حرب أكتوبر| اللواء صالح الحسيني: «الاستنزاف» بداية النصر الحقيقية    بالأسماء، نقابة أطباء أسوان الفرعية تحسم نتيجة التجديد النصفي    عيار 21 يسجل رقمًا جديدًا.. انخفاض أسعار الذهب والسبائك اليوم السبت بالصاغة    يصل إلى 8 جنيهات، ارتفاع أسعار جميع أنواع الزيت اليوم في الأسواق    النيل.. النهر الذي خط قصة مصر على أرضها وسطر حكاية البقاء منذ فجر التاريخ    الري تعلن رقمنة 1900 مسقى بطول 2300 كم لدعم المزارعين وتحقيق حوكمة شاملة للمنظومة المائية    بعد تهديدات ترامب للصين.. انخفاض الأسهم الأوروبية    الكشف عن موقع تمركز الفريق العسكري الأمريكي في إسرائيل لمراقبة تنفيذ اتفاق غزة    ترامب يعتزم فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 100% على الصين    بعد فوزها بنوبل للسلام.. ماريا كورينا تهدي جائزتها لترامب    بعد اتهامه بالتعسف مع اللاعبين، أول تعليق من مدرب فرنسا على إصابة كيليان مبابي    بعد رحيله عن الأهلي.. رسميًا الزوراء العراقي يعين عماد النحاس مدربًا للفريق    التعليم: حظر التطرق داخل المدارس إلى أي قضايا خلافية ذات طابع سياسي أو ديني    حريق يثير الذعر فى المتراس بالإسكندرية والحماية المدنية تتمكن من إخماده    وفاة المغني الأسطوري لفرقة الروك "ذا مودى بلوز" بشكل مفاجئ    أطباء يفضحون وهم علاج الأكسجين| «Smart Mat» مُعجزة تنقذ أقدام مرضى السكري من البتر    أسعار التفاح البلدي والموز والفاكهة في الأسواق اليوم السبت 11 أكتوبر 2025    موسم «حصاد الخير» إنتاج وفير لمحصول الأرز بالشرقية    تصفيات كأس العالم 2026| مبابي يقود فرنسا للفوز بثلاثية على أذربيجان    استعداداً لمواجهة البحرين.. منتخب مصر الثاني يواصل تدريباته    أولياء أمور يطالبون بدرجات حافز فنى للرسم والنحت    بالأسماء.. إعلان انتخابات التجديد النصفي لنقابة الأطباء في القليوبية    «الوزراء» يوافق على إنشاء جامعتين ب«العاصمة الإدارية» ومجمع مدارس أزهرية بالقاهرة    محمد سامي ل مي عمر: «بعت ساعة عشان أكمل ثمن العربية» (صور)    مصطفى كامل يطلب الدعاء لوالدته بعد وعكة صحية ويحذر من صلاحية الأدوية    الموسيقار حسن دنيا يهاجم محمد رمضان وأغاني المهرجانات: «الفن فقد رسالته وتحول إلى ضجيج»    عمرو أديب: شيء ضخم جدا هيحصل عندنا.. قيادات ورؤساء مش بس ترامب    مع برودة الطقس.. هل فيتامين سي يحميك من البرد أم الأمر مجرد خرافة؟    برد ولا كورونا؟.. كيف تفرق بين الأمراض المتشابهة؟    وصفة من قلب لندن.. طريقة تحضير «الإنجلش كيك» الكلاسيكية في المنزل    فلسطين.. 155 شهيدًا خلال 24 ساعة رغم بدء سريان وقف إطلاق النار    بمشاركة جراديشار.. سلوفينيا تتعادل ضد كوسوفو سلبيا في تصفيات كأس العالم    التصريح بدفن طالب دهسه قطار بالبدرشين    مقتل كهربائى بالمنصورة على يد شقيق طليقته بسبب خلافات    غادة عبد الرحيم تهنئ أسرة الشهيد محمد مبروك بزفاف كريمته    حروق من الدرجة الثانية ل "سيدة وطفلها " إثر انفجار أسطوانة غاز داخل منزلها ببلقاس في الدقهلية    العراق: سنوقع قريبا فى بغداد مسودة الإتفاق الإطارى مع تركيا لإدارة المياه    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. ترامب يعتزم عقد قمة مع دول عربية وأوروبية خلال زيارته لمصر.. الخطوات التنفيذية لاتفاق شرم الشيخ لوقف حرب غزة.. وانفجار بمصنع ذخيرة