يواصل الشاعر المصري المبدع شريف الشافعي الإضافة، والتجديد لمشروعه الشعري عبر استراتيجية تفكيك المركز في صيرورة الكتابة، والاحتفاء باللعب، والاستبدال الجمالي للعلامة وفق تعبير دريدا، وكذلك الارتكاز علي التناقضات النيتشوية في سياق الصور التأويلية للذات، والأنثي، والعلامات المكانية، والكونية. ويؤول الشاعر بنية الصوت المحتملة من خلال التطور السيميائي/ المجازي للنص؛ فالصوت يلج الأثر؛ ليعلن عن حضوره الدائري الممزوج ببلاغة الغياب، أو التحول؛ ومن ثم يؤسس لهوية مجازية قيد التشكل دائما في التمثيلات المحتملة للعلامة؛ فالذات تعانق تشبيهات المكان، والآثار الفنية، وأخيلة الأشياء، وأطيافها، مثلما تبدو العلامات، والظواهر متجاوزة للبني المركزية السابقة التي تشكل مدلولها النسبي، فالأحجار تعيد تشكيل الكينونة، والطريق يبدو كنموذج فني للخلود داخل المتكلم، وخارجه، وعلامات الأثر الجمالي، أو العمل الفني تفكك بنية الواقع خارج الإطار؛ وهو ما يؤكد النزوع التفكيكي ما بعد الحداثي المتجاوز للحدود الأولي، والانفصال بين الذات، والعالم، وتاريخ الفن؛ وكأن الصورة تحيا في مسافة تقع بين الوعي، وتشبيهات لحظة الحضور بمستوياتها العديدة المتداخلة، والمعقدة، والتي تحتمل التناقض الإبداعي الداخلي في بنية العلامة، ومدلولها المحتمل. وتبدو هذه التقنيات، والتيمات الفنية واضحة في ديوان شريف الشافعي المعنون ب "رسائل يحملها الدخان"، صدر عن دار لارماتان بباريس بالعربية والفرنسية، : مني لطيف 2016؛ فالذات تتحد ببلاغة الصور، وتحولاتها، ونزوعها التأويلي في النص إلي أن يتخذ المتكلم موقع الصورة في استبدالات الكتابة؛ فقد يعيد الدخان تشكيل الفضاء، أو البيت، بينما يصير الصوت هو البيت المحمل بدخان مجازي علي هيئة قلب؛ وكأن علامة الدخان قد انتقلت عبر تداعيات الكتابة من بنيتها الظاهرية إلي الموقع الجمالي الفني في النسق السيميائي للنص، ثم التباسها بالصوت نفسه، وبحضوره الداخلي المؤجل، والمتجاوز للحدود. وتوحي عتبة العنوان / "رسائل يحملها الدخان" ببدايات حضور تلك العوالم الجزئية التصويرية المحتملة التي تعيد إنتاج الذات، وتكملها في تداعيات الكتابة؛ فالدخان مثلا يصنع النوافذ، ويعيد تشكيل شفتي الأنثي في لحظة فوتوغرافية تأويلية فريدة، ويؤول كينونة المتكلم في بديل القلب، أو النافذة الطيفية التي تفكك بنية المكان، وتمارس نوعا من إغواء الاتساع الكوني من خلال الحدود الوهمية للصورة. إن تناقضات العلامة تؤكد ثراء الدلالة، وتعددية الصوت، ولحظات الحضور المختلفة في بني الوعي، والظواهر، وتأويلاتها في ديوان شريف الشافعي؛ فالاختلاف الداخلي في الصوت، وتمثيلاته يعزز من الاحتمالات الدلالية، وتفكيك المركز، والتداخل بين الأنا، والآخر، أو الظواهر، والعلامات، والأخيلة المؤولة لكينونتها الأولي. وتري جوليا كريستيفا في "علم النص" أن الحركة الأكثر جذرية للمحتمل الدلالي، تكمن في الجمع بين سيميات متعارضة؛ وهو جمع يكفي لإلحاق المستحيل بالحقيقي؛ مثل ارتباط الموت، والجمود مع مختلفه؛ أي الحياة والحركة؛ فانفصال الضدين غير ممكن؛ إذ يتركب هذان الضدان في مؤتلف يكون محتملا. (راجع، جوليا كريستيفا، علم