توافد الأقارب من مساكنهم الهادئة، فحين غلقوا أبواب منازلهم وراءهم تركوا اسكون يرفل مستمتعا بفسحة الزمان والمكان، يتدفق الصمت مزيجا من ذاكرة الجدران جلبة الضحك والبكاء، يتفقد الأواني المستكينة في دواليبها، حتي ما كان منها مغرقا بالمياه ينتظر تنظيفه مكتئبا. عليه الآن أن ينعم بهدنة، الدمي الممزقة تراخت مكومة في كراتين محشورة وراء الكنب، الصمت ملك ورع يبارك رعاياه حتي العناكب التي تواصل غزلها ملفلفة بيوتها الواهنة بين قطع الأثاث. فرحت بالمهمة التي أوكلتها الي سلفتي أم العريس، فستتيح لي فرصة الابتعاد عن ضجيج الأقارب، نميمة الكبار المصحوبة بالفضول المحموم والتوقعات المسلم بها غير نزق المراهقين وهوس الأطفال. المهمة: عزومة قريبة لنا من بعيد كانت من صديقات حماتي وانقطعت عنا بعد موتها، تذكرتها سلفتي قبل العرس بيومين، قالت: فرصة نصل رحمنا وتشاركنا فرحتنا. أعرف العمارة المقيمة فيها لكني لم أدخلها من قبل، المدخل رخامي واسع، شبابيك السلم تبث هواء رطبا، أي صداقة نشأت بين حماتي وتلك القريبة، فبيتنا بطوابقه لا يكفي ثمنا لشقة واحدة هنا، أذكر المرة الوحيدة التي رأيتها فيها، كانت يوم عرسي، ملامحها كابتسامتها هادئة، هدوءاً وقوراً، أنيقاً، يسبقها عطرها المميز المجهول لدينا، أهم ما أذكره شنطة يدها الشمواه حين فتحتها ودست في يد حماتي النقوط، لابد أن سلفتي تمني نفسها بلحظة مشابهة. ضغطت الجرس مساوية هندامي ماسحة حذائي في باطن ساقي، انفتحت درفة الباب لأجد أمامي وجهها وقد تكاثرت عليه الغضون حول الفم والذقن والعينين، شعرت بعينيها تنفذان الي عظامي، تراجعت تجاعيدها أمام بريق عينيها ورنة الفرحة في صوتها، هتفت في نفسي: تذكرتني. صافحتني، ادخلتني أول غرفة بعد الاستقبال المبهرج بالستائر والاضاءة والموشي باللوحات التي لا خبرة لدي لمعرفة ان كانت أصلية أم مزيفة. أجلستني قبالتها وحذائي غائص في وبرة السجادة، وددت لو خلعت فردتيه وتخللت الوبرة الناعمة أصابع قدمي، بدا استفهام علي وجهها، حضرت اجابتي فلابد ستسأل عن الأسرة وأحوالنا بعد حماتي، انطلق سؤالها: - أترين هذه المنضدة ذات المفرش الكروشيه؟ هززت رأسي مبتلعة دهشتي فالمنضدة واضحة أمام عيني، انتظرها تكمل، تتهمل في نطق الكلمات، كأن هناك من يمليها عليها وهي بدورها ترويها لي أو أنها تضغط علي ضروسها حتي لا يفاجئها طقم أسنانها ويتخلي عن موقعه فوق اللثة: - فوق هذه المنضدة المهملة الآن ولا يجملها غير فازة بلا ورود، كنت أوزع أوراق الكوتشينة علي الأصدقاء، أخلط الورق وأعيد توزيعه، كل مرة اتبين من يغش، مع تكرار الأدوار، عرفت الغشاشين. ابتسمت كأني طرف في الصراع، ارتعشت شفتها السفلي: - خجلت من مواجهتهم. نظرت اليها باستغراب، رفعت كتفيها: - لم تواتني الشجاعة لطردهم، تخلف الطيبون واحدا إثر الآخر. قلت في نفسي: لابد أن حماتي كانت من الطيبين، أكملت - لمحت بمعرفتي غشهم، ضحكوا مفسرين الأمر مزحة، امتنعت عن اللعب إعرابا عن استيائي وعدم ترحيبي بهم، تقدموا، أخذوا مكاني، أداروا اللعب كما يحلو لهم. كاد ينطلق سؤالي الذي لمحته في عيني، أين كنت؟ تنهدت: - ارتكنت بمرفقي الي البوفيه، أتابع تخليهم عن قواعد اللعبة، توغلوا في الغش والمقامرة، انتبه علي الألم والدماء تنبت من أظافري التي قضمتها أثناء صمتي، حركتني صرخة من حلق أوشك علي مفارقة الحياة، دبت في أوصالي القوة، طردتهم شر طردة. تهرب عيناها مني، تعبث يداها بجلبابها، رفعت رأسها، تقاوم الدموع الملحة، خرج صوتها مرتبكا بتأتأة ذكرتني بتجاعيدها: - هددوني باتهامي بما اقترفوه، من يومها وليس لي هنا غير الترابيزة الصغيرة وعليها عدة القهوة، أتريدين فنجانا، مضبوطا؟ لقهوتها رائحة الحبهان، ترتشفها بتلذذذ قاطعته: - يأتون الي الآن؟ ابتسمت علي اعتبار أني أمدح قهوتها وكأنها لا تعرف عمن أحدثها، ماتت علي لساني الجملة التي حملتني إياها سلفتي (شرفينا عندنا عرس). أهرب من زحام البيت الي العمل، أمام الأقارب اضطر الي محايلة زوجي وعدم مجادلته في أوامره، ليس تمثيلا مني بل تفاديا لبعثرة كرامتي أمامهم، وقد استغل هذا، أخرج ملابسه الداخلية لأكويها الي جانب ملابس الخروج التي أكويها من أول زواجي، امتثل لطلباته الزائدة معلقة ابتسامة بلهاء علي شفتي وفي بالي ألعن نفسي الخائفة من الاهانة. في عودتي من العمل صاحبني ظلي ممددا بزاوية علي يميني فوق الرصيف، اقترب من حافة الرصيف ينسكب ظلي علي الأسفلت، أفسح له، أخشي أن يتدلدق مني وتدهسه السيارات. ليلة العرس كانت أصوات الأقارب بحت من نقل الكلام بين أدوار بيتنا محرك المياه لم يسكن لحظة، يعدون أنفسهم لارتداء الملابس المقتناة لزفة، لم يتركوا شيئا علي التسريحة لم يستعملوه صغارا وكبارا، تراصوا في الصفوف الأمامية للمسرح المزين بالكوشة. وصل العروسان وسط جلبة العزف، حين أخذت العروس موقعها في الكوشة ارتقت أختاها المسرح لمساعدتها في رفع الطرح فوق الورود فبدا وجه العروس القلب في زهرة، فردتا ذيل الفستان، كلما أنزل من جانب ارتفع من الآخر كاشفا عن ساقين لامعتين. توافد المعازيم، لم تسألني سلفتي عن عدم حضور القريبة التي عزمتها، الكثيرات من المعارف قبلنني، لم ألقهن من زمن، بعدما قبلنني وقفن حائرات ماذا يفعلن لتأكيد وجودهن، ظلت شفتاي منفرجتين علي الابتسام كي يرضي عني الجميع. أوقفت الفرقة العروسين، خفضت الاضاءة ليرقصا، دارا علي المسرح، العريس ينظر الي حذائه، يخشي أن يدهس فستان العروس، العروس تخطو خفيفة، لا تعلم الي أين تأخذها خطواتها بالحذاء الأبيض وذيل الفستان المتأرجح والطرحة الزاحفة. انطفأ نور العرس، اجتهد عمال الفراشة في كبس الكراسي فوق بعضها وتفكيك الكوشة، ارتبك الأقارب، أين ينامون؟! انتهبوا الآن بعد ثلاثة أيام الي أن البيت لا يسعهم، تسللت من بينهم، دخلت شقتي، أغلقت بابي، ساعتها أدركت أن السكون المسيطر علي منازلهم، يلملم نفسه عائدا الينا.