تجمع كتابة زهرة يسري – في ديوانها قاموس شخصي الصادر عن دار الأدهم بالقاهرة 2018 – بين تشكيل خصوصية الذات، ووعيها الأنثوي بإيماءات العالم الداخلي، واليومي، والكوني، والحلمي من جهة، ولعب الدوال الفنية، والعلامات التأويلية التي تؤجل اكتمال بنية الخصوصية في السياق السيميائي النصي، وجمالياته الاستعارية، وتداخلاته مع الفنون الأخري، ومدي امتزاج علاماته باليومي، والذاتي من جهة أخري. إننا أمام ديوان شعري يبحث عن تجديد الخطاب الطليعي الشعري حين تمتزج فيه الصور الحلمية السوريالية بالنزوع إلي تفكيك المركز فيما بعد الحداثية، أو حين يكشف عن التناقض النيتشوي بين البهجة، والغياب في حالات التعاطف الكوني، أو تأويل الإيروس من داخل الغياب، أو الموت من داخل البهجة المحتملة؛ ومن ثم فكتابة زهرة يسري تستعير مدلول الهوية الذاتية بمدلوله الحداثي في سياق المحاكاة الساخرة ما بعد الحداثية؛ فالديوان حلقة تضيف لمشروعها الطليعي التسعيني الذي يلتقط شاعرية الذاتي، واليومي في سياق حلمي يجدد مدلول الكينونة في نزوعها لاستنزاف البني المستقرة، والبحث عن التأويل السيميائي المكمل للذات، أو المؤجل لها طبقا لتعبير ديريدا في العلامات الجمالية المستمدة من السينما، والموسيقي، والتشكيل، وأخيلة اليقظة، ومدلول الأطياف التي قد تؤول الحضور الفيزيقي نفسه، أو تفككه. وتشير عتبة العنوان / قاموس شخصي إلي تأكيد الخصوصية، والهوية الشعرية الأنثوية، وإن كانت النصوص تستنزف مركزية هذه الخصوصية في احتمالية لغة النص الشعري، وتداخل الذات، والآخر، أو الذات والعناصر الحلمية الكونية، أو العوالم الجمالية الفاعلة التي تخرج عن أطر العمل الفني المكتمل؛ وهي تذكرنا بمدلول الحدوث الذي وضعه إيهاب حسن كمفهوم أدائي ما بعد حداثي يقابل العمل الفني المؤطر في الحداثية، كما تعزز من خروج الفن عن الإطار في خطاب فاتيمو في كتابه نهاية الحداثة؛ ومن ثم فالذات تبحث عن حضورها الطيفي المؤول في النسق الجمالي السيميائي المحتمل في نصوص الديوان، وتعيد تمثيل الهوية في السخرية من المركز، ولعب الدوال الذي يمنح النص الشعري حضورا فنيا واسعا مستمدا من إيماءات الكاميرا، واللون، وموسيقي اليومي، والذاتي / الطيفي الذي يفكك صلابة الدوال الفيزيقية؛ مثل الحوائط في الديوان. اتساع الدوال الجمالية، وإكمال الفني لليومي في الخطاب الشعري: تتسع الدوال الجمالية في ديوان قاموس شخصي لزهرة يسري؛ إذ ينتقل خطاب الذات المتكلمة من الجمالي إلي اليومي، ثم إلي الفضاء التصويري الذي يبدو فيه الواقع جماليا عبر وسيط / المكمل طبقا لتعبير دريدا؛ إذ تتجلي دوال السينما، والموسيقي في سياق الإكمال الجمالي للمشهد اليومي؛ فهي تعيد اكتشاف تشبيهات اليومي، وتمارس نوعا من الإغواء الجمالي ما بعد الحداثي حين تخرج الدوال الفنية عن أطرها الأولي، وتكمل شعرية المشهد الواقعي، والعالم الداخلي للذات معا. تقول في نص فيلم: »يؤدي الممثل دوره بشكل مقنع، وأنا أؤدي جيدا دور المتفرج / أشد الستائر، وأترك يدي تسترخي في حياة أخري كاملة الأركان / حياة أقل خطأ فيها يفسد المشهد / في الحياة الحقيقية لسنا مقنعين بدرجة كافية / لأن تفاصيل الحياة ليست مقنعة / لأن الكرة الأرضية تبدو أجمل في عين رجل الفضاء / لأن صعود السلالم في الظلام ينقصه بعض الموسيقي / لأن الليل يحك أنفي بأغنية قديمة». ص5. تفكك الذات المتكلمة بنية موقعها الأول كمتفرجة أمام الممثل؛ إذ تنتقل إلي الفعل الجمالي بمدلوله الواسع حين تستنزف عبث الأفعال المكررة اليومية عبر تداخلها مع المنظور الجمالي للدوال التمثيلية السينمائية، والموسيقية، والغنائية، والكونية؛ وكأن معايشة اليومي تختلط بالأداء التمثيلي المحتمل، والمكمل للفن، والواقع معا. ويتشكل الجمالي / المكمل – في الخطاب الشعري – حين تقر الذات بأن تفاصيل الحياة ليست مقنعة؛ فهي تؤجل بنية الواقع، وتؤجل دورها الأول كمتفرجة؛ إذ تتجلي الأرض من منظور الكاميرا، ويبدو فعل صعود السلم الرتيب أدائيا، وممزوجا بالموسيقي، ويختلط الهواء بالأغنية، وإعادة اكتشاف الجسد في حالة مغايرة من الأداء التمثيلي الذي يجمع بين الجمالي، والحقيقي في آن. وتستخدم الشاعرة منطق السببية في سياق فني جمالي، يعيد اكتشاف المسلمات، والأفعال المتكررة من منظور إبداعي استعاري داخلي؛ فقضية الليل الذي يحك الأنف بأغنية، تبرر وظيفة الإكمال الجمالي الواسع للواقع، وتنبع من العالم الداخلي / الذاتي للمتكلمة في آن. التأويل السيميائي للذات، والعالم: تعيد الذات المتكلمة إنتاج حضورها الشعري الآخر في لعب الدوال التفسيرية المستمدة من الأنساق السيميائية الفنية الواسعة في كتابة زهرة يسري؛ إذ نعاين حضورا استعاريا علاماتيا للأشياء؛ كالوردة، وقد يبدو العالم مؤولا باللون البنفسجي في مسافة تأويلية بين الداخل، والخارج، وقد تبدو الذات كمجال طيفي في فضاء الآخر؛ إنها تنقل بنية الحضور في نسق تفسيري علاماتي في صيرورة الكتابة الإبداعية، وتؤكد ثراء الهوية في جمالياتها التفسيرية، وفي الاستبدالات المحتملة للدوال طبقا لتصور دريدا؛ فالصوت المتكلم – في النص – يسائل بنيته، وتاريخه من داخل التجدد الجمالي الفني للأثر، وتحولاته المحتملة. تؤول الذات حضورها الآخر من داخل علامة الوردة؛ بما تحمله من تناقض إبداعي نيتشوي ما بعد حداثي؛ إذ تومئ إلي البهجة، والتفكك في آن؛ تقول: »تأكد أن الوردة تبتسم / أن لونها أحمر قاني / أوراقها خضراء، وأشواكها حاضرة / قربها من وجهي وقارن / ثم أخبرني من يغريك أكثر بالكتابة». ص 6. ثمة تشكيل سيميائي نيتشوي محول للدم، للزهرة، لوجه المتكلمة، واستبدالات الكتابة الممكنة؛ فالوردة مصدر للبهجة، ولإدراك صورة الدم العميقة في العلامة، وفي الأشواك؛ الوردة تأويل إبداعي متناقض للكينونة الأنثوية، واستبدالاتها في وعي الآخر، وكتابته المحتملة. وقد ربط دريدا في دراستة / نواقيس التي كتبها عن جان جينيه، بين علامة الزهرة، واحتمالات التفكك، والغياب في بنيتها طبقا لقراءة جينيه؛ إذ يري أن جينيه قد بدأ بتفكيك أزهار البلاغة، أو الشعرية، وقد تعرضت – عنده – للمحاكاة الساخرة، والتغيير، والتنقيل، وأصبحت