«الفنية للحج»: السعودية تتخذ إجراءات مشددة ضد أصحاب التأشيرات غير النظامية    أبو الغيط: لا بد من لجم جماح العدوان الإسرائيلي بشكل فورى    عمرو أديب يكشف حقيقة تمرد إمام عاشور على حسام حسن (فيديو)    "شاومينج " ينتصر على حكومة السيسي بتسريب أسئلة التربية الوطنية والدين مع انطلاق ماراثون الثانوية العامة    iOS 18 .. تعرف على قائمة موديلات أيفون المتوافقة مع التحديث    تزاحم الجمهور على خالد النبوى فى العرض الخاص لفيلم أهل الكهف    مندوبة بريطانيا بمجلس الأمن: نحن فى أشد الحاجة لتلبية الحاجات الإنسانية لغزة    محافظ الغربية يتابع أعمال تأهيل ورصف طريق كفور بلشاي    نصائح يجب اتباعها مع الجزار قبل ذبح الأضحية    التضامن توضح حقيقة صرف معاش تكافل وكرامة قبل عيد الأضحى 2024    سهرة خاصة مع عمر خيرت في «احتفالية المصري اليوم» بمناسبة الذكرى العشرين    دبلوماسي روسي: تفاقم الوضع في شبه الجزيرة الكورية بسبب واشنطن    «القاهرة الإخبارية»: سرعة الموافقة على مقترح وقف إطلاق النار أبرز مطالب بلينكن من نتنياهو    وزير خارجية الأردن يشدد على ضرورة الوقف الفوري للحرب على غزة    ملخص وأهداف مباراة أوغندا ضد الجزائر وريمونتادا محاربى الصحراء.. فيديو    متحدث «الشباب والرياضة»: سلوك معلم الجيولوجيا مخالف لتوجه وزارة التربية التعليم    متحدث "الرياضة": سلوك معلم الجيولوجيا مخالف لتوجه وزارة التربية التعليم    سيف زاهر: مصطفى فتحي كان بديلًا لمحمد صلاح ولكن!    تضامن الدقهلية تختتم المرحلة الثانية لتدريب "مودة" للشباب المقبلين على الزواج    "فضل يوم عرفة" أمسية دينية بأوقاف مطروح    افتتاح مدرسة ماونتن فيو الدولية للتكنولوجيا التطبيقية "IATS"    إبراهيم عيسى: تشكيل الحكومة الجديدة توحي بأنها ستكون "توأم" الحكومة المستقيلة    سعر الذهب اليوم الإثنين.. عيار 21 يسجل 3110 جنيهات    محمد لطفي يروج لشخصية الشربيني في فيلم ولاد رزق 3    قصواء الخلالي: الصحافة الفلسطينية قدمت 145 شهيدا حتى الآن    غدا.. "ليتنا لا ننسى" على مسرح مركز الإبداع الفني    هل يجوز الأضحية بالدجاج والبط؟.. محمد أبو هاشم يجيب (فيديو)    «الإفتاء» توضح حكم صيام اليوم العاشر من ذي الحجة    الأفضل للأضحية الغنم أم الإبل..الإفتاء المصرية تحسم الجدل    وزير الصحة: برنامج الزمالة المصرية يقوم بتخريج 3 آلاف طبيب سنويا    عادة خاطئة قد تصيب طلاب الثانوية العامة بأزمة خطيرة في القلب أثناء الامتحانات    تفاصيل قافلة لجامعة القاهرة في الصف تقدم العلاج والخدمات الطبية مجانا    لفقدان الوزن- تناول الليمون بهذه الطرق    لميس الحديدي تكشف عن سبب إخفائها خبر إصابتها بالسرطان    محمد ممدوح يروج لدوره في فيلم ولاد رزق 3    ميدفيديف يطالب شولتس وماكرون بالاستقالة بعد نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي    "وطني الوحيد".. جريدة المصري اليوم تكرم الكاتب مجدي الجلاد رئيس تحريرها الأسبق    «المصريين الأحرار» يُشارك احتفالات الكنيسة بعيد الأنبا أبرآم بحضور البابا تواضروس    رشا كمال عن حكم صلاة المرأة العيد بالمساجد والساحات: يجوز والأولى بالمنزل    مصر تتربع على عرش جدول ميداليات البطولة الأفريقية للسلاح للكبار    ختام الموسم الثاني من مبادرة «طبلية