تناولت السينما المصرية موضوع الآخر علي مدار تاريخها برؤي متعددة وشكلت كل مرحلة تاريخية ملامح هذا الآخر علي الشاشة وملامح الخطاب الذي يتناوله. كذلك تنوعت الأنواع السينمائية التي ظهر فيها من الكوميديا، للفيلم الغنائي، للدراما الاجتماعية في شكلها الميلودرامي أو الواقعي، للفيلم التاريخي، لأفلام الحروب، لسينما المؤلف المتحررة من الأنواع. كيف تشكلت صورة الآخر بين التنميط وكسر النمط في تاريخ السينما المصرية؟ وهل يمكن للسينما أن تفكك بعضا من أفكارنا المسبقة عن العالم؟ عن أنفسنا وعن الآخر؟ »الآخر» من الكلمات التي لا يتضح معناها إلا بإحالتها للسياق الذي تقال فيه، مثلها مثل »أنا»، »هنا» ،»الآن».فلكي نفهم من هو الآخر يجب أن نعرف من هو»الأنا» الذي يقولها، وما السياق الذي يحيط بخطابه: هل هو سياق منفتح؟ مرحب؟ مستعد لقبول المختلف؟ أم هو سياق صراعي، منغلق، يخشي الآخر ويرفض التواصل؟الآخر قد يتحدد معناه بالإحالة للبعد القومي، الثقافي، الديني، الأيديولوجي، قد يكون هو الملفوظ، المنسي، المجنون.. الآخر هو كل ما ليس الأنا، هو القادم من خارج الجماعة. تبدو السينما أرضا خصبة تنمو فيها الأفكار المسبقة عن الآخر »الشرقي»، »الغربي»، »العربي»، »الأسود» .. إلي آخره من هويات تختزل الوجود وتعدديته. وقد تناولت السينما المصرية هذا الموضوع علي مدار تاريخها برؤي متعددة ورسمت كل مرحلة سماته باستخدام أنماط معينة أو بمعارضة تلك الأنماط. خريطة مختصرة لصورة الآخر في السينما المصرية في بدايات السينما المصرية كان هناك تواجد للديانة الأخري بشكل لافت للنظر. فبخلاف ظهور شخصيات منتمية لديانات متعددة في قصص الأفلام، فإن عناوين الأفلام التي تحمل أسماء تعلن عن هوية دينية كانت شائعة : »برسوم»، »شالوم»، »فاطمة»،»راشيل»، »مرقص» .. وكانت هذه التعددية الدينية تعبر عن قدر لا بأس به من التآلف المجتمعي. إختفي نوعا ما وجه الآخر ذو الديانة المختلفة منذ النصف الثاني من الخمسينات، ثم عاد للظهور منذ التسعينات علي خلفية تصاعد الخطاب الديني الراديكالي، فأنتجت بعض الأفلام التي تتناول ظاهرة التطرف : »الارهابي»، »بحب السيما»، »حسن ومرقص»، »هليوبوليس»، »مولانا» . أما الآخر ذو القومية المختلفة فقد تواجد أيضا علي الشاشة في البدايات في صورة »الخواجة» من خلال شخصية الجار الأرمني أو اليوناني، ومن خلال شخصيات محببة مثل الخواجه بيجو أو الخياطة أو جواهرجي السينما المصرية أدمون تويما.ثم مالبثت هذه الشخصية أن توارت بخصالها الطيبة وحلت محلها منذ أواخر الخمسينيات صورة المستعمر الأجنبي مغتصب الأرض في أفلام المقاومة والمعارك. الآخر أيديولوجيا ظهر بشكل متفرق في تاريخ السينما وغالبا في صورة سلبية. أحيانا كان اليساري الثائر المنفصل عن المجتمع الذي يعيش داخل أفكاره (القاهرة 30 - فوزية البرجوازية – السفارة في العمارة) وأحيانا أخري هو الأصولي المتشدد، وهنا يتداخل البعد الديني مع الأيديولوجي في تصوير هذه الشخصية المارقة (طيور الظلام – الآخر - عمارة يعقوبيان ..) التنويعة الرابعة للآخر مبنية علي