يحفظ لنا أدبنا العربى فى تاريخه القديم والمعاصر أسماء العشرات من الرحالة العرب بداية من جيل ابن بطوطة وابن فضلان وابن جبير ، وانتهاء بجيل حسين فوزى وأنيس منصور وأنور عبد الله وأحمد قنديل وغيرهم وهو الجيل الذى ارتبط عطاؤه الفنى فى هذا النطاق بمراحل التأسيس والتكوين والنمو لحركة أدب الرحلة طيلة تاريخه القديم والمعاصر . وإذا كان هذا الأدب قد ارتبط بأسماء العشرات من الرحالة الرجال إلا أن هذا لم يمنع من ظهور العشرات من المرتحلات العربيات المعاصرات ، اللائى قد أثرين مجموع هذا الأدب بنتاج متفرد ونادر بداية من جيل الدكتورة بنت الشاطئ فى الخمسينيات من القرن المنصرم فى كتابها الشهير (رحلة إلى أرض المعجزات) ، وحتى جيل الدكتورة نعمات أحمد فؤاد فى كتابها (رحلة الشرق والغرب) ونوال السعداوى (رحلاتى فى العالم) وغادة السمان ( غربة تحت الصفر ) فى السبعينيات من القرن نفسه ، ووصولا إلى جيل أهداف سويف وكريمة كمال ومها العطار وعفت حمزة وقمر كيلانى ومها عبد الفتاح وأميرة خواسك ومرام مكاوى وهالة سرحان وسعاد عبد الوهاب من أجيال عقدى الثمانينيات والتسعينيات وهو الجيل الذى يعطى إلى يومنا هذا ، وغيرهن الكثيرات والكثيرات ، مما أوجب على كل مهتم بهذا اللون الإبداعى المعاصر أن يقف حيال هذه الظاهرة ليسجل طبيعة اتجاهاتها المضمونية والفنية على نطاق شامل . وإذا أردنا أن نقف عند الجانب الموضوعى فى أدب (المرتحلات العربيات) فإننا سنجد أن معظمهن قد التقين فى اتجاهات موضوعية بعينها، منها على سبيل المثال اهتمامهن بوصف رحلاتهن إلى الأراضى المقدسة، من منظور نقل المشاهد من زاوية الرؤية الدينية، والتعلق بقيم المكان والزمان الروحانيين، وذلك على نطاق واسع مثلما فعلت بنت الشاطئ ، ونعمات أحمد فؤاد، وعفت حمزة، وسعاد عبد الوهاب فى كتبهن، وهن بذلك يحاكين ما فعله معظم الرحالة العرب قديمًا حينما كانت الرحلات عندهم مرتبطة بالباعث الدينى ، فابن بطوطة لم يخرج من بلاده بالمغرب العربى سنة 725 ه لرحلته التاريخية إلا بقصد زيارة بيت الله الحرام ، وأداء فريضة الحج ، وزيارة قبر رسول الله «صلى الله عليه وسلم» ، ومشاهد رحلته هى التى قادته لتسجيلها حرفيًا، ولذا فالباعث الدينى يظل عاملا دافعًا من عوامل الإبداع فى فن الرحلة عند الرحالة الرجال والنساء حتى العصر الحديث . كذلك اهتمت معظم المرتحلات العربيات بنقل الجديد والغريب فى مشاهد الرؤية فى بلاد المشرق والمغرب ، خاصة فيما يمثل شعور الصدمة الذى تتبناه اللحظة الأولى للوافدة العربية إلى بلدان الغرب والشرق المختلفة ، ذلك الشعور الذى يتماهى ويتمازج منذ اللحظة الأولى التى تطأ فيها المبدعة أو الكاتبة العربية بقدمها بلاد (الآخر)، ولذا نجد أن أول رد فعل سردى وكتابى لدى المبدعة العربية هو التقاط اللا مألوف والغريب والفريد فى نطاق المشاهد ، فالدكتورة بنت الشاطئ حينما زارت جزيرة العرب فى منتصف القرن الماضى لم تتخيل أن هذه الجزيرة قد تطورت إلى أبعد حد، ولم تعد هى الجزيرة التى كانت تعرفها من قبل، حيث اكتنفها شعور الاستغراب والدهشة والعجب منذ أن وطأت قدماها الطائرة من جدة إلى الظهران، ومردود هذا راجع إلى هذا الانقلاب الحياتى والمعيشى لجزيرة العرب، وما استحدث فيها من عمران وبناء وتمدن وما استجد فيها من مظاهر الحضارة العصرية، تقول مدللة على كلامها، وموظفة لغتها التراثية الواعية، ومعتدة بسياق المفارقة والمقارنة: (ولبثت الطائرة نحو عشر دقائق تدرج فوق ساحة المطار ، قبل أن تستقر على مهبطها، ونحن لا نكاد نصدق عبرنا الجزيرة من جدة على ساحل البحر الأحمر، إلى الظهران على ساحل الخليج، وتمثل لى آنذاك شاعرنا (طرفة) وهو يضرب بناقته الدهناء أيامًا وليالي، ورحت استرجع أبيات قصيدته المعلقة، فى وصف مطيته تلك الأمون الذلول! هكذا من الناقة إلى الطائرة، ياله من انتقال سريع عبر هوة شاسعة، فما عرفت الدهناء من قبل عربة أو