مصر» بالمتحف القومي للحضارة المصرية    موعد محاكمة ميكانيكي متهم بقتل ابن لاعب سابق شهير بالزمالك    جامعة أسيوط تطلق فعاليات ندوة "الهجرة غير الشرعية: أضرارها وأساليب مكافحتها"    الرئيس الأوكراني يكشف حقيقة استيلاء روسيا على بلدة ريجيفكا    سفر آخر أفواج حُجاج النقابة العامة للمهندسين    ليونيل ميسي يشارك في فوز الأرجنتين على الإكوادور    "بايونيرز للتنمية" تحقق أرباح 1.17 مليار جنيه خلال الربع الأول من العام    وزارة الأوقاف: أحكام وصيغ التكبير في عيد الأضحى    مستشفيات جامعة أسوان يعلن خطة الاستعداد لاستقبال عيد الأضحى    تشكيل الحكومة الجديد.. 4 نواب في الوزارة الجديدة    أفيجدرو لبيرمان يرفض الانضمام إلى حكومة نتنياهو    مفاجأة مثيرة في تحقيقات سفاح التجمع: مصدر ثقة وينظم حفلات مدرسية    مطلب برلماني بإعداد قانون خاص ينظم آليات استخدام الذكاء الاصطناعي    صندوق مكافحة الإدمان يستعرض نتائج أكبر برنامج لحماية طلاب المدارس من المخدرات    الدرندلي: أي مباراة للمنتخب الفترة المقبلة ستكون مهمة.. وتحفيز حسام حسن قبل مواجهة غينيا بيساو    رئيس منظمة مكافحة المنشطات: رمضان صبحي مهدد بالإيقاف لأربع سنوات حال إثبات مخالفته للقواعد    حالة الطقس المتوقعة غدًا الثلاثاء 11 يونيو 2024| إنفوجراف    عمر جابر يكشف كواليس حديثه مع لاعبي الزمالك قبل نهائي الكونفدرالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أرعي الشياه علي المياه:تحتفي بالتعددية الجمالية

يواصل الشاعر المصري المبدع رفعت سلام في ديوانه »أرعي الشياه علي المياه»‬ الصادر عن دار مومنت اللندنية 2018- مشروعه الشعري التجريبي الذي يقوم علي أصالة التعددية، والاختلاف، وتفكيك بنية النص عبر صيرورة الدوال، والعلامات في تداعيات الكتابة، وإعادة تشكيل بنية الصفحة من خلال الاحتفاء بالتناظر التشكيلي بين أشكال الخطاب، والرسوم، والنص، والنص المصاحب، والهامش، وبعض المربعات، والمستطيلات التي تحوي خطابات شعرية كثيفة، فضلا عن ارتكاز الديوان علي بعض العلامات ذات الدلالات الثقافية المتجددة من حضارة مصر القديمة؛ مثل إيزيس، وأنوبيس، وعين حورس، والجعران، وتحوت، وسوبيك، وغيرها، فضلا عن تشكيلات الوجوه، ومقاطعها التجريدية، أو إيماءات جسد الأنثي المقطعة، أو التي تومئ بالخدر الممثل لقوة الأنيما طبقا لتعبير باشلار، أو الموحية بالرعب أحيانا، أو استدعاء الحكايات الشفهية التراثية، وأساطير الجن القديمة في الخطاب الشعري للأنثي.
ويجدد رفعت سلام التجريب في بنية الصوت الشعري المتكلم عبر وفرة الأصوات الشخصية، والكونية، والأصوات المستمدة من الذاكرة الجمعية، ونماذج اللاوعي الجمعي من جهة، وتداخل مثل هذه الأصوات في بنية الصوت التمثيلي الواحد من جهة أخري؛ فالأصوات القديمة تعود بصورة كثيفة داخل الصوت التمثيلي الاستعاري الواحد؛ وكأنها تستبدله في حركة جمالية ديناميكية صاخبة؛ إننا أمام تحول بهيج، ومؤجل، وجمعي من داخل فرديته في بنية الصوت المتكلم، وأشكاله الخطابية العديدة بين الأنا، والآخر / الآخرين / أصوات الماضي الحضارية المتجددة في سياق نصي تشكيلي ما بعد حداثي، يقوم علي التداعي، ويشبه سيمفونية تحتفي بالتعددية الجمالية، والمحاكاة الساخرة التمثيلية للذات، وتحولاتها الممكنة، والمؤجلة في آن.