المسافات التي تفصل الشرائح الاجتماعية. فنجد المقابلة الشائعة بين الغني والفقير، بين الآخر الأرستقراطي المتعجرف، والفقير المغلوب علي أمره في فترات عديدة من تاريخ السينما المصرية سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها. ولكن منذ نهاية التسعينيات بدأت تلك الصورة في التحول، فالآخر اجتماعيا لم يعد الفقير الطيب ساكن الحي الشعبي لكن ساكن العشوائيات الذي يشكل مصدرا للخطر علي الأمان الاجتماعي وينتمي لطبقات مهمشة قابلة للانفجار (حين ميسرة– إبراهيم الأبيض ..) يتيح لنا هذا الاستعراض السريع فهم ثلاثة أفلام يقدم كل منها وجها للآخر يسعي لكسر النمط الذي أسسته النماذج الشائعة السابق ذكرها. »برسوم يبحث عن وظيفة» : السخرية تحطم النمط ظهر الآخر بأكثر من بعد في أول فيلم مصري روائي وهو »برسوم يبحث عن وظيفة» 1923 من إخراج محمد بيومي. الفيلم كوميدي قصير مستمد من شكل الفارس المسرحي ويحمل عنوانه إسم شخصية مسيحية : »برسوم». تدور أحداثه بين ثلاث شخصيات الشيخ متولي، برسوم المسيحي، شمهورش اليهودي. يعرض برسوم نفسه للإيجار مقابل الحصول علي الطعام ويستغله الشيخ متولي الذي لا يقل عنه جوعا لاستغفال شمهورش صاحب البنك للحصول علي وجبة ساخنة في منزله الثري. ينتهي الفيلم بالقبض علي برسوم والشيخ وهما في حالة تسكع. يخلط الفيلم الأوراق في موضوع الديانة بسخرية. فبرسوم يلعب دوره ممثل مسلم، والشيخ متولي يلعب دوره ممثل مسيحي. الشيخ متولي بخلاف صورة رجل الدين، داهية يحرك الأحداث باستغلاله حاجة كل من برسوم وشمهورش الذي يقع بسهولة في الفخ، فيعد مائدة عامرة بالطعام محطما نمط اليهودي البخيل الماكر. تبدو الشخصيات علي اختلافاتها مندمجة في نسيج اجتماعي صراعه الأساسي مرتبط بالفقر والحاجة. فما نراه علي الشاشة هو شخصيات لعاطلين، حفاة، لصوص في ثياب مهلهلة يهيمون في الشوارع وسط منازل متهالكة، ويجد المشاهد نفسه أقرب لمشاطرتهم مشكلاتهم المعروضة بشكل هزلي في مقابل مسافة ساخرة تبعده عن اليهودي الثري المضحوك عليه. صورة الآخر في الفيلم لا تنفصل عن مرحلته التاريخية.فمع سنوات النشأة للصناعة السينمائية والتي لعب الأجانب من ذوي الديانات المختلفة فيها دورا كبيرا، كان من الطبيعي أن ينعكس هذا التنوع في الحقل السينمائي بممثليه ومخرجيه ومنتجيه علي قصص الأفلام (سلسة أفلام شالوم علي سبيل المثال) خاصة مع الكوزموبوليتانية التي ميزت المجتمع في تلك الفترة.علي جانب آخر فإن فيلم برسوم يبحث عن وظيفة، قد عبربشكل ما عن مرحلة ثورة 1919 وما صاحبها من دعاوي للمؤاخاة بين طوائف الأمة المصرية وهو ما ظهر في الفيلم من خلال بعض الأيقونات مثل صورة سعد زغلول المعلقة علي حائط في حجرة الشيخ متولي أو شعار »يحيا الارتباط» المكتوب علي حائط الحجرة التي ينام فيها برسوم. »الناصر صلاح الدين» و العدو الصديق الآخر هنا هو الأجنبي العدو المرتبط بتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. كثيرة هي الأفلام التي اتخذت من هذا الصراع موضوعها الأساسي فيظهر بها الآخر كمحتل، مغتصب، أو جاسوس لا مجال للحوار معه حتي يتحرر الوطن.