بولاية تينيسى الأمريكية    ترامب: اتفاقية السلام تتجاوز حدود غزة وتشمل الشرق الأوسط بأكمله    13 ميدالية حصاد الناشئين ببطولة العالم لرفع الأثقال البارالمبي بالعاصمة الإدارية    من المسرح إلى اليوتيوب.. رحلة "دارك شوكليت" بين فصول السنة ومشاعر الصداقة    الهضبة عمرو دياب يحتفل بعيد ميلاده.. أيقونة لا تعرف الزمن    د. أشرف صبحي يوقع مذكرة تفاهم بين «الأنوكا» و«الأوكسا» والاتحاد الإفريقي السياسي    وزارة الشباب والرياضة| برنامج «المبادرات الشبابية» يرسخ تكافؤ الفرص بالمحافظات    وزارة الشباب والرياضة.. لقاءات حوارية حول «تعزيز الحوكمة والشفافية ومكافحة الفساد»    15 أكتوبر.. محاكمة أوتاكا طليق هدير عبدالرازق بتهمة نشر فيديوهات خادشة    صحة الدقهلية: فحص أكثر من 65 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية    جنوب سيناء.. صيانة دورية تقطع الكهرباء عن رأس سدر اليوم    تفاصيل طعن مضيفة الطيران التونسية على حكم حبسها بتهمة قتل نجلتها    هالة صدقي تهنئ الإعلامية إيناس الدغيدي بعقد قرانها: "تستاهلي كل خير"    انطلاق بطولة السفير الكوري للتايكوندو في استاد القاهرة    جلسة تصوير عائلية لنجل هانى رمزى وعروسه قبل الزفاف بصحبة الأسرة (صور)    فوز أربعة مرشحين في انتخابات التجديد النصفي لنقابة أطباء القليوبية وسط إشراف قضائي كامل    أحمد عمر هاشم يستحضر مأساة غزة باحتفال الإسراء والمعراج الأخير    أدعية يوم الجمعة.. نداء القلوب إلى السماء    أصحاب الكهف وذي القرنين وموسى.. دروس خالدة من سورة النور    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 10-10-2025 في محافظة الأقصر    الحسابات الفلكية تكشف أول أيام شهر رمضان المبارك لعام 1447 هجريًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحالة الحرجة للمدعو «ك»:رحلة البحث عن الذات في ضوء المعاناة والمرض
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 05 - 2018

في تقديرنا ثمة عديد من المقومات الجمالية التي تصنع فرادة رواية الحالة الحرجة للمدعو »ك«، للكاتب السعودي عزيز محمد، لا تخطئها العين الخبيرة والقلب العارف بالروايات من بداية هذه الرواية وربما من صفحاتها الأولي، وحين تتحدد بعض السمات الجمالية لأي نص روائي مع بدايته ودون الاكتمال فإن الأمر قد يتعلق بما يمكن تسميته بالنسيج السردي وخصوصيته، وهو ما يقترب بدرجة ما من مفهوم العيّنة إن جاز استخدام هذا المفهوم. ولنفرض مثلا أن هذه العينة أو هذه البداية التي يمكن الحكم عبرها علي فرادة هذا السرد قد تكون في حدود عشرين صفحة مثلا أو أقل أو أكثر قليلا، فإن هذا يرتبط في تقديرنا بلغة هذا السرد وإيقاعه أو (الريتم) والوتيرة السردية وطابع الخطاب في صنع نقلاته وتحولاته، وقد ترتبط هذه الخصوصية كذلك بدرجة دفء الصوت السردي وقدر حميميته. هذه كلها ليست مقولات مطلقة بل لها معيارها المحدد الذي يمكن الاعتماد عليه في الفحص والتحليل. ثم تنسحب هذه السمات التي يتم اكتشافها في العينة علي بقية خطاب الرواية، وتتأكد بعض القيم الجمالية الأخري التي تتحدد عبر مجمل بنية خطاب الرواية واكتمال حيلها السردية وقدراتها أو الأنساق العامة الفاعلة بشكل كامل وتمتد من أول الرواية حتي آخرها بمثابة الروح فيها. والحقيقة إن لغة هذه الرواية لغة خاصة إلي أبعد درجة، فثمة ما يمكن تسميته بصراع اللغة