وتشير عتبة العنوان / أرعي الشياه علي المياه إلي كل من الصيرورة، والغناء؛ وكأن الذات تتوغل في فعل جمالي تمثيلي يوحي بالتناقض النيتشوي بين بهجة أبولو، وتمزق ديونسيوس، وكذلك تستحضر الذات أصوات الماضي الثقافية العديدة بكثافة في حضورها الجمعي الراهن، وفي تعددية خطابها واتصاله بعوالم اللاوعي، وأصواته التي انبثقت من بنيتي الموت، والحياة معا، دون مركزية.
إنتاجية الخطاب الشعري، وتعدديته:
للخطاب الشعري مواقع نسبية، ولا مركزية في كتابة رفعت سلام؛ فالمتكلم يبدو تمثيليا، أو كونيا، أو يحمل صوتا من الماضي السحيق، أو من عوالم اللاوعي، أو يحمل صوتا أو صوتين متمازجين من الذاكرة الحضارية؛ أما الأنثي فتشير إلي حضورها الغرائزي المتناقض طبقا لنسق فرويد التأويلي لتداخل عريزتي الموت، والحياة، أو تعيد تشكيل وجودها الخاص انطلاقا من تأويلاتها المحتملة، والخيالية لحضورها الزمني الكثيف بين اللحظة الحضارية الراهنة المعقدة، وحكايات الماضي، وأساطيره، وقد يبزغ الخطاب في صوت كوني، أو أصوات عديدة في فضاء الصفحة؛ ومن ثم تتجلي أشكال الخطاب »‬ في ديوان رفعت سلام » بصورة إنتاجية للذات، والعالم في سياق إبداعي مؤجل للنهايات، ولاكتمال الكينونة في آن، وكذلك بصورة تأويلية كثيفة للحظات الحضارية المتباينة، والمتداخلة، والمتفاعلة في فضاء الصفحة التشكيلي النصي من جهة، وفي صيرورة الدوال، وتداعيات الكتابة من جهة أخري.
وبصدد علاقة الخطاب بالوجود، والثقافة، وإنتاجية الرؤي التفسيرية، تري باربارا جونستون في كتابها تحليل الخطاب أن الخطاب يعكس الوجود الإنساني، ويعيد إنتاجه في رؤي العالم؛ فالبشر يحضرون عوالمهم الخاصة عبر التحدث، والكتابة، وإنتاجية النسق السيميائي / العلاماتي، وإن كل شكل من أشكال الخطاب النسبية، يتصل بنماذج اللغة، والثقافة، وقد يقترح نماذج متجددة وطرائق تفسيرية مختلفة للعالم.
(کead, Barbara Johnstone, Discourse Analysis, BLA»‬KWELL PUBLISHING, USA, 2008, p. 50)
ونلاحظ هذا النزوع الإنتاجي للوجود في الخطاب، وتجلياته الشعرية، والتفسيرية في كتابة رفعت سلام، وفي أصوات المتكلم الوفيرة، والمتداخلة في الديوان؛ وهي تتصل بالدوال الثقافية، والنماذج المتجددة من الحضارة المصرية، وقد تتجلي الأيقونة الخاصة بنموذج لإيزيس، أو نوت، أو أنوبيس مثلا لتوحي بأثر الصورة الإبداعي في المتلقي، وفي الموقع النسبي في الكتابة؛ وكأن حضورها كأيقونة »‬في الخطاب الإنتاجي» يختلف عن حضورها كدال لغوي؛ فهي تتجلي بصورة تفاعلية بين النص، والظهور التشكيلي الأول في الذاكرة الجمعية المتجددة في بنية الصوت، وصيرورته.
ويؤكد استخدام رفعت سلام للعلامات اللغوية، والتشكيلية، والنصوص المتناظرة، أو الموضوعة ضمن مربعات، أو المكتوبة بخط بارز مغاير، اتساع مجال الخطاب في اتصاله بالعلامات الجمالية، والصور، واتصال الخطاب بالتفاعل بين هذه الأنظمة المختلفة من النصوص، والعلامات، والأيقونات الثقافية في تداعيات الكتابة.
