التضامن: لا نُعيد التكية بمفهومها التاريخي.. والمبادرة لإطعام غير القادرين    التحقيق يكشف سبب تحطم طائرة الخطوط الجوية الهندية في أحمد آباد    أيمن موسى يكتب: للحفاظ على سيادتها وتأمين مستقبلها| «القيم الأساسية».. مفتاح بناء الدولة الروسية    أحمد عبدالقادر ينتقل إلى الحزم السعودي مقابل مليون دولار    السيطرة على حريق شب في حشائش كورنيش النيل بحلوان    مانشستر سيتي: هالاند يستمع إلى ألبوم عمرو دياب الجديد    باحث بمرصد الأزهر: التنظيمات المتطرفة تستخدم الخوف كوسيلة للسيطرة    انتخابات مجلس الشيوخ 2025| الكشف المبدئي للمرشحين عن دائرة الإسماعيلية    خطوة بخطوة.. كيفية التسجيل في منصة DAZN لمشاهدة نهائي كأس العالم للأندية 2025    تردد قناة MBC مصر 2 HD الناقلة لمباراة تشيلسي وباريس سان جيرمان في نهائي كأس العالم للأندية 2025    ملف يلا كورة.. تأجيل انتخابات الأهلي.. وفوز ودي للزمالك    الأهلي يوافق على انتقال عبد القادر للحزم    ننشر قوائم المرشحين لانتخابات مجلس الشيوخ عن دائرة محافظة دمياط    بيع نهائي، لاعب الأهلي يخضع للكشف الطبي في الحزم السعودي خلال ساعات    الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم السبت 12 يوليو 2025    أحمد سليمان يتحدث عن.. الدعم الجماهيري.. وشرط استمرار فيريرا    حميد الشاعرى يقدم باقة من أروع أغانيه على خشبة المسرح الرومانى بمارينا    التعليق الكامل لمنى الشاذلي على واقعة مها الصغير.. ماذا قالت؟    تمهيدا لصفقة كاريراس؟.. بنفيكا يضم ظهير ريال مدريد الشاب    أمين الفتوى: يجوز الصلاة أثناء الأذان لكن الأفضل انتظاره والاقتداء بسنة النبي    حسام موافي يحذر من خطر المنبهات: القهوة تخل بكهرباء القلب    نهاية مأساوية على الرصيف.. مصرع سائق في حادث تصادم بقليوب    السيطرة على حريق داخل شقة سكنية بشبرا الخيمة    السيطرة على حريق في هيش وحشائش بكورنيش حلوان    ضمن خطة ترامب لخفض الإنفاق.. إقالة 1300 موظف في وزارة الخارجية الأمريكية    تعليمات هامة لطلاب الثانوية العامة أثناء اختبارات القدرات    رسميًا بعد تثبيت الفائدة.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 12 يوليو 2025    عاجل.. ارتفاع جديد لأسعار الذهب في مصر بدعم من صعود المعدن عالميًا    إصابة موظف بصعق كهربائى خلال تأدية عمله بقنا    ضبط المتهمين باحتجاز شخصين داخل شقة في بولاق الدكرور    أسعار الفاكهة والموز والخوخ بالأسواق اليوم السبت 12 يوليو 2025    خام برنت يتجه لتسجيل مكاسب أسبوعية بنحو 1%    عاجزة عن مواكبة العصر.. البياضي: لوائح الأحوال الشخصية للمسيحيين تعود ل 1904    محمد عبلة: لوحاتي تعرضت للسرقة والتزوير.. وشككت في عمل ليس من رسمي    الأطفال تذهب لمن بعد الطلاق؟.. المستشار نجيب جبرائيل يكشف مفاجآت في قانون الأحوال ل المسيحيين (فيديو)    د.