لا أظن أن تعبير "كتلة ثالثة" دقيق بشكل كامل. ما حدث في الانتخابات من تصويت واسع ضد الإخوان والشبكة الأمنية- السياسية التي تدعم شفيق يمكن فهمه بوصفه عرَضا لفشل مستحكم لكلا المشروعين في تحقيق أي قدر من الشعبية والحضور في المجتمع المصري يتجاوز قواعدهم المحددة سلفاً، وهي قواعد ليست بالمحدودة علي أي حال.. بعبارة أخري نحن بصدد فشل في تأسيس مشاريع للهيمنة الفكرية والسياسية تستوعب مصالح ومطالب وحساسيات ثقافية مختلفة لغالبية المصريين في مشروع واحد تجد فيه هذه الغالبية معبراً عنها: لم يقدم الإخوان أي شيء في هذا الاتجاه، ومن المؤكد أن شفيق لم يحاول أصلاً، كلا الطرفين يستنسخان منطق النظام في النظر لمسألة الحكم بوصفها عملية أعقد وأخطر من أن تُترك لعموم الناس، وكلا الطرفين يطمحان لتأسيس طبعات مختلفة من نظام يوليو القائم علي دولة موازية قوامها شبكة سرية من الأجهزة الأمنية، ومجموعة ضيقة موثوق فيها، بيدها الحل والعقد شريطة ألا تنفتح هذه علي أي تأثيرات قادمة من خارجها. باختصار كلا المشروعين قائمين علي تسريح جماهير الثورة باسم الثورة إن جاز التعبير.. في حالة شفيق لا يتم إنكار السعي لإنعاش دولة يوليو الأمنية وأجهزتها التي ستقوم مقام أي تشكيل سياسي حقيقي وفي حالة الإخوان فالقلب الصلب للجماعة حول خيرت الشاطر وشبكته الواسعة من "الثقات" ستحل محل أي كيان سياسي يعمل بشفافية وفي أجواء تنافسية. طبيعي والحال كذلك أن يفشل كلا المشروعين في أي اختبار تصويتي إذ أن شرط إمكانهم اللازم هو مصادرة الحياة السياسية من الأصل، هذا بخلاف أن أيٍ من المشروعين السلطويين لم يغلفا سلطويتهما برطانة شعبوية كما حاول حازم صلاح أبو اسماعيل مثلاً، فظهر كلا المرشحين في غربة تامة وعزلة كاملة عن جمهور الناخبين، خصوصاً في حالة محمد مرسي.. ومن ثم فالتصويت الواسع ضد الإثنين يمكن وصفه بالتصويت الاحتجاجي الناتج عن غياب أي مشروع للهيمنة قادر علي ملء الفراغ السياسي القائم منذ 25 يناير، ومن هنا أظن أن تعبير الكتلة الثالثة غير دقيق.. فالمصطلح يفترض أننا كنّا بصدد مشاريع متنافسة واضحة المعالم تم رفضها من قبل قطاع عريض من الجمهور أملاً في بديل ثالث، الحقيقة أننا كنا بصدد "لا مشاريع" عجز الناس عن التماهي معها فرفضوها بالجملة أملاً أن يقول أيٍ من تلك القوي المتصارعة، أو غيرهم، شيئاً ذا مغزي في المستقبل القريب. وهنا وقع اختيار الصوت الاحتجاجي علي حمدين صباحي الذي أفاده حضوره الإعلامي القليل نسبياً، وخطابه ذو النزعة الاجتماعية، وكونه لا ينتمي بأي شكل من الأشكال لطرفي المنافسة الإنتخابية الدائرة.. نحن إذن بصدد كتلة تركيبه متنافر جداً ولا يجمعها أي شيء تقريباً سوي رفض هذا الفراغ القائم، ومشاريع "التنظيمات السرية" التي فشلت في ملئه، وأظن أن غالبية هذه الكتلة أكثر ميلاً لدعم شفيق في الإعادة، إذ أن الجانب الإخواني لم يقدم حتي الآن علي أي خطوة تتفاعل مع إحباطات هؤلاء المصوتين.. شفيق في النهاية ينتمي للدولة التي يعرفها هؤلاء ولديهم خبرة في التعايش معها، الإخوان في هذه المعركة غرباء فعلاً.. علي العكس من معركة الانتخابات البرلمانية التي يحوذ فيها مرشح الإخوان علي شعبية معقولة في مناطقهم بشكل فردي. إذا أخذنا التوصيف السابق في