وقد ينطوي الخطاب الشعري »‬عند رفعت سلام» علي صيرورة سردية شعرية للعلامة أو الصوت، تستنزف النهايات، أو تستشرف الفراغ الإبداعي الإنتاجي فيما يتجاوزها من عوالم جمالية محتملة، وممزوجة بالأثر الصاخب للموت، أو للتمزق المؤجل.
يقول:
»‬هي الوردة الجهنمية .. لا تعرفها أحلام الرومانتيكيين، ولا خبراء الزراعة، أطفو، أو أرفرف حرا من كل شيء، ومن نفسي مبتهجا بالعدم البنفسجي الرخيم». ص 35؛ وقد وضع الشاعر صورة لنوت أعلي يسار الصفحة.
تتجلي الوردة الجهنمية بخط بارز في الخطاب الشعري؛ ومن ثم يؤكد الخطاب التكثيف الجمالي للعلامة التي تختزل صخب العالم، وعنفه، واستنزاف بنية الصخب في فضاءات التجاوز الجمالية في الوقت نفسه؛ الوردة تكثيف للحظات حضارية متباينة، ولتحولها الجمالي المتناقض، والمجرد في لغة الخطاب الاحتمالية، والمؤكدة للبهجة النيتشوية التي تحمل أثر العدم البنفسجي، وتوحي أيقونة نوت »‬في سياق الخطاب» بالتجاوز المستمر للنهايات، أو بدائرية نشوء الذات في فضاءات جمالية متجددة، وتحمل أثر الماضي.
وإن النسق السيميائي في الخطاب يشير إلي امتزاج الغناء باللون، والمدلول الفلسفي للعدم؛ فهو بنفسجي، ورخيم / رقيق؛ وكأن الذات تولد في فضاء جمالي تفاعلي حسي يحمل أثر الموت، والتجدد، والغناء معا؛ فالخطاب يعكس اللحظات الحضارية الكثيفة، وينتج رؤية جمالية حسية روحية، تجمع بين الغناء، والأثر الجمالي للتدمير المؤجل، وتتخذ من نموذج نوت معبرا لولادات بهيجة متكررة، وممزوجة بآثار الانقطاع، أو الصمت المحتملة؛ وهو ما يذكرنا بمزج إيهاب حسن بين غناء أورفيوس، وتمزقه، أو بين الفراغ / الصمت، والغناء في نصوص ما بعد الحداثية، ويضع الشاعر نصا شعريا سرديا كثيفا في مربع في الصفحة التالية، يقول فيه:
»‬كنت عصفورا في أعالي الشجرة، منهمكا في الغناء للسماء الزرقاء؛ حين جاءتني من الوراء الرصاصة القاتلة». ص 36.
ينتقل الشاعر من الصوت المتكلم المتصل بأزمنة سحيقة إلي الصوت التمثيلي الكوني للعصفور، ويكثف التناقض الإبداعي ما بعد الحداثي بين البهجة، والصمت في كثافة المقطع الشعري السردي؛ وكأنه يستشرف فضاء آخر للتجاوز، أو غناء مجردا يشبه امتداد غناء أورفيوس في الوعي، واللاوعي.
انفتاح التكوين الأنثوي الجمالي بين الداخل، والخارج في العلامات الزمكانية:
ينفتح التكوين الأنثوي »‬في الخطاب الشعري» علي نوازع النشوة، والغياب، ويتصل الصوت بصرخات الجوع القديمة المستمدة من اللاوعي، كما يستدعي نوعا من العذاب المرتبط بالعناصر الكونية، وصيرورتها المتجددة في اللحظة الحضارية الراهنة في تعقيدها الزمكاني، وإيماءاتها إلي تناقضات النشوة، والتعاطف الكوني، والتمزق المؤجل في آن؛ يقول:
»‬ما الذي يعيث في؟ يخطفني مني؟ يطيح بي إلي حقول الفول فراشة، أو يمامة تهدل؛ إلي مراعي الشهوات امرأة مباحة متاحة، بلا أبواب، ولا شبابيك، ولا جدران؛ داخلي خارجي، وخارجي داخلي؛ تدخلني أشجار شاهقة، وطيور محلقة، وغيوم طافية، وأمواج من حبهان، يانعة أشجار النسيان، والغيبوبة ... وفي دمي تصهل الخيول ... أنا عطش الأرض منذ بدء الخليقة، جوع الكائنات الهائمة في البراري، والغابات، صرخة اللوعة الأليمة» ص 37، 38.
