منذ سنوات، وأنا أفكرُ في أضرحة وسط البلد، أو الدَّاون تاون، لكن كان هناك شيء يمنعني، ليس فقط من الكتابة عنها، بل من طرق أبوابها، وكنتُ أشعر بالأسي لهذا، لأنه يعني أن الولي، أو الشيخ، لا يفعل المطلوب منه، وهو جذب التائهين والمُعذبين إليه، وأنا طيلة الوقت تائهة ومُعذبة. ولن أخفي أنني في أوقات كثيرة ألجأ لأضرحة آل البيت، مثل الحسين، والسيدة زينب، كي أهدأ، وأطمئن. وليس هذا نابعاً من إيمانٍ بقوتهم الخارقة، أو بقدرتهم علي الوصل بيني وبين الله، ولكن لأنني أحب الطقوس التي تُقام هناك، أو بالأحري، أحبُ هذه الحالة من التلاشي، والتسليم التام. ولأن وسط البلد مُرتبطة عندي، وعند غيري، بالمثقفين والسائحين والعرب، وبالمكتبات والمقاهي والبارات، وبالسينمات ومحال الملابس والأنتيكات، كنتُ أشعر دوماً أن أضرحتها مظلومة لحد كبير، لأنه لا أحد يلتفت لها، لا أحد يبكي أمامها، لا أحد يُمسك بحديدها، ويُقبّله، لا أحد يطلب منها المدد، حتي أبوابها لا يجلس بجوارها القطط، والشحاذون، والمريدون.. أنا أبالغ.. بالطبع ليس لها مريدون، لأنها أضرحة مجهولة، وأولياؤها-بغض النظر عن كونهم مدفونين فيها أم لا- فهم مجهولون. لذا، كان أول شيء عليّ أن أفعله، هو أن أترك نفسي للشوارع، والناس، كي يمسكوا بيدي، ويأخذونني إلي الأضرحة. وكان لهذا متعة كبيرة. لأنني اكتشفت أن هذه الأضرحة تتسم بأشياء لا تملكها مثيلاتها، أولها الهدوء الذي يُصيبك بالدوار، ثانيها الرغبة العارمة في البقاء في الظل، ثالثها تمسكها ببساطتها وبدائيتها رغم الحداثة التي تحيط بها من كل اتجاه. ولعل وجودها في هذه المنطقة بالتحديد، التي كانت ذات يوم منطقة أوروبية خالصة، هو ما يجعلها تتميز بالتفرد، والغرابة. هذه المرة، مشيتُ في وسط البلد، كما لو أنني لم أمش فيها من قبل، إذ تعمدت أن أتوه كثيراً، كي أشعر أنني أطوف، وأركض وراء أشياء خفية. وأحببتُ أن أقسم جولتي علي أيام متفرقة، كي أتشبع تماماً، وأمعن النظر في الأضرحة، التي بدت لي مثل امرأة يخشي الرجال الاقتراب منها. كما تعمدت في الوقت نفسه، أن أبدأ من حيث أعرف، تحية لأول ضريح كشف لي الوجه الصوفي للدَّاون تاون.