ثلاث ساعات ونصف الساعة فقط... تحتاجها الطائرة لتقطع الطريق من القاهرة إلى موسكو. وقت قد يتحدى المنطق حيث إن موقع البلدين على خريطة العالم يبدو متباعدا.وإن كان الواقع يرفض وجود فكرة المسافات. فمنذ أصبحت لمصر علاقات رسمية بروسيا، وهناك علاقات مستمرة يذكر منها د. أحمد الخميسى فى كتابه" أوراق روسية" إرسال محمد على باشا طالبين مصريين عام 1845 لدراسة ستخلاص الذهب. كما لا يمكن أن ننسى الشيخ عياد الطنطاوى الذى قرر السفر إلى روسيا لتدريس اللغة العربية، فتعلم الروسية، وقدم كتابين هما: " وصف بلاد روسيا" و " تحفة الأذكياء بأخبار بلاد روسيا". صحيح أن الطنطاوى وكما يقول كثير من كتب التاريخ لم يحصل على شهرة رفاعة الطهطاوى المسافر إلى فرنسا والعائد إلى مصر المحروسة بأفكار تنويرية تخص الدولة المصرية الجديدة، إلا أن الأمر لم يتوقف، فحتى تولوستوى يراسل الإمام محمد عبده ليستمر التبادل الفكرى بين البلدين. وبعيدا عما كتبه الخميسى فى كتابه، فأنه من المعروف أن علاقات دبلوماسية بين مصر والاتحاد السوفيتى قد أعلنت قبل منتصف الأربعينيات،ونجحت كعلاقات تجارية حتى جاءت الستينيات ليتردد اسم موسكو بقوة فى زمن بناء السد العالى. موسى جار الله فى زمن أبعد من السد العالى ولد موسى جار الله بايجييف أهم شيوخ الإسلام فى روسيا، تحديدا فى عام 1875، وتنذره أمه للعلم الذى يبدأ مشواره بكييف . إلا أنه ينتقل مع أسرته إلى بخارى حيث حفظ القرآن الكريم – كما يقول الباحث د. موسى يلدز- ويتعلم اللغتين العربية والفارسية. يبدو أن بخارى كانت بوابة للعلم، فبعدها انتقل إلى برلين ومكة ودمشق وبيروت ومدن العراق واسطنبول والهند واليابان. وعاش باحثا عن هذا العلم، شغوفا بالترحال والتنقل الذى يبدو أن الظروف السياسية كانت دافعا له هى الأخرى. إلا أن أكثر ما استوقفه فى رحلته هو حبه اللغة العربية بعد أن قرأ أشعار طرفة بن العبد الذى فتح الطريق أمام شاعر آخر وهو أبو العلاء المعرى الذى رأى بايجييف فى لزومياته دعوة للأفكار الإصلاحية. فيقرر أن يترجم شعره إلى اللغة التترية، ويقدم العديد من المؤلفات أهمها" الأدب العربى والعلوم الإسلامية فى كازان"، ويأتى إلى مصر، ثم يسافر ويختار فى النهاية أن يستقر بها ليصبح واحدا من أهلها ، كتلميذ للإمام محمد عبده والشيخ محمد بخيت المطيعى. صحيح أن بداية الرحلة كانت فى روسيا إلا أن نهاية الرحلة كانت فى أكتوبر 1949 فى القاهرة، حيث دفن فى مدافن الأسرة الخديوية.وقد نعته وقتها الأهرام بقولها: “توفى أمس العلامة موسى جار الله، المولود فى راستوف دون بروسيا عن 71 عاما فى ملجأ العجزة لأم المحسنين بمصر القديمة، حيث كان فى رعاية النبيلة خديجة عباس حلمى. وصلى عليه فى المسجد الزينبى، ودفن بمقابر الأسرة الخديوية بالعفيفى. ومما يذكر أن الفقيد كان من كبار علماء مسلمى الشمال فى روسيا، وقد نزح من وطنه فرارا من وجه البلاشفة”. رمز الصداقة تنتمى تفاصيل قصتنا الأولى إلى نهاية الستينيات فى زمن عبد الناصر، فمن يزور أسوان يمكنه أن يشاهد، بل و يتجول داخل رمز الصداقة المصرية الروسية الموجود فى مكان قريب من معبد كلابشة و السد العالى. فمصر تحتفل هذا العام بمرور خمسة و خمسين عاما على بداية العمل فى السد العالى ، وطبقا لقواعد الوفاء المصرى لابد أن نتذكر الدعم الروسى الذى ساند فكرة إنشاء سد كان أهل مصر يتجاوزون به فكرة المشروع قومى، ليصبح رمزا دائما للخيروالإرادة المصرية. هذا الرمز تمت إضاءته فى بداية هذا العام لأول مرة منذ 20 عاما لينضم إلى مجموعة آثار مصر الفريدة.فهو بناء يغلب عليه التصميم الفرعونى، كتصميم ليورى أومليتر سينيكو المهندس الروسى الذى تقدم بفكرته إلى مسابقة للهندسة المعمارية. و فاز حين اختار زهرة اللوتس المصرية الواقفة بكل ثقة عند مياه النيل، و التى ترتفع قامتها وتتشبه بالمعابد الفرعونية، و لتنتهى بشكل يشبه ترس آلة كرمز للعمل والاجتهاد. وإن كان يبدو أن سينيكو لم يستطع أن يفلت من التأثير المصرى الموجود فى شكل الفلاح والحصاد والزرع والنيل، وحتى وهو يضع بصمته الخاصة بحفر صورة علمى البلدين كتوقيع لمهندس يعشق البر المصرى. ابن فضلان يعد أحمد بن العباس بن راشد المعروف بابن فضلان قصة فريدة من نوعها، فهذا الرحالة والدبلوماسى العربى الذى عاش فى القرن العاشر الميلادى يعتبر صاحب الفضل فى تعريفنا بهذه البلاد، حين أرسله المقتدربالله الخليفة العباسى إلى أرض الصقالبة ووصل حتى منطقة فولجا الأورال فى روسيا. ابن فضلان الذى صورته السينما العالمية فى فيلم " المقاتل الثالث عشر" لجورج بانداريس كان فى بعثة لتعليم شرائع الإسلام . وفى الطريق دخل فى عمق بلاد الترك فكتب عن الغزية البدو الرحل الذين كانوا فى درجة سفلى من التحضر، والباشغرد وهم أشد إقداما على القتل حتى وصل إلى بلاد الصقالبة التى تغيرت كثير من عاداتها بدخولهم فى الاسلام. هكذا يبدو ابن فضلان فى رسالته وكأنه يقدم تجربة ثرية لا تقل عن تجربة الرحالة ابن بطوطة. ولهذا وكما يقول سامى الدهان فى مقدمة تحقيق " رسالة ابن فضلان" إنها تصوير للرحلة والعادات و التقاليد والحياة والأخلاق فى ذلك العصر. فابن فضلان و جار الله و سينيكو تجارب فريدة تستحق أن تروى، وإن كان التواصل بين الشعوب تصنعه الإرادة والرغبة فى التعايش، فهذا ما يصنع علاقات ثابتة يكتب لها الاستمرار.