وكان الشاعر قد وضع أعلي الصفحة صورة لتكوين أنثوي غير مكتمل، أو مجرد.
يوحي الخطاب بالانفتاح الطبيعي الأنثوي علي العناصر الكونية، وتحولاتها الجمالية، ثم يعزز من تجلي الأنثي كمجال للاستبدالات الاستعارية، والأصوات التمثيلية التي تومئ إلي الاتحاد الكوني، والتفكك المؤجل؛ فالأنثي تعاين بهجة النشوء الدائري لجماليات العالم الحسية المتحولة في فضائها الداخلي الخارجي، وتعيد تمثيل لحظات التمزق، والانقطاع، وصرخات الألم القديمة؛ فهي صورة مكثفة تعكس البهجة، والغياب، وتعيد إنتاجهما في صخب العلامة، وانفتاح الجسد الافتراضي علي الصيرورة الكونية، وتأجيل اكتماله أو انقطاعه مثلما أوحت بذلك الصورة المقطعية المصاحبة من الجسد الذي صار مجالا أو نافذة شبحية استبدالية في الرؤية الإنتاجية للعلامة في الخطاب.
لقد صار فضاء الأنثي الداخلي معبرا كونيا لتجليات النشوء، والتعاطف، والغياب، ومجالا تشكيليا لتداخل الفنون؛ فثمة موسيقي صاخبة للنشوة في الصهيل، وللتمزق في صرخات الليل، وتاريخ العطش، ونلمح تشكيلا حسيا استعاريا في أمواج الحبهان، كما يتجلي الصوت الأدائي ما بعد الحداثي حين تنتمي الأنثي لحضورها الجمالي، وللحظات بدء الخليقة في آن.
وقد تتقاطع الجمل الخطابية في الفضاء التشكيلي للصفحة؛ ومن ثم تتفاعل النصوص المستدعاة من التراث الثقافي، والديني باتجاه ما وراء التعارض البنائي بين الأنا، والآخر؛ إذ يفتتح المتكلم بالجملة الخطابية »‬أيها الزمن الحجر» ص 68، ثم يستدعي نصا من الإصحاح الرابع من سفر التكوين في العهد القديم »‬صوت دم أخيك صارخ إلي من الأرض»، وكأنه يؤكد امتداد الصوت في العصور الحضارية المتباينة، بينما يستشرف الخطاب ما وراء الصخب التاريخي الأرضي.
المحاكاة الساخرة لبنية الذات:
يحيلنا نص رفعت سلام إلي تأكيد حضور الذات، ولكن في سياق المحاكاة الساخرة؛ فالصوت المتكلم يتجلي في شخصية البهلوان، أو المغني، أو الراقص، أو الراعي، ويومئ الصوت إلي تجليه في عوالم اللاوعي الفسيحة من جهة، بينما يعاني من سقوط حتمي، ومؤجل في الجحيم الأرضي من جهة أخري؛ وكأنه يفكك بنية الغناء، أو بنية الرقصة الذاتية الكونية في حالة السقوط الوحشي المؤجل في طيفية الذات، وتجاوزها لمركزيات الموت، والحياة باتجاه الصيرورة الإبداعية.
يقول:
»‬أنا السيد البهلوان .. أمشي، أتقافز علي حبال الزمن المشدودة فوق هاوية من تماسيح، وأفاع جائعة إلي جسدي، تشرع أفواهها في انتظار سقطتي المنتظرة، أرقص، وأرفع عقيرتي بالغناء اللعوب، فتشرئب الكائنات ... ثم أقفز قفزة خارقة فلا أهوي، يمسك بي من قدمي الهواء، يؤرجحني، يدليني، فتشهر أنيابها، فيطيح بي في الفضاء؛ ذراعاي جناحان شاسعان من هراء، وذيلي صفير طويل نحيل». ص 61، 62.
