د. احمد زكريا الشلق - د. خلف الميرى خاضت الجماعة الوطنية المصرية عبر تاريخها نضالا كبيرا من أجل أن يكون للوطن دستور، ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وقد بدأ هذا النضال مبكرا منذ القرن التاسع عشر وأسفر عن إصدار الخديو اسماعيل عام 1866 للائحة إنشاء مجلس الشوري، ويري كثير من المثقفين والقانونيين والدستوريين، أن هذه اللائحة بتأسيس شوري النواب، بداية الحياة الدستورية المصرية، وان كان ينظر لدستور 1923 باعتباره أول دستور متكامل تعرفه الحياة المصرية. هذا الصراع الدائم للجماعة الوطنية بمختلف فئاتها وأطيافها وتوجهاتها، لكتابة دستور يليق بالبلاد، لم ينشأ من فراغ، أو النظر للدستور باعتباره مواد قانونية فقط، بل هو نتاج للمراحل التاريخية المختلفة التي عاشتها مصر، من هنا يمكن لنا أن نقرأ تاريخ الوطن من خلال الاطلاع علي دساتيره المختلفة، التي تكشف لنا الظروف المتباينة التي مرت بها البلاد، وانعكست علي دساتيرها. د. أحمد زكريا الشلق أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بآداب عين شمس يتفق مع الطرح السابق، موضحا أنه لاينبغي أن تنزع النصوص ومواد الدستور من سياقها العام، كما لاينبغي أن تنزع الدساتير ذاتها من سياقها التاريخي: سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، وثقافيا، فالدساتير تنشأ في ظل ظروف تاريخية معينة لتعبر عن مطالب وطنية تقتضي إرساء نظم وبناء مؤسسات تلبي حاجات المواطن في جميع المجالات، كما أنها قابلة للتطور، وفقا لما تقتضيه تطورات العصر والحفاظ علي ثوابت الأمة في ذات الوقت، ويضيف: لقد كافح المصريون عبر تاريخهم الحديث، إلي جانب كفاحهم من أجل جلاء المستعمر، من أجل أن يكون لهم دستور حديث يكف عنهم الاستبداد والدكتاتورية ويتضمن المباديء الأساسية لنظام الحكم ويحدد علاقة الحكام بالمحكومين، وينظم السلطات: تنفيذية، تشريعية، وقضائية، ويفصل بينهما ويقيم أركان النظام السياسي علي أسس ديمقراطية تستند إلي برلمان يشرع القوانين ويحاسب حكومة مسئولة أمامه، ولم يحدث ذلك إلا بإعلان دستور 1923، في أعقاب الثورة الوطنية عام 1919، ويعتبر هذا الدستور من ثمارها. سألته: هل طريق المصريين لإقرار دستور يعبر عن إراداتهم لم يلق تعنتا عبر التاريخ من الحاكمين؟ أجاب: بكل تأكيد لم تأت الدساتير للمصريين بسهولة ويسر، بل دفعوا ثمنها غاليا من دمائهم وشهدائهم عبر كفاحهم الطويل لاسترداد حريتهم، ونتج عن ذلك ألوان من الدساتير أو مشروعات الدساتير، أو الإعلانات الدستورية، التي صدرت تحت مسميات مختلفة، في شكل »أوامر كريمة من الجناب الخديو«، أو »لائحة اساسية صدر بها أمر عال« أو تحت اسم »القانون النظامي المصري« الذي صدر في عهد الاحتلال البريطاني، لكنها لم تكن دساتير مكتملة بالمعني الذي صدر به دستور 1923، وبعد ذلك عرفت مصر دساتير طبقت لفترات محدودة، كما مرت بفترات انقلب فيها أصحاب السلطة علي الدستور، وأوسعوه إيقافا وتعطيلا وتبديلا، والدساتير لاتستمد قوتها إلا من استقرارها وتعديلها بالطرق الدستورية التي تنص عليها الدساتير ذاتها، وطبقا لمبررات ضرورية ومقنعة. سألته: المطلع علي تاريخ مصر يكتشف أن هناك ربطا بين ثورات المصريين ودساتيرهم، التي تأتي غالبا بعد ثوراتهم؟ أجاب بالفعل.. عندما نستقريء تاريخنا الحديث والمعاصر نجد أن ثمة ارتباطا قويا بين ثوراتنا الوطنية والدستور، وارتباط المطلب الدستوري بالكفاح ضد المستعمرين والغزاة، وهو نفس ارتباطه بالكفاح ضد المستبدين الطغاة، فلائحة 1882 صدرت خلال أحداث الثورة العرابية في فبراير 1882، ودستور 1923 صدر في أعقاب ثورة 1919، وتم استعادة هذا الدستور وتعطيل العمل بدستور 1930، بسبب انتفاضة الشباب عام 1935، ومشروع دستور 1954، الذي تم إعداده في أعقاب ثورة يوليو 1952، وان لم يقدر له أن يصدر، سألته في ثورة 25 يناير كانت هناك هتافات بالحرية والمطالبة بدستور جديد، هل في التاريخ هتافات طالبت قبل ذلك بدستور؟ أجاب: في بداية تاريخنا الدستوري طالب المصريون بمجلس نيابي، ولعلنا نتذكر وقفة عرابي أمام الخديو توفيق في سبتمبر 1881، ثم هتاف المظاهرات في مطلع القرن العشرين للخديو عباس الثاني »الدستور يا أفندينا«، هكذا طلبوا الدستور حتي لو جاء منحة من »ولي النعم« أو »مكرمة« من حاكم، لكنهم لم يلبثوا أن أدركوا بعد ثورة 1919، أن الذي يمنح يستطيع أن يمنع ويسلب، لذلك أرادوه عام 1923، عقدا اجتماعيا، بعده فقهاء القانون يشاركهم ممثلون عن مختلف طوائف الشعب وفئاته، يوقعه الحكام، ويلتزمون بصيانته واحترامه وتنفيذه من خلال المؤسسات التنفيذية والتشريعية، تحت مظلة السلطة الفضائية المستقلة استقلالا حقيقيا ومحترما. سألته: إذن تاريخيا ما الأخطار التي هددت الحياة الدستورية، أجاب: من وجهة نظري خطران، أولهما عدم معرفة عامة الناس بمعني الدستور وأهميته في صون حقوقهم وتعريفهم بواجباتهم ومن ثم ضرورة احترامه والالتزام الأخلاقي بالقوانين المستمدة منه، وربما كانت الأمية وراء ذلك، أمية من لايقرأون ولايكتبون ممن يسهل علي محترفي السياسة تضليلهم، والأمية الثقافية لقطاعات واسعة من حاملي الشهادات.. وثانيها طغيان الحكام وأرباب السلطة من الملوك والرؤساء، وأدواتهم من أصحاب المناصب التنفيذية العليا، الذين يزينون لهم تعطيل الدساتير وترقيعها والعبث بنصوصها إرضاء لشهوة السلطة. سألته: كيف تنظر للدستور المزمع كتابته في الفترة القادمة وأجاب: لعل من الأثار الإيجابية لثورة يناير، أنها أشعرت الجميع بأهمية الدستور، ولعلنا الآن ونحن في هذه الفترة انتشر ما يمكن أن أطلق عليه بالثقافة الدستورية، لذا أري أن علي اللجنة التأسيسية التي ستشكل لصياغة دستور البلاد، أن تعرف ان مصر تمتلك تاريخاً وتراثاً دستوراَ، يقتضي منا الاستفادة منه والبناء علي الجيد من هذا التراث، ونحن بصدد إعداد دستور جديد لمصر الجديدة بعد ثورة يناير. الدكتور خلف الميري، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية البنات بجامعة عين شمس، واحد من أصحاب الدراسات التاريخية التحليلية للأحداث المختلفة التي مر بها المجتمع المصري، وقد بدأت حواري معه بسؤاله: هل يمكن قراءة الدساتير المصرية المختلفة بشكل تاريخي، بمعني هل تعكس نمط الحياة المصرية في لحظة ميلاد أي دستور؟ في تاريخ مصر الحديث، لن نجد ثمة حديث عن خصوصية مصرية في وضع دستور أو مواثيق دستورية، بطيلة الفترة التي خضعت فيها مصر للدولة العثمانية منذ أوائل القرن السادس عشر، حيث أصبحت مصر - وشأنها غالبية الدول العربية - ولاية عثمانية، وفي ظل هذه التبعية والخضوع، كانت تسري عليها الفرمانات والقوانينوالتنظيمات العثمانية، وأستمر ذلك منذ 1517م حتي حدوث بعض التعديلات في منظومة العلاقة في منتصف القرن التاسع عشر. وهنا يثار التساؤل عن المحاولات السياسية أو الدستورية التي بدأت منذ أوائل القرن التاسع عشر.. وفيما يمكن إعتباره المقدمات.. البعض يري أن التنظيم السياسي والإداري وغيرهما من أطر العلاقة المجتمعية في ضوء مرجعية قانونية في مصر جاءت في عهد محمد علي باشا وإصداره قانون (السياستنامة) عام (1835م) وحصر من خلاله السلطة في الديوان العالي وبضعة دواوين، ثم إصداره أمرا نشأت بموجبه جمعية عمومية كانت تعرف بمجلس المشورة تتألف من مديري هذه الدواوين السبعةوبعض العلماء والأعيان ثم نشأ فيما بعد المجلس الخصوصي، ولكن في تقديرنا أن كل ذلك كان في ضوء القانون السياسي الإداري ولكنه ليس التمثيل النيابي.