الاعتبار فهذا الجمهور الواسع بالطبع لم يطور بعد أي وعي أو خطاب يتجاوز هذه الحالة الإحتجاجية... ولكن هذا الرفض في حد ذاته شيء إيجابي ويجب الاحتفاء به، فلأول مرة نري ظاهرة الناخب الحر الذي يصوت بشكل طوعي بعيداً عن آليات الحشد المتعارف عليها، وهذا الناخب أثبت أنه مفتاح الحكم في مصر فعلاً حتي ولو لم يفصح بصراحة عما يريد. فشلت كل صفقات الإخوان وتربيطاتهم في حشد الأغلبية المطلوبة، لا بديل الآن عن مخاطبة الناس بشكل مباشر بمشروع واضح وإلا فلا أمل في الحكم، الاتفاقيات مع السلفيين، واستصدار الفتاوي الدينية، وإرسال التطمينات للأمريكين، وشبكات البرجوازية الكبيرة في الإقليم، لن تصل بأحد إلي كرسي الرئاسة.. هذه كلها مؤشرات إيجابية وتدل أن هناك كوابح علي الاستبداد علي المستوي المنظور. ولكننا بالطبع بعيدين جداً عن رؤية مشروع وطني يعبر عن هذه الكتلة في هذا المستقبل المنظور أيضاً، وخطورة هذه الحالة أنها قد تسمح بإنعاش الخيارات الاستبدادية نفسها مرة أخري إذا وجدت قائدا جماهيريا وخطاب شعبويا قادرا علي إسنادها، ومرة أخري ظاهرة حازم أبو إسماعيل ليست عنا ببعيد ولا يجوز الاستخفاف بها أبداً، كثير من مصوتي هذه "الكتلة الثالثة" كانوا ناخبين محتملين لأبو اسماعيل في الأصل، عبء البديل هنا يقع علي عاتق كل الكتل المدنية المنظمة في المجتمع من أحزاب، وحركات عمالية، وجمعيات أهلية ديمقراطية.. هذه هي الكيانات القادرة أن تحول هذا المزاج الاحتجاجي لتيار ديمقراطي حقيقي له جذوره في المجتمع. أما بخصوص مخاوف عبادة الفرد في الفترة الحالية فلا أري أن لها أساساً قوياً.. كما حاولتأن أوضح، فالناس اختارت حمدين لتوصيل رسالة احتجاج قوية وليس إعجاباً بالرجل كما كان الحال مع حازم أبو اسماعيل، مخاوف البعض من خلفيته الناصرية ليس لها أساس من وجهة نظري.. علي العكس، الرجل تقريباً قطع بشكل كامل مع الميراث السلطوي في الناصرية بشكل لم يسبقه إليه أي مثقف أو سياسي عروبي علي وجه التقريب. أما من حيث العلاقة مع العسكر أو الكتلة الدينية فدعنا نتفق أن ما تسميه بالكتلة العسكرية لا يحمل أي مشروع للمستقبل أصلاً.. شفيق قادم لحراسة جثة دولة يوليو حتي ولو تخيل أنه في وارد إحيائها، هذه مسألة في منتهي الصعوبة إلا في حالة الخيار الشعبوي كما سبق الذكر، أما المشروع الإسلامي فأمامه فرصة شريطة قدرته علي إنجاز هيمنة من نوع ما، وهذا مرهون بتفكيك الحالة التنظيمية المغلقة والسرية التي حاولت توصيفها.. مشكلة هذه الحالة أنها مستندة علي مُركّب معقد جداً من المصالح المادية المباشرة والأفكار التي تمثل طبعات مختلفة من السلفية والقطبية، وبالتالي فتفكيكها مسألة في منتهي الصعوبة، في هذا السياق لا أظن أن تنظيم الإخوان بشكله الحالي قادر علي تحقيق إختراق في صفوف هذه الكتلة.. ربما مشاريع أقرب لحالة عبد المنعم أبو الفتوح تنجح في جذب قطاعات منظمة من هذه الكتلة. الصورة والحال كذلك تنبئ أن للقوي التي تسمي نفسها "مدنية" فرصة أكبر بكثير شريطة أن تنتبه أن شعار "مدنية الدولة" بدون أن يتمفصل مع رؤية اقتصادية واجتماعية متماسكة - أثبت الناس في مصر أنهم متعطشون إليها- سيصبح شعاراً أجوف قبل أن يتحول لمادة للتندر ثم مركزاً للهجوم الشعبي عليه في مرحلة لاحقة!