لقد ارتكز الخطاب علي تأكيد الذات، ورقصتها الكونية المستمدة من فضاءات اللاوعي في كتابة جملة أنا السيد البهلوان بخط عريض؛ وكأن تأكيد الذات المفرط يقع في حالة تناقض إبداعي ما بعد حداثي مع حالة السقطة المحتملة في الجحيم؛ فالخطاب يعيد إنتاج بنية الذات، وحالتها البهيجة في الفضاء الفسيح في سياق المحاكاة الساخرة الافتراضية التصويرية في الخطاب؛ والتي تجلت في الذراعين الشاسعين من الهراء، أو الذيل الذي يتراوح بين الوجود، والغياب في صفير طويل حلمي يسخر من الحضور الذاتي، ومن بنية الرقصة الكونية في نحوله الطيفي، أو تجليه كأثر، يقبل المحو والغياب؛ وهو ما يذكرنا بمدلول الأثر الذي يدل علي المحو والحضور معا في تصور دريدا.
ويعزز تحول الخطاب من تأكيد الذات إلي تجاوزها من رؤي ليندا هاتشون حول استعادة الماضي في سياق المحاكاة الساخرة؛ إذ يتصل الصوت المتكلم »‬في كتابة رفعت سلام» بأصداء الماضي، وبتجليات الحضور الذاتي، وسقطاته المحتملة، والسخرية من مركزيته في الصيرورة التصويرية / السردية لعلامة الذات نفسها، والتي قد تتصل بصور الكائنات الخرافية ذات الذيل، أو العناصر الكونية.
وقد يستشرف الصوت سلاما كونيا مستمدا من الذاكرة الجمعية حين يستلهم صورة الراعي، أو المغني الذي يواجه السخرية من بنية الغناء نفسها حين يستحيل الناي ثعبانا يلتهم الشياه.
يقول:
فرميت نايي القصب علي سطح المياه؛ فاستحال ثعبانا التهم الشياه شاة شاة، ثم التفت إلي»‬فماذا سترعي الآن أيها اللئيم؟ - سأرعي الملل العظيم، أغرسه أشجارا علي ذري الأمواج». ص 59، 60.
ثمة تحول داخلي من الغناء إلي الصمت العبثي الذي يذكرنا بعوالم بيكيت، ويونسكو، وإدوارد ألبي، ولكن بصورة تمثيلية تصويرية، وكونية - داخلية في آن.
من الراعي؟
هل هو طيف من بان في الثقافة اليونانية؟ أم أنه يحمل صورة أورفيوس المغني، وتمزقه المحتمل؟ أم أنه يستشرف سلاما كونيا من التراث الثقافي؟
إنه يواجه صمته العبثي الخاص، وتمزق الشياه، والناي في زمن آخر، وفي سقطة محتملة أخري تجدد الغناء المعلق.
فاعلية العلامات الثقافية:
تأتي أيقونة إيزيس »‬في خطاب رفعت سلام الشعري» في سياق تأكيد الأنيما أو التأمل الأنثوي المتجاوز لصخب الحروب القديمة؛ وكأنها تنشق بنائيا عن تلك التواريخ في فاعلية جمالية متجددة تتصل بصوت امرأة التواريخ في النص، وقد وضعت أيقونة إيزيس وهي ممسكة بمفتاح الحياة الفرعوني؛ وكأنها تتهيأ »‬نصيا» لاستشراف عالم افتراضي استعاري للتعاطف بين العلامات في تجليها الإبداعي السكوني المؤكد للأنيما.
يقول:
»‬فمتي تنام الجحافل والأسلحة والصراخ بداخلي؟ تعالوا إلي ظلي جميعا؛ بلا سلاح أو عتاد؛ أعددت لكم قهوتي، وخمري، وحكاياي اللاتنتهي، وصوتي الرخيم». ص 29، 30.
وقد وضع الشاعر بالقرب من النص صورة امرأة في حالة من الخدر والتأمل؛ إن اتصال أيقونة إيزيس بالغناء الرخيم، والحكايات اللانهائية، يوحي بصورها الحلمية المتجددة، والعابرة لبنيتها الثقافية الخاصة، واتصالها الممتد بأصوات الديوان، وبوعي، ولا وعي المتكلم، وصيرورة الكتابة الشعرية في استشرافها لواقع تصويري يستنزف كثافة الغياب المتكرر الصاخب في الأزمنة المتباينة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.