في العاشر من يونيو الماضي، عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جلسة موسعة لمجلس الأمن الروسى، مع العلم بأن هذا المجلس يرسم السياسات التي تمس الأمن القومي الروسي في كافة المجالات، وتلتزم بها كافة أجهزة الدولة دون استثناء. ■ الإفتخار بالوطن في كافة حالاته وفي الجلسة المشار إليها لم يتحدث الرئيس الروسى عن سير الحرب في أوكرانيا، أو عن العقوبات التى تتعرض لها روسيا، أو عن تطوير القدرات العسكرية للدولة، بل إن الرئيس الروسي -وربما منذ وصوله للسلطة فى هذا البلد- يرى أن أكبر خطر يمكن أن يهدد كيان الدولة الروسية وبقاءها يكمن فى زعزعة منظومة القيم الأساسية فى المجتمع الروسي. خلال جلسة مجلس الأمن الروسي لم يكن حديث الرئيس الروسي ذا طابع مراسمي أو دعائي لمجرد الحصول على إعجاب من جانب هذا أو ذاك من شرائح المجتمع، لكنه تناول خريطة طريق تشمل تحديد ملامح المشكلة والأهداف المنشودة، والأهم من ذلك السياسات التي يجب أن تلتزم بها كل مؤسسات وقوى الدولة وصولًا إلى تحقيق هذه الأهداف. ■ الولاياتالمتحدة تسيطر على العالم دون التورط في حروبه ◄ القيم التقليدية وفى كلمته، أكد الرئيس الروسى أن بقاء أى دولة والحفاظ على وحدة أراضيها وسلامتها وأمنها القومي مرهون بشكل رئيس بمجموعة من القيم التقليدية التي إن لم تتوفر في شعب دولة ما، فلا محالة سيأتى عليها الدور لتنهار وربما تزول من الخريطة الدولية. وتتمثل هذه القيم فى «العمل، والوحدة، والأسرة القوية، وحب الأبناء، وحب الوطن واحترامه»، وأكد أنه يجب أن تعمل كافة مؤسسات الدولة على تعزيز هذه القيم في نفوس المجتمع وتربية النشء الجديد عليها. كل ذلك يبدو من الوهلة الأولى عبارات جميلة ومنمقة وأهدافًا لا يختلف عليها اثنان، بل يمكن القول إن الكثير من الدول تعتبر هذه القيم الأساس المتين للدولة وتوليها أهمية تفوق كثيرًا الاهتمام بالقدرات العسكرية والتكنولوجية وغيرها، حيث إنه إذا لم يرتبط المجتمع بوطنه ارتباطًا وجدانياً عميقًا يقوم على أساس الحب الحقيقى واحترام تاريخه والافتخار به والعمل على تقدمه وضمان مستقبله، فلن يمر وقت طويل حتى يواجه هذا الوطن إما خطر السقوط أو ابتلاعه من جانب قوى أخرى. لذلك فقد حرص الرئيس الروسي على ألا يتوقف الأمر عند مجرد الحديث المنمق وتصفيق وسائل الإعلام له، بل حدد خريطة طريق أساسية وصولًا إلى الأهداف المنشودة، والأهم من ذلك هو القناعة بأن الوطنية لا تأتى بالأمر أو الإجبار. ◄ خريطة الطريق ولكن ما هى أسس خريطة الطريق التى تحدث عنها الرئيس الروسي؟ أهم ملامح هذه الخريطة هى القناعة بأنه إذا كان الحديث يدور عن منظومة أخلاقية وقيم ينبغى زرعها وتأصيلها فى المجتمع، فالأولى أن تتسم بها مؤسسات الدولة قبل الحديث عن المجتمع. لذلك فقد شدد الرئيس الروسى على مجموعة من المعايير ينبغى أن تلتزم بها كافة السلطات فى طريقها لتنفيذ خريطة الطريق المشار إليها، وأهم هذه المعايير هى «العدالة، والإنسانية، والمهنية، والالتزام بخدمة المجتمع وتلبية احتياجاته». لقد حرص الرئيس الروسى على تسمية القيم المستهدفة ولم يترك الأمور عائمة، فهو يدرك جيدًا أن القيم الوافدة من الخارج تتضمن عناصر وسمومًا تنخر فى كيان المجتمع. لذلك فقد طلب من البرلمان إصدار تشريعات مباشرة وواضحة تحمى القيم الأساسية والتقليدية للمجتمع، وعلى رأسها تلاحم المجتمع وتعزيز جهود كافة مؤسساته الاجتماعية والدينية والتربوية لتأصيل هذا التلاحم فى النسيج الوطنى الروسي. كما شدد على أن تشمل التشريعات مكافحة محاولات غرس قيم غريبة أو هدامة وسط المجتمع الروسي، والأهم من ذلك هو تعزيز القيم العقائدية فى المجتمع بعيدًا عن المغالاة والتطرف ومحاولات التلاعب بالمشاعر الدينية للطوائف المختلفة فى المجتمع الروسي. ■ سواسية في حب الوطن ◄ التربية الصحيحة أكد الرئيس الروسى أن الأجيال الشابة فى روسيا تدرك جيدًا معنى الحرية والمسؤولية وتربط مصيرها بمصير الوطن، لذلك ينبغى إتاحة الفرصة لهذه الأجيال لتشارك بفاعلية فى تطور الدولة اجتماعيًا وعلميًا واقتصاديًا وفى كافة المجالات. كما شدد على ضرورة عودة دور المدرسة فى مجال التربية وضمان التنسيق الواعى بين المدرسة والأسرة فى هذا المجال، كما أكد على أن تقوم العملية التعليمية فى المدارس الروسية على أساس تربية القيم الأخلاقية والروحية فى نفوس الطلاب فى كافة المراحل. العملية التعليمية فى المدارس الروسية يجب أن تعزز فى وجدان التلميذ الإدراك الكامل بماهية الوطن واحترام تاريخه وغرس محبة الوطن فى نفوس التلاميذ. الاهتمام بتدريس التاريخ الصحيح للدولة ومواجهة كافة محاولات تشويه التاريخ أو التشكيك فى أى من مراحله، مع مراجعة مناهج التدريس من وقت إلى آخر لتنقيح ما قد يشوبها من تحريف أو تشويه. ◄ السيطرة على العقول يجب إدراك أن هناك من يحاولون اللعب على أوتار العلاقات بين مختلف الأديان والقوميات، حيث يسعون لنشر الفتن وتأليب أبناء القوميات والأديان المختلفة على بعضهم البعض. لذلك ينبغى على مؤسسات الدولة التحلى باليقظة الكافية لكشف هذه المحاولات فى الوقت المناسب والعمل على وأدها فى مهدها، على أن يتم ذلك دون انتقاص من حقوق المواطن فى المعرفة وبالاتصال بنظم المعلومات العالمية وتعزيز إدراكه بما يتعرض له من منافسة شرسة للسيطرة والتأثير على فكره وعقله من خلال التشكيك فى قيمه وادعاء أن تطور البشرية يتطلب تطورًا فى القيم والمعتقدات التقليدية. كما أن هناك الكثير من الدول التى تشارك روسيا ذات الاهتمامات، لذلك ينبغى توطيد التعاون معها فى تحقيق ذات الاهتمامات والتعرف على تجارب الدول الأخرى فى هذا المجال للاستفادة منها على الصعيد الداخلي. ولا يجب أن يؤثر التكامل والحوار مع الثقافات الأخرى على تماسك وصلابة الهوية الروسية وأيديولوجية ودور روسيا فى مجال الثقافة والتنوير على الصعيد العالمي. لماذا الآن؟ وقد يتساءل البعض: لماذا الآن بالذات يتحدث الرئيس الروسى عن ضرورة صياغة استراتيجية كاملة للدولة فى مجال القيم التقليدية؟ يجيب على هذا السؤال الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بنفسه قبل أن يقدم العديد من الخبراء والمتخصصين إجابة عن هذا التساؤل، فالرئيس الروسى يشير إلى أن روسيا دولة مستهدفة لضرب ركائزها الأساسية التى تضمن تلاحم الشعب حول وطنه، لذلك فالحل لا يكمن فى الانغلاق وإنما فى تعزيز قيم المجتمع وثقته فى وطنه وسلطاته، ونشر ثقافة التعرف على الغريب والدخيل للأخذ بأفضل ما فيه ونبذ ما قد يتضمنه من سموم مخفية وراء قيم الحرية والديمقراطية وغيرها من القيم الإيجابية التى تستتر وراءها النوايا الخبيثة. وأكد الرئيس الروسي أن سيادة واستقلال ووحدة أراضى الدولة الروسية سوف تظل مرتبطة بشكل وثيق بتمسك الشعب الروسى بقيمه التقليدية وأسس عقيدته. ومن جانبه، يشير جريجورى دروزين، أحد أبرز الشخصيات الاجتماعية، إلى أنه يرى فى هذه الاستراتيجية نوعًا من تطور الاستعدادات الدفاعية لروسيا، وتأكيد ما يمكن تسميته «بالكود الحضاري» لروسيا، وهو الكود الذى يختلف عن مثيله الغربى والشرقى فى نفس الوقت. أما آنا كوزنيتسوفا، نائب رئيس مجلس الدوما، فهى تعترف بأن هناك حربًا جديدة تدور رحاها ضد روسيا، وهذه الحرب تختلف عن الحرب التقليدية فى أنها تستهدف قيم وأسس المجتمع، وأكدت بصراحة أن هناك أكثر من أربعين دولة تعمل معًا لضرب السبع عشرة قيمة تقليدية التى حددها الرئيس الروسى للمجتمع فى مرسومه رقم 809. فيما ترى إيلينا سيديرينكو، عضو المجلس الرئاسى للتطوير المدنى وحقوق الإنسان، وجود ضرورة للتعزيز التشريعى للكود الثقافى الروسي. ◄ الحروب التقليدية لاشك فى أن الأحداث التى يشهدها العالم فى السنوات الأخيرة سواء على صعيد النزاع فى أوكرانيا أو فى غزة أو العدوان الإسرائيلى على إيران وغيرها من مناطق العالم قد كشفت أن الحروب التقليدية لم تعد ذات أهمية كبيرة بقدر ضرب عمق وقلب المجتمعات ذاتها، وبعدها يصبح من السهل جدًا اختراقها وإسقاط الدول التى غالبًا ما تنهار من الداخل. ربما أن المحاولات التى يتحدث عنها الرئيس الروسى قد تعرضت وما زالت تتعرض لها الدولة المصرية من خلال الحملات الإعلامية الموجهة من جانب الغرب وتحركات منظمات تدّعى لنفسها مهمة حماية حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، ولكن كل ذلك يسير معًا فى نسق متسق لزعزعة ثقة الشعب فى سلطاته، ثم إثارة النعرات والكراهية بين مختلف طوائف المجتمع، وفى النهاية الوصول إلى فصل المجتمع عن سلطاته وشعور بعض شرائحه بالاضطهاد والرغبة فى الانفصام عن الوطن الأم. وفي النهاية يكون الوثوب على هذه الدولة سهلًا، حيث لن تجد فى الوطن من تتوافر لديه المشاعر الوطنية الكافية للذود عنه، وهو ما أيقنته مصر بشكل مبكر وتصدت له بقوة، وربما يكون هذا هو السبب