سيارة، ولا عهدت قطارًا يجوس خلال دروبها ويمرق بين كثبانها حتى اليوم ) . كذلك اهتمت المرتحلات العربيات فى معظم كتبهن بموضوع (الحنين إلى الوطن) وهو ما يعكس العلاقة المكانية بأصل الموطن، وهى تمثل قمة الهرم من زاوية الأثر النفسى والإنسانى ، فمن الطبيعى أن تستأثر هذه الزاوية بكثافة شعورية ووجدانية لدى المبدعة العربية ، وهى التى تتصارع فى نفسها درجات المعاناة والشوق والحنين إذا تركت وطنها وبلدها، وارتحلت إلى بلد الآخر ، حيث يترك هذا الارتحال فى نفسها بعدًا من ألوان المعاناة التى تسهم فى تكوينها الوجداني. ومن ثم لم نعجب ونحن نقرأ للمبدعات المرتحلات نصوصًا تفرد فيها المبدعة موجاتٍ من السرد الوجدانى فى منظومة الحنين إلى الوطن، والشوق إليه ، فالدكتورة نعمات أحمد فؤاد على سبيل المثال تفرد لحب وطنها مساحة كبيرة من صفحات كتابها (رحلة الشرق والغرب)، تغلب فيه الطبيعة الوجدانية الشعورية على قلمها بشكل شفاف وبصورة نفسية تلقائية غير مبتدعة ولا متكلفة، بحيث باتت من خلال النص السردى مغلوبة على أمرها، مستسلمة لمعنى الشغف لوطنها.. تقول : (رحلة العودة أقصر أيامًا من رحلة الذهاب، وهو ما نتمناه فقد شغفنا الشوق إلى مصر.. عندما مرت الباخرة أمام جزيرة صقلية هز قلوبنا بحار جلس ومنظاره على عينيه يحاول رؤية الجزيرة لعل له بيتا فيها أو حبيب روح.. له الله.. إنى أحس عذابه وأنا وسط أسرتى حولى زوجى وأولادي، ولكن مصر فى القلب وجود بلا حدود.. إنها الأهل والولد والزمان والمكان، وبعد هذا كله يظل منها فى القلب معنى غير محدود يهفو إليه القلب حتى عندما يكون فيها، ويحيله الغياب قطعة من العذاب فى البعد والفراق، ما أحلى العودة إلى الوطن بعد الغياب على أمل). كما شغلت المرتحلات العربيات قضية (صورة المرأة الأجنبية) فى البلاد التى ارتحلن إليها، وذلك فى سياق النظرة التحليلية للكاتبة العربية لمجتمع المرأة فى الخارج، وفى سياق التعبير عنها، وعن طبيعتها على وجه الخصوص و جوانب تكوينها، ونمط معايشها، وتجاربها الحياتية وخبراتها، وعلاقاتها مع الآخر فى إطار مجتمعها، ودرجات تباينها واختلافها عن مجتمع المرأة العربية فى الشرق بصفة عامة، وفى عالمنا العربى بصفة خاصة، وقد وظفت الكاتبة العربية قلمها فى هذا النطاق للاستقراء النقدي، وقراءة وجوه الإيجاب والسلب فى تجربة المرأة الأجنبية، وفى إصدار الأحكام على تلك التجارب فى بعض الأحيان. ويبقى تعليق أخير على جهود المبدعة العربية المعاصرة فى نطاق أدب الرحلة ألا وهو التعليق الفنى على طبيعة البناء السردى لكتب الرحلة عند المبدعة العربية المعاصرة وموقع السارد فيها، فنجد أن البناء السردى فى معظم كتب المبدعات إنما يقف على عدة محاور من العناصر التكوينية المساعدة له، ومن أبرز تلك العناصر التى لوحظت لدى الكاتبات العربيات اهتمامهن بفنية صناعة العنوان ، وصياغة المقدمة ، والتمهيد بالبدايات .. ذلك أن تلك العناصر مجتمعة إنما أسهمت فى قراءة هيكل الرحلة ذاته ، أو فلنقل إنما هى علامات اختزلت دلالات النص الرحلى ، وأحالته على جنسه ، فالمقدمة تكون أشد ارتباطا بالنص باعتبارها بيانا يوضح خلفيات الرحلة ، وبعض الأشياء التى لا يبوح بها النص ، أما البداية .. فننظر إليها على أنها الجملة الأولى فى النص الرحلى ، فرغم ارتباطها العضوى بالنص ، فيمكن المجازفة بالقول إنها عتبة لكونها مدخلا ، ونقطة بدء الحكى ، وذات تأثير كبير على السرد فى باقى النص الرحلى . إذن فهذه علامات ومفاتيح فنية تعد أسسًا من هيكل تكوين البنية السردية والفنية للنص الرحلى عند المبدعة العربية المعاصرة ، وهى مرتبطة بصورة مباشرة بالبنيات الموضوعية الدلالية لوجه النص ذاته ، ولمضمونه ، ولحواشيه ومخرجاته ، ولأساس تكوينه الموضوعى والفنى ، خاصة وأن المادة المُشكلة لذلك كله ، تمثل فى حد ذاتها نتاجًا متكاملا يمكن الحكم عليه ، وقراءة رموزه ودلالاته من كل الوجوه والاتجاهات.