أي فتح أكبر من أن تكون بين ساعة وأخري في دولة جديدة تطلع علي لغاتها، وثقافاتها، وملامح أهلها وبكبسة زر تنقل اللحظة ومشاهداتك إلي متابعيك من كل انحاء العالم عبر شبكات التواصل الاجتماعي. وبفضل مواقع التواصل الاجتماعي، والأجهزة الذكية، ووسائل المواصلات الحديثة شهد العالم الجديد فتوحاته علي يد ثلاثي التقنية الحديثة. وقد يمثل هذا الثلاثي المستحيل في خيال ابن بطوطة،والإدريسي، وابن جبير الأندلسي، وأحمد بن فضلان، وابن ماجد، وليون الأفريقي، وابن حوقل والمسعودي وغيرهم من الرحالة العرب والمسلمين. كل هؤلاء الرحالة استحوذ عليهم جنون المغامرة، وما كانوا يحلمون بجهاز ذكي يوثق رحلاتهم - ويحتوي علي بوصلة لتحديد الاتجاهات، ويحتوي علي برنامج للتاريخ، وتقويم، وملاحظات، وكاميرا بتقنيات احترافية عالية، إنه نعيم الجنون بعينه الذي لم يخطر علي قلب بشر منهم. فبعد النتائج التي حققها هؤلاء الرِحالة ورحلاتهم التي كان لها الفضل في اكتشاف العالم الجديد والذي بدوره أطلق ثورته التقنية لكل العالم لأصبحت تلك الدول في عداد المجهول. فقد جمع هؤلاء الرحالة بين الأدب، والجغرافيا، وعلم الأنثروبولوجي. ويرجع إليهم الفضل في الكثير من الاكتشافات العلمية، والجغرافية واثروا المكتبة الإسلامية بمؤلفاتهم التي تعد من أهم المراجع العلمية في وقتنا الحاضر، حيث وثقوا فيها مشاهداتهم واكتشافاتهم فكانت متعة للقارئ، ونزهة للخيال، وسفر للروح المتعطشة للبحث والإثارة والعلم فسيقت بالجهد وارتحلت بالمشقة لتضع كل ذلك بين يدي الباحث عن العلم ومتعة الترحال. ومازالت المكتبات الأوربية تزخر بمؤلفات هؤلاء الرحالة العرب مثل »ابن بطوطة». فكتابه »تحفة النظار في غرائب الأمصار، وعجائب الأسفار» الذي ترجم الي عدة لغات عالمية إلي اليوم يعد معلما ومرجعا خالدا في جامعة كامبريدج العريقة. ولو نظرنا إلي تاريخ الإنسانية لن نجد ثغرة جينية واحدة مفقودة، أو قطعت عرقها، أوسلالتها إلا ويظهر من أبنائها من يحمل نفحات الأجداد. كحفدة الرحالة الذين حفلت مواقع التواصل الاجتماعي برحلاتهم وتنقلاتهم بين القارات مستعينين بثلاثي مكتشف العالم الجديد وفتحوا فتوحاتهم الشيقة، وسجلوا مغامراتهم الحية فنحن في زمن الأقمار الصناعية وهؤلاء أحفاد رحالة يحق لهم مالا يحق لغيرهم وقد أطلق البعض منهم علي نفسه لقب رحالة وهو محق. فقد امتهنوا بفعل آلية الزمن السريعة مهنة أجدادهم. فأصبحوا رحالة وموثقين لرحلاتهم وأسفارهم المتعددة بل أصبحوا علي مدار العام الواحد يستهدفون قارة من القارات وتوثق مشاهداتهم صوتيا ومرئيا وكل ُ يطلق علي نفسه رحاله وهو محق. لا أقلل من مجهوداتهم ولكن التوثيق أصبح لغة عصر وساعد في ذلك تطور التقنية وسرعتها في تناقل الأحداث. ومن خلال حساباتي الشخصية المتواضعة العدد شاهدت عددا من الرحالة الشباب والشابات فاق الألف. الجميع يوثق رحلته ومسارها، والطرق، والأسعار وبماذا تشتهر الدول الفلانية وحالة الطقس فيها حتي باتت تجارة تستفيد منها وكالات السياحة كنوع من الدعاية لهذا البلد وقد تحصل علي خصومات جيدة، أو تلتحق برحلة منخفضة التكاليف مع الرحالة نفسه اذا كنت من المتابعين، المثابرين علي نشر الحسابات الخاصة بالرحالة، أو شركات السياحة كل ذلك جميل ولا غبار عليه فالسياحة أصبحت تمثل لعدد كبير من الدول الدخل القومي وبلغة عصرية سريعة هناك ما يخدم متطلبات الوقت وتسارع النمط الحياتي لجميع الناس دون استثناء . ولكن أقولها دون تشدد أو مقارعة الفرق بين الرحالة السابقون ورحالة هذا العصر الذي اصبح كل منهم يفاخر ويطلق علي نفسه رحالة يكمن الفرقفي العمق والغاية، وكيفية التوثيق فالرحالة السابقون رغم