حالة من الحنين للماضي، وعودة لذكريات زاخرة بالفن وعامرة بالإبداع، تفاصيل صور وبقايا أصوات من زمن جميل مرت أمام عيني مثل الشريط السينمائي، وكأنها حدثت بالأمس القريب، عاد مهرجان الإسكندرية برئاسة الناقد الأمير أباظة بعد سنوات غياب إلي المكان الذي احتوي كبار نجوم مصر، وشهد إبداعاتهم وأفكارهم وجلساتهم ونقاشاتهم، لكن لم يعد معه نجوم غادرونا خلال هذه السنوات، بينما ظل طيفهم الجميل يلاحقني، وبقيت أصواتهم المدافعة عن قضايا السينما وهموم الفن تتردد في أعماقي طول أيام وليالي المهرجان، نفس القاعات والشاشات والندوات، وإن اختلفت القضايا والمشاكل التي رصدتها أفلام زخرت بها أقسام المهرجان المختلفة، وعبّرت بصدق وجمال عن هموم وأوجاع الإنسان، ليس في المنطقة العربية فحسب، وإنما في كل دول البحر المتوسط. هل تعرف من هم "أطفال العصافير"، كيف يعيشون وكم ساعة يعملون، وماذا يتحملون من أجل كسب قوت يومهم؟! إنهم الأطفال الذين انتزعت صرخاتهم وأوجاعهم جائزة الفيلم التسجيلي في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط، أولئك الصبية الذين حرمتهم الأقدار من الحياة واللعب مثل أقرانهم، ووضعتهم في ظروف عمل قاسية تفوق طاقة البشر، أطفال لا تتجاوز أعمارهم السنوات التسع، يحملون أطنان »الطفلة» فوق أجسادهم الصغيرة، ويتعرضون لكافة صنوف المخاطر والأضرار الصحية والبيئية، مقابل بضعة جنيهات ودون أدني حقوق إنسانية! استطاعت كاميرا المخرج طارق الزرقاني أن تجسد علي الشاشة معاناة أطفال أرغمتهم ظروف العيش علي ترك المدارس والكتب، ليعملوا لأكثر من 12 ساعة يوميا في مصانع الطوب البدائية بمركز الصف، المورد الرئيسي للطوب الأحمر في كل أنحاء مصر، أطفال وشباب يخرجون من منازلهم في الرابعة فجرا، ويتجمعون أمام مداخل القري، استعدادا لخوض رحلة مضنية محفوفة بالصعاب والمخاطر، ويتم شحنهم فوق سطح سيارة نصف نقل مكدسة بالعمالة التي يستقطبها المقاول أو "الموضب" المسئول عن توريدهم للمصانع. وعلي مدي 24 دقيقة ينقلنا الفيلم إلي عالم من الوجوه البائسة، والعيون الواهنة التي تكشف عن أجساد منهكة، وأرواح مهيضة يائسة، تحلم بإيجاد عمل بديل ينقذها من هذا الشقاء اليومي، والعمل غير الإنساني، لكن الأحلام تظل مجرد سراب وأضغاث أوهام، وتتجسد تلك المرارة علي لسان "محمد" ابن الأعوام العشرة حين يقول:"مافيش حد سعيد بالشغل هنا، لو الجحش اتصاب يأتي الطبيب علي طول، لكن لو النفر منا اتكسر أو اتصاب لا أحد يهتم، وكأنه كلب وراح"!! ويكشف الفيلم عن لجوء المقاولين للأطفال لتوفير العمالة اللازمة في مهنة تطحن البشر، وتفقدهم أجزاء من أجسادهم، ولا يستطيع أن يستمر فيها من تجاوزت أعمارهم خمسة وثلاثين عاما، لذا يلجأ العمال لتعاطي الأقراص المخدرة التي يجلبها المقاول، ويسرد الفيلم علي لسان رئيس النقابة المستقلة لعمال الطوب، كيف يقوم المقاول بوضع شريط "الترامادول" للعمال والأطفال داخل "براد الشاي" حتي يتغلبوا علي أوجاعهم ويبذلون جهدا أكبر، ويعملون بدلا من الساعة 13 ساعة، ويحملون بدلا من الألف 50 ألف طوبة، لأن المخدر يجعلهم فاقدين للوعي والإحساس بالألم، ويُمكّنهم من الحصول علي أكبر قدر من المال خلال اليوم! صوّر الفيلم ببراعة وتلقائية الأطفال وهم ينقلون الطفلة، ويعملون علي "خطوط السير" لنقل الطوب الأخضر، والتي تزن الطوبة الواحدة منه 4 كيلو، وتابع عملهم في جمع "الرايش"، وكذا نقل الطوب بعد حرقه في أفران غاز تبلغ حرارتها 1000 درجة مئوية، وتحميله فوق السيارات ساخنا، عن طريق قطعة خشب يعلقها الصبيان علي الأكتاف، ويحملونها فوق ظهورهم وتسمي "العصفورة". وقبل أن تضاء أنوار قاعة العرض، يخبرنا المخرج في المشهد الأخير، أنه خلال مدة مشاهدتنا للفيلم، حمل كل صبي من أطفال العصافير ما يقرب من نصف طن فوق أكتافه الصغيرة، ويتركنا نعتصر ألما، نردد في أعماقنا: أليس هناك من منقذ لأولئك الصغار الذين يفقدون أعمارهم وأرواحهم كل يوم مقابل بضعة جنيهات زهيدة؟! ومن أطفال العصافير.. أنتقل لنجم تجاوز السبعين من عمره، لكنه مازال يحمل قلب وضحكة طفل صغير، قلبا متسامحا لا يعرف الضغينة أو الكراهية، نجم استطاع أن يحصد حب كل الفنانين والفنيين والعمال، بكرمه وشهامته ومواقفه مع زملائه في المحن والصعاب، أتحدث عن فاروق الفيشاوي الإنسان والفنان، ابن البلد الجدع المتواضع الذي واجه كل الأزمات والمحن بشجاعة، واليوم يواجه أصعب اختبار بنفس الشجاعة والقوة والإيمان، لذا اختار أن يكون الاعتراف بمرضه في لحظة تكريمه أمام جمهوره، ليعلن أنه لا يخشي هذا المرض اللعين وسينتصر عليه، مثلما اجتاز محنة الإدمان وتغلب عليه، وساهم في شفاء شباب كثيرين سقطوا في براثنه. لقد وجّه الفيشاوي بهذا الاعتراف الذي تملؤه القوة والأمل رسالة إلي المسئولين لتغيير أسلوب تعاملهم مع هذا المرض، والتوقف عن المتاجرة والتسول بالمرضي وإظهارهم بصورة مهينة وموجعة أمام الشاشات!!