النص، ت: فريد الزاهي، مراجعة: عبد الجليل ناظم، دار توبقال للنشر بالدار البيضاء، ط2، 1997، ص 51). إن تناقضات العلامة، وتعدديتها عند كريستيفا، تعزز من التداخل، وتجاوز حدود العلامة الشعرية، والتباسها بالدوال المجازية الأخري، والمختلفة في تداعيات النص، واحتمالاته الدلالية التي تفكك البني المستقرة للمعني، والذات، والأشياء. ويلتبس الصوت ذ عند شريف الشافعي ذ بأخيلة الأثر المجازية التي تؤكد الحضور، ولحظة الغياب التي تشير إلي حضور افتراضي مضاعف، يفكك الأول، ويتجاوزه في تناقضات الأثر/ الساق الخشبية؛ ومن هذه التناقضات، نعاين الوفرة التأويلية للذات، والأنثي، والعلامات الكونية التي تتجلي كصور ملتبسة متحولة بين الوعي، والكتابة، والعالم، وتشبيهاته المحتملة. العلامات، والصور في سياق تأويلي نسبي: تمارس الذات المتكلمة ذ في الديوان ذ إغواء الحضور المجازي الآخر في الصورة، أو العلامة الشعرية المتناقضة، أو المتحولة عن بنيتها الأولي؛ ومن ثم يبدو الحضور الآخر حضورا تأويليا مكملا للحظة الكتابة من جهة، ويفكك حالة انفصال الوعي عن صيرورة الأشياء، والصور من جهة أخري. يقول: "في بيتي/ يتخذ الدخان أشكالا كثيرة/ وهو يطير من النافذة/ لكنني لن أطير معه/ إلا حين يبدو هو نفسه مثل نافذة/ في بيتي أنا لست مجرد ساكن/ أنا بيت ذو عيون زجاجية / بداخله دخان/ يتخذ وهو ينبض شكل قلب". ص 24. ثمة تكوين استعاري تأويلي آخر للكينونة، يجمع ذ في تناقضات العلامة ذ بين طيفية الدخان، وتحولاته التصويرية، وآلية العين الزجاجية، وتشبيهاتها الشيئية في النص. إن البيت هو زوال للبني، والحواجز التي ترتبط بمدلوله التقليدي؛ فهو معبر للاتساع الفني/ الكوني. تتحد الذات بمعبر تأويلي تصويري من الدخان، يشير إلي البيت، وتجاوز البيت في آن؛ فالذات الآلية عند شريف الشافعي تستنزف بنيتها الخاصة في تحولات الدخان الداخلية، وطيران البيت خارج جدرانه. وقد تقع علامة الحجر بين الجمود، والحياة الاستعارية، وتصير تمثيلا من تمثيلات الذات في لحظة الكتابة، يقول: "أنظر أحيانا إلي حجر يضحك/ فأتمني لو أنه مرآة". ص 54. الحجر يجمع بين بنيته الخاصة، وأخيلة الوعي، ثم يصير تأويلا للكينونة عبر وسيط المرآة؛ الحجر تأويل سلبي يفكك مسوخ الميدوزا القديمة، ويعيد تشكيل الذات في حياته الطيفية الفنية المحتملة فيما وراء صورته الظاهرة. وتبدو اللعبة داخل المتكلم، وفي حالة الأداء التي تفكك الحضور المركزي؛ فهي تشكل هويته الاستعارية، وصيرورتها التمثيلية كموقع، يقبل الاستبدال، والإكمال دائما طبقا لرؤي دريدا؛ فاللعبة فراغ مملوء بعلامات الفن، وجماليات الواقع التي تتداخل كآخر داخل الصوت في النص. يقول: "بعض اللعب/ حين تسقط من أيدينا/ نحن الذين نتكسر" ص 14. اللعبة تستبدل الذات في لعب الكتابة، وفي حالة الأداء الجمالي خارج المركز، وهي تمثيل مجازي للموت، والغياب الملتبس بولادة حياة افتراضية أخري. وقد تصير الأشياء الصغيرة؛ مثل الساعة مفتتحا تأويليا لحضور الذات بين الواقع، وتناقضات الزمن في العمل الفني؛ وهو ملمح ما بعد حداثي، يتجاوز انفصال التاريخ عن فاعلية العلامة الفنية، وأصوات الماضي، والنماذج الكامنة في اللاوعي الجمعي