الرئيسى فى حنق وانتقادات المنظمات المغرضة لمصر بعد أن أفشلت مخططاتها وأظهرت يقظتها الكاملة لما يُحاك بها. وكما أشرت من قبل، فالحروب الحديثة لم تعد تقوم فقط على الجيوش وقوة السلاح والدمار النيراني، بل إنها أكثر فتكًا بحيث تعمل عمل الفيروسات التى تأكل الجسد من الداخل. فقبل أن تعتدى إسرائيل على إيران عمدت إلى نشر عدد ضخم من العملاء والجواسيس الذين ظلوا يعيشون ويعملون وسط المجتمع الإيرانى لفترة طويلة ويتوغلون فى كافة جنباته، مما سهل على إسرائيل استهداف مختلف الشخصيات والمنشآت فى هذا البلد. ◄ الجبهة الداخلية والأمر لم يختلف كثيرًا فى روسيا، التى اتضح أن اختراق الجبهة الداخلية ربما يبدو أكثر خطورة من الجبهة الحقيقية للقتال المعروف بشكله التقليدي. ربما أن روسيا تعتبر من الدول التى تعرضت للغزو الثقافى لفترة طويلة إلى أن تنبهت لهذا الخطر، فشرعت فى سن القوانين واللوائح التى تصعّب على مصادر التهديد الخارجى التأثير على عقول ووجدان الشعب، وكان على رأس هذه اللوائح تنظيم عمليات التمويل الخارجي، وعلى الأخص بالنسبة لمنظمات المجتمع المدنى وتقييد فتح أفرع للمدارس والمراكز التعليمية الأجنبية فى روسيا والمتابعة اللصيقة لعمل الأجانب، وبصفة خاصة وسائل الإعلام الأجنبية ومراسليها. وقبل كل ذلك وذاك، وضعت قيودًا مشددة على امتلاك المسؤولين وموظفى الدولة فى كافة الهيئات والمؤسسات ودون أدنى استثناء لأصول أو حسابات بنكية فى الخارج، وفى حال ثبوت عكس ذلك على أى موظف أو مسؤول مهما كان وضعه يُقال فورًا من عمله إلى جانب إجراءات عقابية أخرى. لاشك أن من أخطر التحديات التى تهدد كيان أى دولة هو ضرب منظومتها الأخلاقية والعقائدية، فالقوى الخارجية المغرضة تعمل جاهدة على بثّ مفاهيم هدامة لتحويل الشعوب المتماسكة والمحافظة إلى كيانات هشّة من خلال نشر ثقافة الشذوذ الجنسى والتشكيك فى ثوابت العقائد المختلفة والتكاسل والتربّح السريع، وقبل كل شيء حبّ الذات، بحيث تقطع الحبل السُّرى الذى يربط المواطن بوطنه، والذى يُسمّى الوطنية. وعندما لا يُفكّر الشخص سوى فى نفسه وفى جمع المال وفى الشهوات ومظاهر الحياة السطحية، سيغيب عنه أى إدراك بأهمية الوطن وأى استعداد للذود عنه. وهنا يجب أن تنتبه الدولة لهذا الخطر فتضع البرامج المختلفة التى تعزز قيم المجتمع وتضمن تماسكه وتلاحمه، بما فى ذلك برامج لتعزيز مؤسسة الأسرة، وبرامج لتأصيل القيم الدينية السليمة، وبرامج التعليم والثقافة وتطويرهما بشكل دائم، والبرامج الإعلامية والصحفية التى تقوم بمهمة التنوير سواء للمجتمع أو لسلطاته. وقبل كل ذلك، رسم سياسات اقتصادية واعية، فكلما ازدهر اقتصاد الدول قلت فرص استغلال ضعف الأفراد فيه ونجاح القوى المغرضة فى زرع التطرف سواء الدينى أو الأخلاقى -أو بالأحرى اللاأخلاقي- بين أفراد المجتمع، بما فى ذلك، والأخطر، استقطاب النابغين والمتميزين فيه وتفريغ المجتمع من طاقاته.