أشبه ما تكون بالأكاليل الجنائزية التي يرمي بها فوق جدران المقابر. (راجع، دريدا، الكتابة والاختلاف، ترجمة: كاظم جهاد، مراجعة: محمد علال سيناصر، دار توبقال بالدار البيضاء، ط2، سنة 2000، ص 182، 183). لقد أعاد دريدا قراءة علامة الزهرة عند جينيه انطلاقا من تفككها الذاتي كجزء ينمو، ويشير للتعالي في الوقت نفسه في الدراسة نفسها. إن تعرض الزهرة للتبديل، والمحاكاة الساخرة في قراءة دريدا لجينيه، تؤكد بنية الغياب ضمن الحضور المتعالي المؤجل نفسه في بنية الزهرة؛ أما علامة الوردة عند زهرة يسري فكانت بديلا استعاريا للكينونة؛ للعالم الداخلي للمتكلمة، ولأثرها الجمالي المحتمل في الآخر؛ فخطاب زهرة يسري الشعري يحتفي ببعث التناقض الإبداعي بين البهجة، وسيولة الدم في كتابة الآخر المحتملة، وفي التأويل السيميائي الجمالي للذات. وقد تشكل سيمياء اللون منظورا تأويليا استعاريا للوجود في وعي المتكلمة عبر أخيلة اليقظة، وطاقة الأنيما / التأملات الأنثوية الشاردة التي عرض لها باشلار في شاعرية أحلام اليقظة؛ فالمتكلمة تعيد تشكيل لحظة الحضور من داخل الأثر الجمالي للون البنفسجي، والتي تتعارض مع المستقبل الذي يبدو بلا لون؛ تقول: »للألوان منطق لم تحظ به الألفاظ / لكن المستقبل كلمة بلا لون / اشتقاق لغوي يحتاج إلي تعريف / أغمض عيني فأحلم أني أسبح في بحر بنفسجي / تنتظرني علي الشاطئ الآخر / عصافير بباقة بنفسجية / أقول شيئا / فيخرج صوتي بنفسجيا». ص 33. تعيد المتكلمة تشكيل كينونتها الأنثوية عبر انتشار علامة اللون البنفسجي بين الوعي، واللاوعي، والعناصر الكونية، والصوت الداخلي في آن؛ فالشعرية الأنثوية تتشكل فيما وراء اللغة / الطاقة الإبداعية للون، وصيرورته التي تشكل خصوصية المتكلمة / صوتها الداخلي، والعالم كما يتجلي في منظورها الإدراكي، وتأملاتها التي تنبع من حلم اليقظة، ومن نموذج الفضاء الكوني الفسيح في اللاوعي. ويشير الفنان فاسيلي كاندنسكي في كتابه عن المكون الروحي في الفن إلي أن اللون البنفسجي يمثل مزيجا من الأحمر الدافئ، والأزرق البارد بالمعني المادي، والروحي؛ ومن ثم فهو أحمر بارد، هادئ، وحزين، ومؤلم، وفيه نوع من الاضطراب، ويتصل – في مدلوله الثقافي – بالحداد في الصين، ويشبه صوت البوق الإنجليزي، والآلات الخشبية في مستواها العميق. يمزج كاندنسكي– إذا – بين الأثر الجمالي للون، وتجليه الذاتي في العالم الداخلي، وفي اتصاله بالموسيقي، وبالممارسات الثقافية؛ وكأن التشكيل لا ينفصل عن إيماءات الصوت الموسيقي، أو الداخلي، أو الكوني. وإن تشكيل البنفسجي التأويلي لخصوصية صوت الأنثي، وكينونتها في نص زهرة يسري، يوحي بانحياز تأملات الأنيما للاتساع الكوني في مستواه الموسيقي الهادئ، والعميق، في بهجة اتصال الصوت بالفضاء الكوني الممزوجة بالألم، والغياب المحتمل؛ فالصوت البنفسجي يشير إلي الأثر، وإلي استشراف الغياب، أو التحول باتجاه الموسيقي الكونية التي تؤكد الأمل، وتستنزفه في آن؛ البنفسجي يشكل الكينونة، بينما يعبر الشخصي، ويستنزفه باتجاه اللاشخصي كما