محمود مسلم: جهود مصر مستمرة لإنهاء أزمة غزة ونقاط الخلاف بين حماس وإسرائيل لن يحسمها إلا ترامب    ما هو أقل ما تدرك به المرأة الصلاة حال انقطاع الحيض عنها؟.. الإفتاء تجيب    البنتاجون يؤكد إصابة قاعدة العديد بهجوم إيراني قلل ترامب من خطورته    إنقاذ حياة سيدة وجنينها في سوهاج من انسداد كامل بضفيرة القلب    سيراميكا يطلب من الأهلي 3 لاعبين مقابل رحيل شكري وهاني.. وريبيرو يرفض ترك «الطائر»    تحظى بالاحترام لشجاعتها.. تعرف على الأبراج القيادية    ولاء صلاح الدين تناقش تأثير الإعلان المقارن على المستهلك المصري في ماجستير إعلام القاهرة    «زي النهارده».. اندلاع ثورة الريف بقيادة عبدالكريم الخطابي 12 يوليو 1921    موعد ومكان عزاء المطرب الشعبي محمد عواد    فلسطين.. قوات الاحتلال تقتحم الخضر جنوب بيت لحم    كوميدي ألماني أمام القضاء بتهمة التحريض بعد تصريحاته حول محاولة اغتيال ترامب    زيلينسكي يعلن استئناف المساعدات العسكرية: تلقينا إشارات إيجابية من واشنطن وأوروبا    تشكيل لجنة عليا لتوعية المواطنين بالتيسيرات الضريبية في الساحل الشمالي.. صور    سعر طن الحديد الاستثمارى وعز والأسمنت بسوق مواد البناء السبت 12 يوليو 2025    قد يبدأ بصداع وينتشر أحيانًا لأجزاء أخرى بالجسم.. أعراض وأسباب الإصابة ب ورم في المخ بعد معاناة إجلال زكي    نتيجة الدبلومات الفنية الدور الأول 2025 دبلوم السياحة والفنادق برقم الجلوس (الموعد والرابط)    قافلة طبية بدمياط تقدم خدمة علاجية ل 1216 مواطنًا في قرية العباسية    صحة قنا تستعد للتصدي للأمراض الوبائية الصيفية    احتفالية روحية في دير دلجا الأحد    محافظ بني سويف يتفقد موقف النجدة القديم بعد نقل أنشطته للمجمع الجديد    ما هي الحالات التي يُباح فيها للمصلي قطع الصلاة؟.. الإفتاء توضح    هل يجوز أن أنهى مُصليًا عَن الكلام أثناء الخُطبة؟    خريج "هندسة المنصورة" يحصد جائزة دولية من منظمة الموارد المائية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أن تكون تلميذاً في مدرسته
نشر في أخبار الأدب يوم 18 - 08 - 2018

في مدرسة على مبارك بمدينة طنطا
عندما شرعت في الكتابة عن الدكتور فيصل يونس الأستاذ بوصفي واحدة ممن أسعدهم الحظ وتتلمذوا علي يده، شعرت بالخوف، وعلي الرغم من أني قد عشت تحت مظلته سنوات وأنا الفتاة المغتربة القادمة من صعيد مصر للعاصمة بحثا عن فرصة وطوق نجاة وسط أمواج الضائعين في الزحام هنا، إلا أنني ارتعشت بمجرد أن جلست محاولة الكتابة عنه، كتبت كثيرا وتراجعت كثيرا، فحديث القلب والعقل يبدو للوهلة الأولي بسيطا وسهلا ويظل كذلك طالما لم تحاول نقله إلي الورق في شكل جمل مقروؤة، لم أكن أعي حقيقة أن الكتابة عن الرموز مجهدة لتلك الدرجة، وتزداد صعوبتها عندما تكون ملاصقا لهذا الرمز لسنوات غير قليلة من عمرك، تجد نفسك تحاول جاهدا أن تكتب مقالا موضوعيا، فتغلبك عاطفتك تجاه أستاذك وتود لو ترفعه إلي عنان السماء، ليس فقط اعترافا بالجميل الذي تحمله في عنقك لأستاذ أعطاك ولم يأخذ منك، ولكن أيضا لأنه يستحق ليس فقط أن تكتب عنه مقالا وإنما تتفرغ لكتابة مجلد ضخم يحوي مواقفة الانسانية والعلمية التي قد لا تقرأ عنها سوي في فصول المثالية في الروايات، ولكن العجيب في الأمر أنها حقيقة عشتها لحظة بلحظة مع أستاذ لن يوفيه الكلام مهما بلغ مداه حقه، قد أكون متحيزة.. لا يهم، فمن حقي ومن حقه علي أن أتحيز له، وكيف لا أنحاز له وهو المعلم والأب الروحي الذي مازالت بصماته واضحة في كل شئون حياتي، ومازلت حتي الآن أستحضره في كل موقف أمر به وأتخيل ردوده علي سخافاتي وأفكاري المغلوطة ونظرتي السطحية لأزماتي ومشكلاتي.
