الكتاب:"ترانزيت" "ترانزيت"، الأثر التاسع في المدونة الشعرية للشاعر والباحث والمترجم اللبناني شربل داغر. وكأثر وتجربة، يتفرد بخاصيات ودلالات لنا أن نخصها بالتقصي والذكر، علما بأن "ترانزيت" قصيدة طويلة كتبت علي وتيرة نفس واحد، دون تحديد عناوين فاصلة كالمتداول. المتعدد، لا الواحد إن التلقي الحصيف للتجربة الإبداعية لشربل داغر، باختلاف هوياتها الأجناسية إذا جاز القول، تدفعنا للتوقف علي قلق الهوس بالتجريب الشكلي. وهو، في العمق، القلق الذي يتغيا تخليق شكله الخاص، الشكل الممثل للإضافة والتجديد. ونمثِّل هنا، أساساً، بروايته "وصية هابيل" (2008)، وعلي السواء "ترانزيت". ويحق في هذا السياق، قراءة الرواية والديوان من منطلق الانشغال بالهاجس التجريبي الشكلاني. إن "ترانزيت"، في ضوء التعاقد المنصوص عليه، والمتمثل في "شعر"، والذي يمكن عده ميثاقَ التعاقد والتلقي النقدي، فإنه نموذج دال علي النص المفتوح. ويجوز اعتبار المفتوح هنا: العابر، ومن ثم مقصدية اختيار العنوان: "ترانزيت"، فالعبور يتحقق من خلال أجناس يحتويها النص، يقولها، ويعيد إنتاجها:المسرحي: تأسيساً علي هيمنة الحوار، السردي : انطلاقاً من تمثل خاصة الحكي، الشعري: وهو الأساس، وتفصح عنه بلاغة الجملة الشعرية، السينمائي : انطلاقاً من ابتكار الصورة، إلي ثيمة الانتظار، والتفكير في صيغة الإخراج الفني والجمالي. ف"ترانزيت" في ضوء كونه النص العابر، هو نص البين- بين، النص المفتوح علي التعدد والتنوع، لكن في سياق الواحد: جنس الشعر. إن أولي دلالات النص العابر تتجسد في نوعية العتبات التي يتم، انطلاقاً منها، التمهيد للديوان. فمن حيث مرجعيتها نجد: العتبات المحيلة علي التراث العربي (الأدبي والفلسفي) مع: الجاحظ، والغزالي وابن الجوزي، العتبات المحيلة علي التراث العالمي الفكري والفلسفي مع: نيتشه، وهايدغر وبول ريكور، العتبات الذاتية الشخصية الدالة علي الشاعر نفسه، من خلال الديوان ذاته: "ترانزيت"... فالتنوع تجسيد للثقافة الجامعة بين التراث العربي القديم والفكر الإنساني العالمي. هذه الثقافة الجامعة يتم تصريفها علي السواء ضمن المقروء، بمقصدية غايتها الانفتاح علي المتعدد وليس الواحد. فالنص "ترانزيت" نتاج نقلة وتحول وتصريف، لتكون مرجعية المؤلف محصلة نهائية لقوة حضور النص-الديوان. من ثم صيغت بلاغة العتبات وفق الترتيب المعتمد: من التراث العربي، إلي الغربي فالحديث كنص وذات. إذا تقصينا الدلالة الثانية نجد العنوان في ضوء كونه المفتاح الاستهلالي للتلقي، يدلُّ علي سفر، علي انتظار بين محطة وثانية، بين فضاء وفضاء. والأصل أن سفر الواقع رحلة في المابين: نص/لانص. فهو نص انطلاقاً من التحديد الأجناسي: شعر، فيتحدد أفق التلقي بدقة. وهو لا نص من منظور تكسير أفق التلقي، حيث نجد المألوف، المتداول، يكسره المتغير بالانباء علي التجريب الشكلاني. ذلك أن ما يرتسم علي البياض كجسد نصي يمتلك خاصيات النص المسرحي ومواصفاته، وأولها: الحوار. وباعتماده تتعدد مستويات القول التي اقتضت تشكل البناء النصي علي صورة هي هويته، وتستلزم التلقي في حدودها. فالقارئ المتلقي غير العادي، يقع علي مستوي إنتاج المعني، بين مسافتين-رؤيتين: رؤية يفصح عنها الواقع، وثانية ينتجها جمالياً النص. تجلي الحياة يحق التوقف، في الدلالة الثالثة، عند المعني المنتج علي امتداد الديوان. وهو معني يتقصي انطلاقاً من الشكل المسرحي، متمثلاً في مكون الحوار بين فاعلين: أصوات، ومتكملين، إضافة إلي المخرج المرتب للأوضاع، والفلسطيني، والعامل والجاحظ... ف"ترانزيت" فضاء لتعدد الهويات والأوعاء، ولتداخل مستويات القول. إنه استعارة كبري للتجلي الحياتي في مختلف أشكال تمظهره. علي أن محمول الحوار إفضاء ذهني فكري، وهو بمثابة قلق وهاجس للذات الشاعرة. حتي أنه ليمكن القول بأن في صورة التعدد/جسد النص، يبرز التمرئي. وكأن الإيهام بالتعدد إحالة علي الواحد فقط: " في العتمة صوت: هي بقعة.. صوت: ( آخر مقاطعا):... لكنها لا تصلح للنزهة... صوت: هي جهة غير معلومة... صوت: ( مقاطعاً):... لكنها باتت معلومة. صوت: أهي تفاحة أم غصن؟ (ينتظر جوابا لا يأتي..)" (ص 21). "الجاحظ (داخلا باستعراضية بادية): أنا الجاحظ، تعرفوني... متكلم (داخلاً معترضاً): مالك تتكلم مثل زياد بن أبيه؟ الجاحظ: التشبيه خطير. أما تعلم؟ متكلم: أنا الخليفة إن شئت ، و لا يجوز في مثلي التمثيل. " (ص 187) إن شربل داغر، انطلاقا من هذه الدلالات، يتفرد بتجربة الكتابة الشعرية في هذا الديوان، وهو أصلا التفرد المفتوح علي الامتياح من أجناس أدبية مختلفة ومتباينة، حيث الشكل ينتج ذاته ويناقضها، مثلما الوعي وما يضاده. لذلك تبقي هذه الكتابة تجريبية، تخلق عشق تلقيها، تماماً كما خلقت عشق كتابتها وتدوينها. إلا أنه في العمق العشق الذي يبني بدائله علي التراث العربي القديم، متجسداً في هذا الديوان بالضبط علي ما جاء به الجاحظ في كتابه: "كتاب التاج"، نواة الإبداع والتأليف، والذي يحتم قراءة تفاعلية مقارنة.