سعدت حينما سمعت صوت المقبض يزيق، فهذا المقبض حركته يد، وهذه يد شخص ما جاء ليدخل حجرتي، ولا أحد في الحجرة سواي، أما عن سبب سعادتي تلك، فلأن أحدهم -أخيرا- سيكسر وحدتي وأكسرها معه ونأكلها سويا في تلذذ وتمطق، هكذا هببت من الفراش كمن لدغته حيّة، وانفض عني الغطاء حتي ثار ترابه الكامن في ثقوبه، وأخذت أبحث عن إناء الماء لأروي به حلقي الجاف ومعدتي الخاوية، جالت عيناي بين مرتفعات الغرفة ومنخفضاتها، لكن لا أثر لإناء الماء، ثم فجأة تذكرت أن آخر مرة شربت فيها كانت منذ عشرة أيام أو عشرة أعوام، لا أتذكر بالضبط، وضعت حينها إناء الماء تحت السرير، فامتد ذراعي بعد أن ملت بظهري حتي اضطرب قلبي خشية الوقوع من علي السرير، تحسّسَت أصابعي الفراغ تتخبط في أشياء لا علاقة لها بالزجاج أو آنية المياه، ثم فجأة صرخ رجل: "آه... عيني"، اعتذرت للصوت، ثم سألته:"من أنت" فقال: "لا أعرف !"، فقلت له: "لا تهتم يارجل، وعِشْ في سلام"، ثم تعثرَت أصابعي في مقبض فالتقطته، فإذا به إناء الماء الذي شربت منه منذ عشرة أيام أو عشرة أعوام، كانت بالإناء سمكتان تجدفان بزعانفهما وتطوفان حول الشعب المرجانية الملتصقة بقاع الإناء، ندمت لأني لم آنس بهما طوال وحدتي الطويلة تلك. شربت حتي ارتويت وأغرقت ظمئي، ثم أعدت الإناء تحت السرير. كانت السمكتان تتخبطان في جدار الإناء الفارغ، وأنا أنظر إلي المقبض المتحرك أنتظر ضيفي ليدخل، ثم دخل بعد أن كسر المقبض وكذلك زجاج الباب، فصرخت في وجهه:"لماذا كسرت المقبض يارجل وكذلك الزجاج!" فرد عليّ من بين شفتيه المنتفختين التي يتصاعد من بينهما دخان أبيض كثيف: "هل أنت هاشم أبو هاشم؟" فابتسمت وقلت له: " لا، بل أنا هيثم أبو هيثم" ثم أدار وجهه الجرانيتي الأسود اللامع وتحول إلي قفا عريض وكرشه الأبجر إلي ظهر أخمص، وغرب عن وجهي دون أن يغلق الباب، فصحت: "يارجل، مرحبا بك، وأهلا وسهلا، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته" لكنه مالبث أن اختفي، ثم عاد الصمت مرة أخري ليدوي في أذني بطنينه البغيض، فتذكرت السمكتين، توقف تخبطهما، التقطت الإناء فوجدت السمكتين نائمتين، وقد أصابتهما الوحدة مثلي، فأعدتهما مكانهما، وأنا أقول: "ارقدا بسلام ياصديقيّ القديمين" وحاولت أن أذرف دموع الواجب لكني فشلت ثم حاولت أن أنتحب وأصرخ لكني فشلت أيضا، ففضلت النوم لعلي أجد أحدهم في أحلامي فأتحدث معه وأشكو وحدتي، رقدت علي الفراش وصوت الصمت يزعجني فلا يغالبني النعاس. تذكرت أن الرجل الأبجر قد ترك الباب مفتوحا، ففكرت أن أخرج وأري الخلق من فصيلتي الآدمية، نظرت نحو الباب وما وجدت سوي السواد الكالح، فقلت لعله انقطاع في الكهرباء. هممت بالنهوض من الفراش لكني عجزت فحاولت مرة أخري لكني عجزت أيضا، ثم بكيت. قال الرجل الذي تحت السرير: "ما يبكيك يارجل؟ " قلت: " أريد أن أخرج لكني لا أستطيع النهوض" فقال: "ولماذا تريد الخروج" فقلت: "سئمت الوحدة، أريد أن أري الناس" فقال: "هم لا يريدون، لقد وضعوك هنا" فتوقف بكائي، وصرخت: "لماذا؟" فقال: "لا أعرف، أنا مثلك" فقلت: "ما اسمك يارجل ياطيب؟" فقال: "لا أعرف" فقلت: "لا يهم ياصديقي" وتنهدت، ثم غفوت ورأيت حلمي الذي انتظرته..... رأيت من بعيد شجرة وارفة متفرعة الأغصان يتظلل بها رجل يحمل بين ذراعيه فتاة، فلما اقتربت أكثر، علمت أن الشجرة ليست شجرة وإنما شعبة مرجانية، والرجل ليس رجلا وإنما سمكة بلطي والفتاة ليست فتاة وإنما سمكة بلطية، وكان البلطي يبكي وينتحب، فسألته: "مايبكيك يارجل؟" فقال: "لقد ماتت زوجتي، عشنا معا عشرة أعوام، والآن هي ماتت، من لي بعدها بعد الآن.." فقلت: "وكيف ماتت" فقال: "أنت شربت ماء البحر كله" فصرخت: "لا، لقد كان إناء الماء تحت السرير، وليس البحر" فقال: "انظر حولك" فنظرت حولي فإذا بي أكتشف أني داخل إناء ضخم من الزجاج، فصحت: "ياإلهي إنه الإناء الذي شربت منه" فبكيت لأني تسببت في موت البلطية حتي امتلأ الإناء بدموعي وكدت أغرق فيه، لولا أني استيقظت علي غطيط الرجل الذي تحت السرير. وشهقت كأنما نجوت من الغرق، أحسست بالعطش الشديد فهممت بالتقاط الإناء لكني مالبثت أن عدلت عن ذلك وفضلت العطش علي أن أراهما، ثم بكيت. فاستيقظ الرجل وقال: "إنهم لا يريدونك يارجل كف عن البكاء ونم كثيرا" فقلت: "لا أبكي بسبب الناس إنما أبكي لأني تسببت في موت السمكتين" فقال: "البقية في حياتك"، ثم غط في النوم.. ثم فجأة أحسست بشجار داخل عقلي بين: "الوحدة"، "لا أستطيع النهوض"، "الناس لا تريدني"، "أنا قاتل"، "من أنا؟"، فدفنت عقلي تحت الوسادة، ونمت عشر سنوات أخري....