عندما نقل خبر وفاة دكتور فيصل يونس لتلاميذه وصلت معه رسالة ضمنية تحوي يتماً من نوع خاص، ولعل التلميذ اليتيم الذي فقد أستاذه ومعلمه لا يختلف كثيرا عن طفل فقد أباه، فهذا يتم وذاك أيضا يتم يبدو مع محاولة البحث عن إجابات مريحة وشافية لمئات من الأسئلة التي دارت في ذهني كواحدة من تلاميذه ولا شك أنها دارت في ذهن الجميع، منها مثلا: كيف ستسير الأمور بدونه؟ وماذا سأفعل إذا تعثرت وعجزت عن الاتكاء علي نفسي؟ من سيوجهني وينصحني؟ من سيوبخني عندما أحيد عن الطريق؟ لمن سأركض عندما أرتكب خطأ أو أشعر بالهزيمة؟ من سيعلمني بعد ذهابه؟ وغيرها كثير من الأسئلة التي طرحتها أنانيتنا التي كانت تدفعنا دوما للسعي نحو الاستحواذ علي اهتمام ورضاء وثناء أستاذنا، وسباقنا المحموم مع بعضنا البعض محاولين أن نثبت له مدي جدارتنا وقدرتنا علي التعلم والعمل بما تعلمناه، صدقا هي ليست كلمات تكتب في مقال بل هي واقع كان وذهب مع ذهابه.
أن تكون تلميذا في مدرسة الدكتور فيصل يونس ليس بالأمر الهين، فبمجرد دخولك إلي محرابه يعني أنك قد وقعت صكا ضمنيا أدخلك تحت مظلته العلمية والانسانية، وأصبح لك أب روحي تتبع خطواته وتحرص دوما أن تكون عند حسن ظنه، لا تفعل هذا مرغما أو منساقا فقط بدافع البحث عن المعرفة والعلم أو حتي الحصول علي درجة علمية سواء كانت ماجستير أو دكتوراه، وإنما تفعل ذلك دون وعي، تسير مدفوعا برغبة غير متعمدة في أن تكون هو، أن تصبح مثله، متصالحا مع نفسك وقادرا علي التأقلم مع نقاط ضعفك وثغراتك، والأهم لديك الجرأة الكافية لتعترف بوجودها.
أن تكون تلميذا في مدرسته يعني أنك ارتضيت أن ترهق نفسك بحثا عن معلومة دقيقة وموثقة توثيقا علميا لا غبار عليه، وأن تكون ملما بأحدث ما نشر من بحوث ودراسات، وأن تعرف دوما بأنك في حاجة للتعلم، فهو لم يكن يقبل بسطر مشكوك في دقته أوبمعلومة سطحية، ولم يمرر من تحت يده يوما ورقة مكتوبة غير راض عنها، يجاملك الدكتور فيصل في كل شيء إلا العلم، يرفق بك إنسانيا إلي أقصي مدي ولكن في العلم هو رجل لا يعرف الرفق، تجد نفسك أحيانا مرهقا وأحيانا متمردا، وأحيانا أخري متسائلا، إلا أنك لا تلبث أن تفهم وتتفهم وترضي بما يمليه عليك من توجيهات تجعلك علي يقين بأنك تقف أمام عالم عد ولكل ما هو أجوف، ولعل المتتبع للمنشور من أبحاثه ودراساته التي قام بها أو تلك التي أشرف عليها سيقف كثيرا أمام دقتها واهتمامه المجهد أحيانا بالتحقق من التفاصيل، وعدم إهدار الوقت في طرح المعلومات المكررة والموضوعات المستهلكة، والشغف الدائم للبحث عن جديد.
لقد تدرجت اهتمامات الدكتور فيصل البحثية لتشمل معظم موضوعات ومجالات الدراسة في تخصص علم النفس الذي كان يتقنه جيدا، ليصل في نهاية مشواره وقبل وفاته بسنوات قليلة إلي شغف بحثي من نوع خاص، شغف استخدام العلم كسبيل للبحث عن الذات، فذهب بعلمه للبحث في مجالات حياتية انسانية لم يطرقها سواه من علماء النفس في مصر والعالم العربي، فبحث في نظريات علم النفس عن السعادة وأخضعها للدراسة العلمية وحاول البحث عن دوافع ضياع التعاطي مع السعادة كهدف في المجتمعات العربية، شغلته القضية واستغرقته، ولعل من يتتبعه سيجد أنه يدرس ليطبق حصاد دراسته وبحثه في حياته أولا وكأنه يجعل نفسه معيارا لصدق فروضه البحثية، عندما تقترب من دكتور فيصل سيبدو لك بوضوح كيف كان شخصية محبة ومرحة وخفيفة الظل وعاشقة للحياة علي علاتها، وعلي الرغم من آلام المرض لم يستسلم وإنما راح يبحث في سيكولوجية الألم وآليات وسبل التعايش معه عندما يصبح أمرا واقعا، ووصل للعديد من الأفكار التي تدرس في سبل التعامل مع الألم الجسدي في الحياة، وتمكن بالفعل أن يحيا حتي آخر عمره متأقلما مع ألمه وباحثا عن السعادة وكأن لسان حاله يقول إن كنت مقيما هنا داخل هذا العالم فسأظل حتي آخر يوم لي سعيدا، وسأظل أعطي لمن حولي إلي النهاية، فالعطاء لديه كان أحد أهم الأبواب التي طرقها بشدة ودخلها بحثا عن السعادة.