بخلاف هذه الصورة النمطية ، يقدم يوسف شاهين في »الناصر صلاح الدين» صورة تحتوي علي مساحة ظلالية تضفي قدرا من التركيب علي شخصية الآخر.فالأنا في الفيلم هم العرب بالطبع، وهي ترتكز علي تبني معيار قومي: أورشاليم مدينة عربية يجب تحريرها من المحتل الذي يتخذ من الدين ستارا للسيطرة علي الأرض. يرفض الفيلم المعيار الديني ويقدم أورشاليم كمكان عاش فيه المسلمون والمسيحيون في سلام علي مدار التاريخ. وتلعب شخصية عيسي العوام العربي المسيحي الذي يحارب بجانب صلاح الدين ضد الصليبيين دورا هاما في تأصيل هذه الفكرة. أما علي الجانب الآخر فنجد الصليبيين يعرفون أنفسهم بالانتماء الديني وهدفهم تحرير قبر المسيح من أيدي المسلمين. يظهر الآخر في الفيلم بثلاث صور. الأولي هي الصورة النمطية للعدو ويمثلها حلفاء ريشتارد قلب الأسد تلخصهم صفات الجشع والخيانة والتجارة باسم الدين. الصورة الثانية يمثلها ريتشارد حيث يظهر كقائد شجاع، صادق في إيمانه بقضيته، يتمتع بخصال الفرسان النبلاء.ثالثا نجد الجنود المغرر بهم بإسم الحرب المقدسة، يفتقدون ذويهم في معني إنساني للألم يتجاوز الانتماءات الدينية أو القومية.من بين هذه المجموعات الثلاث، يقع التركيز علي ريتشارد قلب الأسد ولويزا حيث يتيح التخلي عن نمط شخصية العدو الشرير الثابتة الأحادية إمكانية للتلاقي وإقامة الحوار. وتتطور هاتان الشخصيتان باتجاه التخلي عن فكرة السيادة الدينية علي بيت المقدس، طالما يتوافر للجميع حرية العبادة في ظل قيم إنسانية تضمن السلام للجميع. ليس من الصعب قراءة الحالة القومية التي يستنفرها »الناصر صلاح الدين» في ظل المرحلة الناصرية التي أنتجت الفيلم. فمفهوم القومية يظهر باعتباره مظلة أكثر رحابة في تقبل الآخر من فكرة الانتماء الديني وهو ما يتماشي مع أساسيات الخطاب القومي.ويطرح الفيلم بقوة فكرة الحوار، سواء بشكله السياسي (تطبيب صلاح الدين لريتشارد إثر (إصابته بجروح في إحدي معاركهما) أو بشكله الانساني قصة الحب بين عيسي العربي ولويزا الصليبية) وهي فكرة شاهينية نجدها في العديد من أفلامه. وجدير بالذكر أن الجائزة التي حصل عليها الفيلم من المركز الكاثوليكي المصري للسينما عام 1963 كان من حيثياتها دعوة الفيلم للسلام. » مواطن و مخبر و حرامي» : الثلاثي الهجين قدمت العديد من الأفلام الميلودرامية في الخمسينات والستينات الأنا والآخر تفصلهما مسافات طبقية واسعة. فمن ناحية نجد طبقة الأثرياء تمثلها الشخصيات الشريرة الأنانية، تحيط نفسها بالأبهة والتقاليد الزائفة وعلي الجانب الآخر طبقة الفقراء تمثلها شخصيات كريمة، متحررة من الزيف.سيطرت هذه االثنائية علي صورة الآخر في بعده السوسيوثقافي وارتبطت الي حد بعيد بحالة الحراك الذي صاحب ثورة يوليو الاشتراكية ومقدماتها،حيث ساد خطاب ينادي بذوبان الفروق بين الطبقات لصالح طبقة متوسطة صاعدة هي التي قادت أحلام تلك المرحلة. »مواطن ومخبر وحرامي» لداوود عبد السيد جاء في مرحلة لاحقة ودخل في حوار مع هذا التراث السينمائي مقلبا بعض ثوابته في سخرية مريرة. في الفيلم ثلاث شخصيات تنتمي لعوالم متعارضة تشاء الظروف أن تضعها في صراع حاد.