هو في تصور إيهاب حسن؛ فالذات تشكل لحظة الحضور من داخل التأويل السيميائي الجمالي لعمق البنفسجي؛ كي تتجاوز حياد اللون في المستقبل؛ إنها تستشرف الوجود المحتمل كبديل عن استلاب دلالة اللون في المستقبل. وقد تتجلي حالة القلق من منظور إدراكي تفسيري يقوم علي جماليات التشيؤ في نص قلق؛ فعلامة الأرق تبدو كجثة لصوت قد ينبعث في المستقبل؛ وكأنه يستنزف بنية الحضور نفسها، أو يحاكيها محاكاة ساخرة؛ فهو جثة للصوت، أو حياة مضادة محتملة لكينونته؛ إنه الآخر الذي ينبع من الذات، ومن حضورها الشيئي التفسيري المحتمل؛ تقول: »لا طاقة لك به / أرتبه علي سريرك / عليك أن تعتني به / كجثة صوت تحاول أن تعيد له الحياة». ص 14. يبدو الأرق كآخر تمثيلي ضمن فضاء الذات الواسع، والملتبس بأشيائها الصغيرة؛ إنه يستنزف الصوت، ويحاكيه بينما يخرج من داخله، ويكشف عن الملمح الشيئي المؤول للأرق الذاتي، ورعب التفكك. الحضور الطيفي: تفكك المتكلمة حالة التعاطف الفيزيقي الكوني بين الذات، والعالم عبر فكرة التحول لظل، أو لطيف يتجاوز الحدود، وينفذ عبر الآخر، أو الأشياء؛ مثل الحوائط؛ إذ يمتلك الشبح حضورا شعريا ظاهراتيا في الوعي، ويستبدل التعارض بين الأنا، والآخر من جهة، والانفصال عن الأشياء، والعناصر الكونية من جهة أخري، كما يستمد حضوره من نماذج الحكايات القديمة، والأخيلة، والأساطير، وعوالم اللاوعي؛ إنه تأويل استعاري للذات، يجمع بين الإحساس بالكينونة، وحالة الاختفاء الملتبسة بحضور ملتبس بالتشبيه كما في تصور بودريار؛ فالذات تستنزف حدودها الخاصة، ووحدتها، وحدود الآخر أيضا. تقول: »اقتربت / لأختبر قدرتي علي الالتصاق / بعد سنوات الوحدة / أنفذ عبر الآخرين مثل شبح». ص 11. لقد استبدلت حدود الذات في حالة الوحدة بالحضور الطيفي التمثيلي الذي يحمل آثار الماضي، ونماذجه، وأخيلته، ويتداخل مع الآخر، ومع الأشياء، والعناصر الكونية في آن؛ فهو حضور ملتبس بالأداء التمثيلي المتجاوز للذات من داخل خصوصيتها. الصور السوريالية، وتجاوز مركزية الخطاب الشعري: تعاين المتكلمة الصور الحلمية السوريالية في حالة من الصيرورة، ولعب الدوال، والعلامات المتجاوزة للمركز؛ فالذات تصير مجالا كونيا للصخب المحتمل، والصفاء المحتمل معا؛ الذات مجال للتحولات، وللتشكلات اللدنة التي تذكرنا بعوالم دالي، وتكويناته، والعلامات الحلمية تكثف صخب الواقع، وتسخر من مركزيته أيضا، مثلما تسخر من فضاء الذات الفارغ / الأبيض الذي يصير معبرا إبداعيا لاستبدالات العلامة في نشوئها، وتجددها، وصخبها. تقول: »الصفحة بيضاء / بالقرب منها تترقب أذني التي تشبه قارات تتدلي علي رقبتي كأقراط مستحيلة / تخرج منها طائرات، آلات حفر، ديدان الأرض، الكائنات المنسية، اللغات الميتة، اللغات الحية، واللغات التي تحتضر/ الأبيض / أصبح يتوق للون آخر». ص 30. الأبيض يستنزف الفراغ، ويصير مجالا ذاتيا سرديا لصيرورة علامات الحلم، وصخبها، وتكثيفها للواقع، والسخرية من مركزيته، أو انفصاله عن مجال اللاوعي الفسيح، واستبدالاته التي تشبه الكتابة الأولي.