إن الاستاذية لم تكن أبدا علماً يلقنه معلم لتلاميذه ويحشوه في رؤوسهم دون فهم أو وعي، الأستاذ الحقيقي هو العلم يسير علي قدمين، لن يتمكن الطالب من استيعاب حديث معلمه الا إذا خرج هذا الحديث من القلب والعقل، ودكتور فيصل كان نموذجا يحتذي به في هذا، لم يكن يغفل البعد الانساني في حياة تلاميذه بل كان يمنحهم من وقته واهتمامه وصحته الكثير بحثا عن حلول لمشكلاتهم الحياتية والمادية والإنسانية والنفسية، لقد كان أستاذ معالج، لديه من الحكمة والصبر ما يجعله يجلس ساعات يستمع لشكوي أحد تلاميذه ويبحث لها عن حلول.
وإذا تحدثت عن نفسي وعن تجربتي الشخصية معه كأستاذ منذ قدومي من صعيد مصر إلي جامعة القاهرة وما كنت أشعر به من ضياع وخوف وسط الزحام، وما اصطدمت به في العاصمة من اختلافات ثقافية وإنسانية كادت أن تؤدي بي وتعيدني مرة أخري إلي القطار المتجه جنوبا فأستطيع دون شك إن أقول أن الدكتور فيصل يونس قد لعب في حياتي دور البطولة المطلقة كأستاذ وملهم استطاع أن يقدم لي الدعم علي اختلاف أشكاله ومستوياته حتي استطعت الوقوف علي قدمي مرة أخري، أحيانا يرد إلي ذهني عندما أجد باحثا قد ذلت قدمه وحادت عن الطريق، أو آخر قد استسلم وترك مجال البحث العلمي، أن المشكلة الرئيسية لهؤلاء أنه لم يكن لديهم أستاذا مثل فيصل يونس.
لقد صارع هذا الرجل كثيرا وخاض حروبا مضنية دفاعا عن الحق في كل منصب تقلده، وقد حضرت بنفسي مواقف انسانية له قد لا يتاح المجال لذكرها هنا ضرب فيها باللوائح العقيمة عرض الحائط منحازا اما للعلم أو للإنسانية، فكل منصب تقلده دكتور فيصل ترك فيه بصمه، وتركه في النهاية بكامل رغبته، إنه الرجل الذي يستقيل، نعم لديه شجاعة تقديم الاستقالة عن أرفع المناصب بكل سهولة عندما لا يجد المجال أمامه متاحا للعطاء، وهو ما جعله محل احترام من الجميع، وبالتالي فقد تختلف أو تتفق مع دكتور فيصل يونس... لا يهم، ما يهم هو أنك لن تملك الا أن تحترمه وتقدره، فهو لم ينحني يوما، ولم يتنازل عن مبدأ، ولم يسعي خلف منصب أومكسب، بل شهدته بنفسي وهو ينفق من ماله الخاص دعما لفكرة أو لطالب أو حتي لمبدأ، ومن خلال المشروع الذي كان يشرف عليه تحت عنوان » دعم البحث العلمي في العلوم الاجتماعية»‬ استطاع أن يمنحنا الكثير دون مقابل، فقد كان يقتطع من وقته الكثير لتنظيم ورشة عمل أو دورة تدريبية أو مؤتمر للارتقاء بقدرات الباحثين، ويسعي دون كلل أو ملل بحثا عن دعم للبحوث التي يقوم بها شباب الأساتذة في كلية الآداب وغيرها من الكليات.
وفي النهاية لا يسعني الا أن أقول شكرا لأستاذ أعطي دون مقابل، علم بضمير، رسم لنا معالم واضحة لطريقنا بعد ذهابه، وجعلنا نقف منتفضين لمجرد ذكر اسمه، أستاذ لا نصادفه في حياتنا سوي مرة واحدة، ولن نجده كثيرا في هذا العصر الذي عز فيه الأساتذة، وأصبحت فيه مثالية الأستاذ ضربا من ضروب البلاغة التي نقرؤها في موضوعات الانشاء أو مأثورات الحكي، ولأن من يعلم لا يفني، ومن يزرع نبتا في أرض خصبة لا يموت، ومن يمنح حياته للعلم يحيا حتي بعد وفاته فدكتور فيصل كان ولايزال وسيظل دوما الأب الروحي الذي يرافقنا في مشوار حياتنا ويلتقطنا من عثراتنا حتي الوصول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.