الشخصية الرئيسية هي للمواطن سليم، أديب يعيش في فيلته القديمة يحيط نفسه بالكتب واسطوانات الموسيقي وأصدقائه المختارين من نفس طبقته. يشمئز من الاختلاط بالمجتمع، ويرفض محاولات التقارب التي يبديها من يسميهم »الجهلاء» من المحيطين. نراه في مكانه المفضل: مكتبه، منهمكا في الكتابة محاطا بالأقلام والأوراق المبعثرة والمكتبة الضخمة تغطي الجدران، يستمتع بتذوق المشروبات الفاخرة في صالونه المتهالك. تكرس آليات تصوير الشخصية لصورة الكاتب المنعزل عن الواقع، تحيلنا حينا للسخرية من تلك الشخصية المتعالية بعلمها العاجزة بفعلها، وحينا آخر للتعاطف معها لوقوعها داخل واقع عبثي تتورط فيه وتفشل في التعامل معه. علي الجانب الآخر نتعرف علي الحرامي والمخبر وكلاهما من طبقات شعبية متواضعة لكن ليست فقيرة. تعتمد بنية الشخصيتين علي المفارقة، حيث يحمل كل منهما ضده بداخله. فالحرامي طيب، لا يسرق المحتاج، مطرب شعبي، يقرأ الكتب، يحتفظ ب »المفيد» منها ويحرق منها ما يراه »هداما»، يستدفيء به أو يعمل علي ناره الشاي!أما شخصية المخبر فتجمع أيضا بين الضدين، هو أداة للسلطة، مشهود له بالكفاءة من رؤسائه ولكنه يحتفظ بالعديد من العلاقات الطيبة مع عالم اللصوص والبغايا تمكنهم من الوثوق به واستخدامهم وقت الحاجة. تحدث المواجهة عندما يسرق الحرامي مخطوطة الرواية التي يكتبها سليم المواطن ويقرؤها ثم يحرقها لأنها تضر بالمجتمع و» تعلم الناس قلة الأدب» ! يراجع الفيلم الأنماط والدلالات الكلاسيكية المشار إليها في تاريخ السينما المصرية. فالمواطن المنتمي للطبقة »الأكثر حظا» بعلمه وفن هو ببقايا عز قديم ، هي الأقرب لإثارة تعاطف المشاهد. أما الطبقة »الدنيا» فهي التي تصور الآخر، ويمثلها خارج عن القانون ومخبر فاسد. وبقدر ما يبدو سليم منغلقا علي عالمه رافضا للآخر متعاليا، بقدر ما تبدو شخصية كل من الحرامي والمخبر أكثر انفتاحا علي فكرة التفاهم الطبقي وأكثر إلحاحا عليها. وهو ما يحدث بالفعل بعد أن يصل الصراع لمداه فيقرر المواطن التصالح مع الآخر وإعادة تشكيل ذاته بتخليه عن حرية الإبداع وذوبانه في الثلاثي الهجين مع المخبر والحرامي. يقدم الفيلم هذه القصة في قالب أقرب للحدوتة الفلسفية الساخرة ذات المعاني المراوغة. هذا الانقلاب علي الدلالات السوسيوثقافية التي شكلت ثوابت في تاريخ السينما المصرية يمكن فهمه علي خلفية اندثار الطبقة الوسطي التي تكونت مع ثورة يوليو 1952 بقيمها، وذوبانها في طبقة جديدة قوامها أصحاب المصالح والانتهازيين، وكأن التصالح مع الآخر بخلاف النموذجين السابقين يقود الشخصيات للتشوه والإغتراب. تكسر الأفلام الثلاثة التركيب الأحادي لشخصية الآخر كل في إطار القضية التي يعالجها. وإذا كان موضوع الأنا والآخر عادة ما يظهر في سياق المواجهة، فإن كسر النمط في هذه الأفلام يبدو وكأنه الشرط الفني الذي يسمح بإقامة حوار وبمد جسور للتفاهم مع المختلف سواء شكل هذا التفاهم قيمة إيجابية يدافع الفيلم عنها أو سلبية يدعو لرفضها.