وفق تعبير يونج. يقول: "ساعة الحائط/ التي سئمت كل شيء/ وتجمد فيها الزمن/ كسمكة ميتة/ أصلحها دوراني المنتظم/ حول المتاعب ذاتها" ص 72. تبدو الساعة كعلامة يومية صغيرة متمردة علي الكينونة المؤقتة المحدودة زمنيا؛ فهي تشير إلي نموذج الخلود بداخل المتكلم، وتؤوله، بينما يبدو في دورانه ممثلا لصورتها السابقة التي تعزز من التكرار، وتنشق عليه في الوقت نفسه. ويعيد المتكلم قراءة الفضاء انطلاقا من مطاردة أصالة الحضور في سياق غياب خفي مصاحب للخرائط، ولموجودات العالم. يقول: "شهية لكل شيء/ ولا شيء أصلا/ كثيرة هي الخرائط/ فأين العالم؟" ص 46. يعاين الصوت وفرة الخرائط، والعلامات، والأماكن في سياق الغياب، أو الحضور الطيفي الآخر في التشبيهات المحتملة طبقا لبودريار؛ فالعالم يغيب في صوره الأخري، والمتكلم يلتبس بالصوت الجمالي للغياب الذي يشبه الخرائط التي تطارد الحضور، وتؤجل مركزيته. الاستبدال في بنية الصوت الشعري: تتحد الذات ببلاغة الأثر، وتمثيلاته المحتملة للصوت في الكتابة؛ فالاتساع الكوني في عوالم اللاوعي، يؤكد التداخل بين المتكلم، وعلامة الشجرة، بينما تشيرالساق الخشبية إلي حياة الصوت الأخري، والغناء المجرد الذي يذكرنا بعودة أورفيوس عقب تقطيعه؛ فالساق الوحيدة في المشهد تستبدل الصوت، وتستعيده في صيرورة الكتابة، وتكتسب حضوره المجازي الآخر في المشهد، وتؤجل اكتماله أيضا. يقول: "يدرك أنه مدين لشجرة/ بساقه الخشبية/ أما قلبه الثمرة/ فهو من هداياك التي لا ترد/ كوني نبيلة حتي النهاية/ واغفري له بعد موته/ أنه لن يبقي منه/ غير ساقه الخشبية". ص 26. الساق تعيد تشكيل المتكلم في وعي الأنثي، مثلما تجلت الأنثي بداخله في تمثيلات الثمرة، وما تحويه من أخيلة الحياة، والخصوبة، والتباس العالم الداخلي للذات بصوت الأنثي، واستبدالاته؛ وكأنها مصدر للغناء المصاحب لأثر الشجرة / الساق المتجاوزة للموت. ويصير الطريق فضاء تشكيليا متخيلا داخل الذات، ويستبدل موقعها، بينما يؤجل الكينونة في مسافة تشبه البوابة المجازية التي تؤدي إلي الخروج باتجاه الاتساع الأول للعالم في اللاوعي، أو باتجاه عالم داخلي عبثي يفكك الغاية في بنية الطريق الأولي. يقول: "هذا دورك/ فسر أنت أيها الطريق/ نحن مزدحمون جدا/ وخالون جدا/ وأنت حينما تعبرنا، / لن تصل إلي شيء، / ولن تعود" ص9. إن المتكلم يبدو كمجال لتنازع قوي لا مركزية تحتفي بتعدد سلبي خارج القيمة، بينما تشكل علامة الطريق كينونة أخري تسعي لتجاوز المؤقتية وفق هيدجر، وتعيد إنتاج الفضاءات السوريالية التي تذكرنا بدالي، بينما تصطدم بالعبث الداخلي، وصراعات المتكلم. الذات باتجاه الفضاءات الجمالية المتداخلة: تتداخل جماليات الفضاءات اليومية، والواقعية مع العوالم الفنية خارج الأطر، والحدود في رؤي ما بعد حداثية تميز كتابة شريف الشافعي، تتجاوز المركز؛ فالفنان قد يموت بفعل الأفيال التي خرجت من لوحته، ويتشكل الموت في سياقين متنازعين بين بهجة صور المهرجين/ المعزين، وتجلي الموت، في بكاء للموت نفسه في سرد شعري نيتشوي، يذكرنا بالمزج بين أبولو وديونسيوس في مولد المأساة عند نيتشه؛ فالموت يشير إلي التمزق، وإلي المحاكاة الساخرة إزاء اكتمال العدم.