عمل للفنانة مي حشمت بعضهم يملك قدرة المحو.. محو نابع من طغيان الحضور.. يحتلون مكانا مميزا في الذاكرة.. هكذا فعلت ميس إيفيت.. تذكرتها ثم نسيت كل من عداها.. وكأنها اختزلت كل مدرسي الرسم في حياتي في صورتها الحاضرة بقوة في الذاكرة. أتذكرها كعروس فرنسية دقيقة التفاصيل.. عطرها النفاذ حين كانت تقترب بأحد الألوان.. بتنورتها القصيرة وحذائها اللامع ذي الكعب الطويل.. وقع خطواتها علي الأرض.. صوتها.. وأظفارها المطلية بعناية.. أتذكرها كعمل فني بديع مسكون بالفن. لا أزال أحتفظ ببعض الرسومات.. كنت أرسم طوال الصيف حتي تبدأ الدراسة رغم أن رسوماتي لم تكن بالقوة التي تتيح لي فرصة مجاورة المعلمة.. أتخيلني أركض لأريها ما فعلت علها تفسح لي مكانا في هذا العالم الساحر حيث طاولة الرسم الممتدة ومجموعة الألوان التي لم أرها سوي هناك.. الألوان الخاصة مثل لون البشرة التي لم أجد مثلها في كل علب الألوان التي اشتراها لي أبي.. قصاصات الورق.. وألوان الطباعة.. ربما لم أكن موهوبة بما يكفي لكنها قرأت شغفي.. وأعطتني فرص توازي محاولاتي حتي تمكنت من إنهاء عمل شاركت فيه بمسابقة عن المرور.. وكان هذا من أعظم حوادث الطفولة. كان مدرس الرسم ساحرا.. فتح أمام طلابه أبواب عوالم الخيال والفن، بعضهم كان من الفنانين العظماء كما ذكر الفنان ياسر منجي والذي قدم كتابة بديعة في محبة أساتذة الرسم من عظماء الفنانين. لكن علي الجانب الآخر البعض لا يتذكر علي الإطلاق مدرس الرسم، بعضهم يحمل صورة ممحوة ليس بفعل وجود آخر ولكن بفعل غياب تام، أتذكر أحد الفنانين الشباب الذي أخبرني وهو يضحك أنه لم يكن هناك مدرس رسم علي الإطلاق في المدرسة، كانت الحصة موجودة نظريا علي الجدول أما المدرس فهو غير موجود، الحصة احتياطي. حين بدأت هذا الملف كنت أبحث عن حكاية مدرس الرسم في وجدان التشكيليين وكيف حفر كل منهم صورته في ذاكرة تلاميذه، لكنني وقبل الوصول للنهاية أدركت أن حكايات مدرس الرسم هي رواية أجيال، إذ تعكس التشابهات في حكايات الأجيال القديمة حضورا مؤثرا، يناقض الغياب والترهل الذي أصاب مناهج الفنون وحصص الرسم وتهميش مهنة مدرس الرسم. ربما كما يقول د.مصطفي الرزاز: هذه ليست قصة مدرس ولكنها سيرة نظام تعليمي محترم ومؤثر وملهم وناظر نبيل، ومعلمين مستنرين أصحاب رسالة. وإذا كان كثير من فناني اليوم من العمالقة هم نتاج اكتشافات مبكرة ودعم فجّر موهبتهم، فإن غياب مدرس الرسم في سنوات التكوين يجيب عن تلك التغيرات المجتمعية ويمنع فرصة اكتشاف مواهب عبقرية جديدة، وعن تشوه الثقافة البصرية والذائقة الجمالية. حكايات يرويها أصحابها ونقدمها لكم في هذا الملف.