شاركت في ورشة عمل عنوانها (مفاهيم ومعاني) وفي هذه الجلسة أو الدائرة المستديرة التي شارك فيها بعض الجنسيات العربية من الدول الشقيقة فوجئنا بالمدرب المكلف بإدارة هذه الورشة وهو شاب يافع يرتدي ملابس بيضاء يدخل القاعة ويكتب علي شاشة العرض (النظافة) هكذا بين قوسين، وتحرك بيننا يحمل حقيبة مليئة بالأوراق القديمة والمناديل التي بدا عليها أنها مستعملة وقذف بها في انحاء القاعة، واقترب مني المدرب، وكنت آخر من في الدائرة وشعرت بارتباك شديد وأنا اختلس من نظراته الحادة وإجابات زملائي والقاعة التي امتلأت عن آخرها بالأوراق والمناديل حتي ضاعت معالمها، أي إشارة أو إجابة، وسألني سيدتي ماذا لديك؟؟ ولاحت لي في لحظة فجأة صورة أمي رحمها الله وأكرم مثواها والتي كنا نطلب منها أنا وأخواتي في كل ليلة أن تشكرنا علي تنظيف حجرة جلوسنا قبل النوم بعد أن نكون قد دمرناها تماما من تسالٍ، ومجلات، وألعاب وهدمنا معالم الحجرة التي ظلت طوال اليوم تعدها لجلوسنا فكانت تقول كلمة واحدة لا تكف عن تكرارها يومياً ولا نكف ولا نتنازل عن طلبنا فكانت تقول لو (أبقيتوها نظيفة) سأشكركم!! ولأننا لم نفهم ولم ندرك ما قالته نغضب أحيانا ونترك الحجرة كما هي ونذهب للنوم وتتولي هي في صمت ومرارة تنظيفها حتي بزوغ فجر اليوم الثاني لتصلي صلاة الفجر وتذهب للنوم لتختلس سويعات بسيطة قبل بداية اليوم الثاني. وسألني المدرب بصوت مرتفع سيدتي هل أنت معنا أم خارج الدائرة؟ قلت معكم سيدي نعم النظافة (أن أبقيه نظيفا) حتي لا أضطر إلي تنظيفه أو الاستعانة بمن يقوم بهذه المهمة. وتوقف المدرب عن تمزيق الأوراق وبسرعة فائقة بدا عليه أنه قد تدرب عليها قام بجمع الأوراق من أرض القاعة وتنظيف المكان في دقائق معدودة وكان يتعمد أن يبدو عليه الإرهاق وإن ملابسه البيضاء قد نالها من التشويه ما نالها، ووقف في منتصف القاعة وقال تم تنظيف المكان فهل أنا (نظيف) الآن؟؟ وكانت الإجابات بصوت واحد عالٍ لا يا سيدي لست نظيفاً فلو أبقيتها نظيفة لكنت نظيفا. لم أجد مدخلا أسهل من هذه البداية للبحث عن المعالم الخفية حول تفاقم موضوع (النظافة) في بلدنا والاتهامات المتبادلة بين المواطن وحكومته، فالحكومة علي حق فهي تسعي جاهدة في تحقيق منظومة متكاملة للحفاظ علي بيئة نظيفة من خلال برنامج وسياسات مستحدثة، وتطالعنا الجرائد والأخبار اليومية علي أنشطة السادة المحافظين أو السيدة وزيرة البيئة في هذا المجال، والمواطن علي حق فهو يلتزم بدفع ضرائبه التي لا نعلم إلي أي طريق تأخذنا إليه وينتظر المقابل المشروع من حكومته. فإذا كانت جهود الوزراء المتعاقبين علي وزارة البيئة والسادة المحافظين السابقين والذين نشهد لهم جميعا بخطواتهم الإيجابية لم تؤت ثمارها فلأننا بالطبع لم نبق شيئا نظيفا، ولأننا لم نفعل فكان تعيين (وظيفة خدمات معاونة) في حكومتنا منذ القدم من بين موظفي الدولة، بل وتزيد أعداد موظفي هذه الخدمة كلما علت وظيفة من يخدمها، تحملنا مرتبات دون مقابل عمل فلا مكاتبنا نظيفة ولا أماكن عملنا نظيفة، ولا شوارعنا نظيفة بعد أن انصرف عامل هذه الخدمات عن مهنته بحثا عن (بوفيه) يجني من ورائه مقابلا ماديا يعينه علي مصاعب الحياة. وتعمقت ثقافتنا منذ نعومة أظافرنا علي عدم مسئوليتنا عن تنظيف ما ندمره أو حتي نعيده إلي وضعه الأصلي أو نبقيه نظيفا، ولم يغب عن فكري ألا يتم تعميق فكرة (الإنسان النظيف) داخل مدارسنا هناك وأن المسئولين عن هذا الملف لن يهدأ لهم بال حتي يتم نشر فكرة أن إبقاء الشيء نظيفا يعني أنك إنسان نظيف ولم أقصد بهذا المقال إهانة لأي مهنة، فكل عمل شريف له جزاؤه وأجره عند الله ولكن قصدت من ذلك بأننا لم نبق أماكنا نظيفة، ولم نحصل حتي علي (خدمة) الخدمات المعاونة فضاعت المعاني والمفاهيم بيننا وصدقنا أنفسنا بعض الوقت وتحمل عامل هذه الخدمة أعباء ومسئوليات لم تكن في مواصفات الوظيفة المتفق عليها فلا تركنا هذه الخدمات المعاونة لمهامها الأصلية ولا حصلنا علي النظافة.