أن سنّة النبي عليه السلام أكدت كثيرًا علي هذا المعني، وأزالت من أمامه الحواجز، فذكّرتنا بأننا كلنا لآدم، وآدم من تراب، وأن الله تعالي قد خلقنا من نفس واحدة، وجعلنا شعوبًا وقبائل لنتعارف وأن أكرمنا عند الله أتقانا، وحثتنا ألاّ نتقاطع أونتدابر أونتحاسد، وأن الجماعة رحمة والفرقة عذاب وأن من شَذَّ شَذَّ في النار، وأن الإسلام واحد، ولكن ما كاد عليه الصلاة والسلام يفارقنا حتي اندفعنا إلي الفرقة وإلي الخلافات التي لا حصر لها، بين فرقٍ وأحزاب ادعت الانتساب للإسلام، فخرج خوارج عن أهل السنة والشيعة، وظهرت فرق الجبرية والجهمية والقدرية، والمشبهة والمرجئة، وغيرها .. وإذا بالإسلام الذي أخبرنا نبينا أنه واحد، يتعدد شيعًا وعراكًا في مفاهيم هؤلاء، وإذا بالوحدة تتبعثر، وإذا بالفرقة تشيع، وإذا بذلك يختلط بحب السلطة أويتواري وراءها، فيتجذّر الخلاف، وتمضي السنون فإذا بجماعات ما أنزل الله بها من سلطان، تتواري كذبًا بالإسلام، وتعتنق الإرهاب والإهلاك وسفك الدماء، وتتخذ مسمّيات مختلفة لمواراة أغراضها، وكلها ضد الإسلام والمسلمين، يكبّرون وهم يقتلون الناس ويذبحونهم ذبح الشاة .. يقول لهم ربهم ونبيهم » ولذكر الله أكبر » فإذا بهم يذكرون اسم الله ويكبرون ويهللون وهم يسفكون دماء البشر، ويشوهون الإسلام وسيرة النبي الذي أرسله ربه رحمةً للعالمين، بينما المسلمون الأسوياء يتفرجون، دون أن يقاوموا هذه الآثام أويجففوا ينابيع هذا الضلال الذي جعل يضرب في صلب الإسلام، ويشوِّه وجهه الصبوح، وقيمه النبيلة !
عاجلني الهاتف بأننا في هذا الابتعاد عن الإسلام وعن سنّة نبينا الذي نحتفل بمولده دون أن نلتزم سنّته، قد خالفنا ما علَّمَنا إياه، أن الإسلام دين حياة، لا يحتقر الحياة ولا يزدريها، وأن غايته عمار هذه الحياة لا هدمها وبث الموت والدمار والخراب فيها .. وبشرنا بأن من نصب شجرة وصبر علي حفظها والقيام عليها كان له صَدَقة علي كل شيء يُصاب من ثمرها، وكيف حدَّثنا بالنعم، وبوجوب السعي في مناكب الأرض، وبفضيلة الزرع والإنبات لإثراء هذه النعم وإثراء الحياة، وكيف أن الدين الذي هدانا إليه دين سلام ومحبة، وأنه لم ينزل لبث العداوة والكراهية، ولا لِبث الدمار والخراب، وإنما لإيمان وهداية الناس، وعمار الحياة . شعرت بالخجل، أننا بالفعل تركنا هذه السنّة القويمة الواضحة، وتركنا من يخرج عن هذه السنّة من بيننا، أومن المنتسبين كذبًا إلي ديننا .. وأن حالنا أمام العالم قد صار اليوم مشوهًا، يحسب كثيرون أننا علي دين دستوره العنف والإرهاب، والقتل والذبح وسفك الدماء، والتدمير والإهلاك والخراب !! ولم يمهلني الهاتف فأضاف عاتبًا في مرارة، ألم تعرفوا أن من سنّته عليه الصلاة والسلام البرّ والنجدة، فماذا فعلتم لبرّ ونجدة فقراء المسلمين الذين يموتون جوعًا، وماذا صنعتم لنجدة ومساعدة من يُقتل من المسلمين في بورما والفيليبين وأفريقيا الوسطي وغيرها من البلدان التي جارت عليهم وتنتهك حرماتهم وتصادر حيواتهم وتنكل بهم، بينما فيكم أثرياء لديهم من الثروات ما لا يمكن إحصاؤه ؟! ألم تعرفوا أن من سنته عليه الصلاة والسلام ألاّ يبيت مسلم وجاره جوعان، هل جبرتم جوع وظمأ بؤساء يعيشون بينكم ويموتون جوعًا وظمأً .. أليس أجدي إحياءً لسنته أن تنفقوا أموال » حلاوة المولد » علي إطعام هذه الأفواه الجائعة ؟! هل غاب عنكم أن هذا هوالإحياء الحقيقي لسنّة نبي البرّ والرحمة الذي كان للبشرية رحمة مهداة ؟! ألزمتني الحجة وألجمتني، فالوفاض قد فرغ ولم يعد به أعذار، ولأن واجب الإنصاف يقتضيني الإقرار بأننا فرطنا في إحياء سنّة النبي، وأنه كان أجدر بنا بدل الاحتفالات والمهرجانات وحلاوة المولد، أن نحيي سّنته في قلوبنا وفي حنايانا وضمائرنا، وأن نهتدي بها ونلتزمها في سلوكنا وأعمالنا . انتفضت من المنام حسيرًا، باكيًا علي حالنا وما فرطنا فيه، آس علي تقصيرنا في حق الدين الذي هدانا الله تعالي إليه، وخجلاً من المظاهر التي شدت فرحتنا بعيدًا عن » جوهر » جلال النبوة ومولد الرسول، وعن »المعني » الذي يجب أن نحييه في قلوبنا وفي ضمائرنا وأعمالنا، خرجت من المنام ولسان حالي يعتذر إلي النبي المصطفي عليه الصلاة السلام: عفوًا يا رسول الله .