"الجائزة الحقيقية هي محبة الناس"، هكذا قال الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبوسنة رداً علي ملاحظة عن تأخر حصوله علي جائزة التقديرية في الآداب. حصوله عليها كان تصحيحاً لوضع خاطئ، فأعلي جائزة من جوائز الدولة حصل عليها صاحب "رماد الأسئلة الخضراء"، و"البحر موعدنا"، و"رقصات نيلية" كانت التفوق. وحتي يؤكد جملته السابقة يضيف "لا تعرف كم الاتصالات التي تلقيتها طوال الفترة الماضية". أبو سنة يعتبر أن تلك الجائزة تتويج لرحلة جيل الستينيات "هناك ضمير يؤمن برسالتنا إلي الآن"، ويتحدث عن المشهد الشعري الراهن، والثورة، وقصائده الجديدة. هنا نص الحوار مع أبو سنة. أسأله.. كيف تقيّم حصولك علي هذه الجائزة الآن؟ أجاب: أراها فألاً طيباً، أن تأتي بعد ثورة 25 يناير، وتأتي- أيضا- مع عهد جديد.. مع أمل في مستقبل مشرق، وطبعا هي- أيضا- تأتي لتضميد جراح المعاناة طوال سنوات طويلة من الستينيات وحتي الآن، هي تورق بعض الأزهار في شجرة العمر، حيث أحسست بأن الإنصاف الأدبي تأخر، وهي رسالة إلي الشباب، كي لا يصابوا بالإحباط أو يصابوا بعدم الجدوي، خاصة الشعراء المبدعين، فالشعر في مأزق، والدلائل علي ذلك كثيرة، منها أن دور النشر تحجم كثيرا عن نشر الدواوين، والقراء في انحسار، وهكذا تبقي هذه الجوائز لتشعل الأمل في نفوس الأدباء والشعراء، وأري أن هذه الجائزة كما قلت- تتويج لرحلة ورسالة إلي جيل الستينيات، الذي أعطي واستمر في العطاء وأصر علي الإيمان برسالته، رغم السهام التي وُجهت له.. نستطيع أن نقول إن هناك ضميرا أدبيا مستترا عادلا مازال مؤمناً به. بمعني؟ إذا كان هناك إبداع حقيقي يصل لضمير القارئ والرأي العام، وعلي المدي الطويل يستطيع أن يكسب الجولة، ويؤكد وجوده علي كل المستويات. كيف تري المشهد الشعري الراهن؟ هو مشهد يشبه إلي حد كبير المشهد العام في الثقافة المصرية والعربية، التي تنوء تحت عبء المشهد السياسي، وهو مشهد مضطرب.. تسوده بعض الفوضي وهناك الكثير من التفاعلات التي لم تصل بعد لرؤية واضحة.. المشهد الشعري الآن يختلط فيه الحابل بالنابل، بمعني أن هناك مواهب حقيقية تظهر.. ومنها مواهب لم يكتمل نضجها بعد، وهناك ما يسمي بالتراكم الكمي لإبداع طويل، كان ينبغي أن يقوم النقد بتصفيته، لكن ما حدث هو تراكم للإبداع الأدبي بدون فرز ودون تصنيف أدبي، أدي إلي هذا الصدام العشوائي بين الأجيال المختلفة، أتصور أن هناك صداما عشوائيا بين الأجيال المختلفة يسوده عدم البصيرة وعدم توخي حسن النية، أعتقد أن المشهد الشعري فيه مواهب حقيقية- كما قلت- فهناك أشياء تتراجع وأخري تتقدم.. وأقول لهؤلاء الذين يصوبون سهامهم في كل لحظة للآخرين، لقد خسرتم .. والآن علينا أن نتصالح ونتوافق ونتحاور ونحب بعضنا بعضا. أطلق عليك الناقد د. سيد محمد قطب بأنك شاعر القصيدة الخضراء فما رأيك في ذلك التوصيف؟ أحببت هذا الوصف، لأنه أعادني إلي الطفولة، حيث كنت أمرح وسط الحدائق والحقول علي ضفة نهر النيل في المرحلة الأولي من حياتي، عندما كنت في القرية، قبل أن أرحل للقاهرة وأنا في العاشرة من العمر، هذا الاستلهام الذي أدي به أن يطلق علي قصيدتي أنها خضراء، مرتبط إلي حد كبير برؤيته لنشأتي الريفية، هذا المعني رغم أنه جيد، إلا أنه يقف بالتجربة الشعرية عند المرحلة الأولي. إذن هل تفضل علي ذلك وصفك بأنك شاعر النفس الإنسانية؟ ربما كان هذا الوصف، هو أقرب الأوصاف إلي طبيعتي الخاصة وقصيدتي في نفس الوقت.. تعرفت علي النفس الإنسانية والبشر والبسطاء في مرحلة مبكرة جدا، ارتبطت بالكثير من المشاهد الإنسانية، وهي وراء انفعالي وكتابتي لمعظم قصائدي، والرؤية الإنسانية هي التي ألهمتني كثيرا من القصائد، الذين تحدثوا عن شعري لم يصلوا في حالات كثيرة إلي إدراك جوهر هذه الرؤية، لكن من حسن حظي أنني حظيت باستجابة نقدية، رغم أنها لم تكن مشجعة جدا، إلا أنها كانت موضوعية إلي حد بعيد، وهو ما أفادني وأبعدني كثيرا عن الزهو والغرور وأبقاني دائما في طريق السعي إلي القصيدة بتواضع، متفهماً جيداً لحقيقة أن الشعر طويل والعمر قصير. لك موقف خاص من اللغة، إلي الحد الذي جعل د. محمد عبد المطلب يصفها بأنها ملمح أساسي في ثراء تجربتك الشعرية؟ المقصد الأساسي للغة الشعرية هو الجمال، وكلمة الجمال تصب في فكرة الذائقة، بمعني أن لكل قارئ ذائقته النابعة من حساسية تجاربه وثقافته، وبالنسبة للشعر فإن لغته ليست هي لغة التعبير المباشر، بل هي لغة تاريخية، تقتنص رؤاها وحساسيتها واشتقاقاتها من سياق متعدد المستويات ومتعدد المناخات، فهناك لغة رومانسية وأخري كلاسيكية وثالثة تراثية ورابعة معاصرة، والمشكلة التي طرأت علي لغة الشعر هي كسر السياق التاريخي للشعر، بحيث انفرطت القصيدة بعيدا عن سياقها، الذي يوازيها بهذا الاكتناز ويجعلها قريبة من الذائقة المستقرة، نحن نكتشف الآن أنها ستكون مصيبة كبري لو توقفنا بالتجربة الشعرية عند حدود النثر المباشر، لأن كنوزا من الموسيقي يمكن أن تجعل من الكيان الشعري صرحا من الجمال الفني. نحن في عصر لا يمهلنا ولا يعطينا الوقت لنتأمل كل هذا السياق التاريخي، ولكن في تصوري أن الشاعر بحساسيته المتفردة يستطيع أن ينفذ بطريقته الخاصة إلي سراديب التاريخ وأنفاقه العميقة، بل وآفاقه العليا أيضا. هل لديك ديوان جديد مشغول به الآن؟ عندي مجموعة من القصائد، لكنها لم تصل إلي حد اكتمال التفكير في ديوان جديد.. مجموعة من القصائد معبرة عن تجارب جديدة ومنها قصيدة عن ثورة يناير بعنوان "كأنما أتوا من الخيال"، ومازلت في مرحلة التفاعل الخلاق مع المشهد الإنساني والثوري، الذي وُلد من رحم ثورة يناير، ما زلنا أمام فجوات هائلة في الرؤية السياسية والاجتماعية، هذه مرحلة في واقع الأمر ملتبسة، فيها ارتباك وغموض والتباس وصدام وعدم التوافق، فهي أشبه بركوب البحر وسط اضطراب الأمواج والعواصف.. هذه مرحلة في غاية الخطورة والأهمية، وتحتاج إلي شعر جديد.. أنا نفسي الآن أقرب إلي البحث عن شعر جديد يلائم اللحظة.