فقر إمكانيتهم كانت الرحلة عبارة عن كشف علمي فمنهم من قاس خطوط الطول والعرض، ورسم خرائط للأنهار،والبحيرات والمرتفعات، وهذه الخرائط تم الاعتماد عليها في كشوف عصر النهضة الأوربي بعد ذلك. كما فعل الرحالة الإدريسي الجغرافي الشهير الذي كان من أهم إنجازاته رسمه للكرة الأرضية واضعا عليها خطوط الطول والعرض والتي دمرت لا حقا في اضطرابات الحاكم روجر الثاني. ومنهم من اكتشف الكروية ومنهم من أثبت نظرياته الفلكية ومنهم وثق عادات الشعوب في أدق تفاصيلها حتي أصبحت مرجعا شاملا يستعين به صاحب الغاية وأيضا قدموا معالجة لمشاهداتهم كما فعل ابن فضلان حيث عالج قضايا المرأة في المجتمع الروسي وتم تناول حياته في مسلسل تلفزيون باسم »سقف العالم» عام 2005، وفيلم أمريكي باسم The 13th Warrior من بطولة »أنطونيو باندرياس»، ومنهم من حولها كتحفة أدبية صور فيها الأسواق،والمنازل، والحوانيت، والأزياء بلغة أقرب للشعر في انتقائها. وقد اهتموا بتسجيل كل ما تقع عليه حواسهم حتي لو كان خارج نطاق المعقول، ويدخل في »باب الخرافة» ونشأ نوع آخر من أدب الرحلات ألا وهو قصص الخيال الشعبي مثل: سندباد ،الذي يعد رمزا للرحالة الخيالي، ولا يغيب عن ذاكرة الأدب الأسطوري قصص الأبطال الذين ما إن ارتحلوا إلي مكان ما حتي تبدأ منه الحكايات مثل قصة ابن طفيل عن حي بني يقظان، وملحمة أبو زيد الهلالي وغيرها مما تحتفظ ذاكرة أدب الرحلات. وسجل أدب الرحلات تراجعا عما كان عليه حتي أوائل القرن العشرين إلي أن نهض علي يد مجموعة من أدباء حقبة الثمانينات والتسعينات الميلادية من القرن الحالي الذين وثقوا رحلاتهم تحت مسمي »رحلة حول العالم في 200 يوم أو 80 يوم ... وعلي رأسهم أديب ورحالة هذا العصر الراحل أنيس منصور في كتابه أعجب الرحلات في التاريخ زار فيها 54دولة وسجل مغامراته بأسلوب أدبي وفكاهي ممتع. وبمقارنة الإنجازات نجد هناك فرقًا جوهرياً بين الرحالة القدماء، والرحالة المعاصرون ألا وهو التوثيق كتابيًا . أعلم أن لغة العصر أصبحت مختلفة ولكن حفظ المحتوي بالصورة التي يمنحها الحرف تخلق من الخيال ألف سؤال، وسؤال فالخيال يتسم بالفضول الشديد ومن ثم البحث عن معلومة، عن تصور خاص بالمكان، عن معالجات خاصة قد تتطور لتصبح مساعدات إنسانية تخدم المكان والإنسان في كل زمان لأنها لا تحمل عجلات السرعة التي تشتهر بها الفيديوهات أو الصورة الملتقطة، أو الحدث الموثق بعشوائية، كما إنها لا تحظي بخاصية الثبات، والخيال المرسل. لا شيء في هذا العالم أرسخ من الكلمات، وأنا علي استعداد أن أتحدي جنون التسارع واللقطات بكلمة تحفظ إرث البشر وإن كن نظن أن الصورة أوثق فنحن مخطئين فالصورة أصبحت اشبه بخطوط وهمية تمحوها برامج التقنية وتنشؤها كيفما تسني لها، ونجد أن التركيز في رحلات الأحفاد علي الموضوعات الاستهلاكية مطاعم، أسواق، فنادق تكاليف لم يوثق احد كشف علمي أو بحث يستحق الاطلاع أو حتي ينقل ثقافة البلاد بالشكل الصحيح ويكتبه كمرجع ثقافي . أنا لا أقلل من مجهوداتهم ولكن الإمكانيات كبيرة جدا بين أيديكم واستغلالها بشكل يخدم العلم، والثقافة، والإنسان أمر يستحق أن يعيد الرحالة النظر فيه. وأعلم ان كل رحلة فيها من المغامرات ما يستحق أن يوثق بين دفتي كتاب أوفيلم سينمائي أو وثائقي أو مسلسل. كل شيء نقدم عليه في هذه الحياة حتي لوكان في ظاهره الهزل هو جاد بشكل أو بأخر. وأن ننقل خلاصة تجاربنا الإنسانية فهو شيء بحد ذاته يستحق الاطلاع مهما تواضعت تجاربنا إلا أن فيها ما يستحق. فلا تستهينوا بالإمكانيات الجبارة التي سخرها الله لنا فقد جعل الأرض ذلولا لنمشي في مناكبها لغايات عظيمة وكبيرة. فقط طف بأرجائها وتفكَر.