مع المشاعر الموغلة في المراوغة والعمق، فهي لغة تتسلل برقة كبيرة حتي تتمكن من اقتناص أحوال شعورية مهملة أو تبدو غير ذات قيمة، ترتبط هذه المشاعر بانفعالات البطل مريض السرطان وما يسكن الأفعال الهينة لمن يحيطون به من أهل أو أصحاب اختصاص في علاجه من أطباء وممرضين أو مرضي آخرين. والحقيقة أن كلمة صراع هنا في حق اللغة غير دقيقة لأنه لا أثر هناك لأي صخب للغة تصارع، فهذه اللغة تنتصر وتقتنص هذه المشاعر الهينة أو تلك التي تبدو عابرة بقدر كبير جدا من السلاسة وتنقلها بدرجة عالية من التدفق والتلقائية. أحيانا أتصور أنه لا توجد أدني تعديلات قد أجريت علي لغة هذه الرواية أو أدني محاولة لتدخل لاحق لضبط التراكيب أو التعبيرات أو المفردات، فهي تبدو في ظني نابعة وفق تدفق مباشر من القلب أو من تلك الذات المشحونة بهذه الحال التي تجسدها الرواية. ثمة ذات ساردة تدرك من العالم زاوية رؤية خاصة جدا ذات تنصت علي العالم والأشياء وعلي الشخصيات وتشرع كافة حواسها ومداركها ومشاعرها لهذا العالم وتنقل عبر كل هفوة مما تدرك من هذا العالم. من الطريف الذي ربما لن يلحظه إلا قليلون في هذه الرواية أنها لم تكن بحاجة علي الإطلاق لتسمية أي من الشخصيات برغم كثرتها، ومن هنا يكون ثمة نسق مغاير في تحديد الشخصيات وترتيبها وتفصيل مواقعها عبر درجة القرابة وعبر خصوصية ملامح كل شخصية سواء الداخلية أو الخارجية أو عبر الفعل والوظيفة أو باختصار شديد تتحدد كل شخصية عبر إدراك البطل لها فالرجل الذي يجلس إلي جانبه هو الشيخ المتماهي تماما مع شاشة الكمبيوتر، والمدير هو لغد الديك، وأحد زملاء العمل هو زجاجة العطر، لأنه يبالغ في استخدام العطور، وهكذا في بقية الشخصيات. وهكذا نجد أن علاقات العمل والزملاء فيه لم تكن هناك صعوبة علي الإطلاق في تحديد الشخصيات فيها عبر هذا الحس المرهف بكل زميل والاستناد لهذا التفاوت الكبير بين البشر في السلوك ورد الفعل وكيفية التفاعل مع السارد الرئيس أو صاحب الصوت السردي (ك) أو ما يمكن تسميته في هذه الرواية بالبطل بالفعل دون خلل أو التباس بين مصطلح البطولة بالمنظور الكلاسيكي والمنظور الحداثي الذي لا يزيد عن كونه الشخصية صاحبة المساحة الأكبر في فضاء النص الروائي، لأن معني البطولة الكلاسيكي وهو المخلص حاضر في هذه الرواية بشكل ما لأننا في النهاية أمام شخصية خاضت معركة وخرجت منها قوية مهما كان قدر ما لحق بها من آثار وطعنات في هذه المعركة. ما أريد قوله فيما يخص التسمية وإلغائها تماما أن هذا تم بناء علي استناد فني أكثر دقة وهو حاصل الفوارق بين هذه الشخصيات في إدراك الذات الساردة لها وما نتج عنها جميعا من فوارق دقيقة للغاية صنعت التمايز بين الشخصيات دون حاجة للتسمية. في ظني كذلك أن إفلات الشخصيات من التسمية بأنماطها التقليدية مما يسهم في تقريبها من المتلقي ويجعله قابلا للتماهي معها بدرجة أسرع لأنها تبدو كما لو كانت وعاء إنسانيا مفتوحا علي الذات المتلقية لغياب الاسم، فيمكننا تصور الاسم علي أنه يؤدي دورا إغلاقيا للشخصية فيصنع نوعا من العزلة بينها وبين القارئ الذي يأخذ اسما مغايرا، وحتي لو تطابق اسمه مع البطل فاحتمال تطابق بقية الأسماء أمر غير وارد وصعب، فلنتخيل مثلا لو أن هذه الشخصيات اتخذت أسماء وفق نمط التسمية في المجتمع السعودي أو الخليجي، فهد، راشد، سعود، إلخ، فإن هذا يصنع لها قدرا من التأطير الثقافي الذي يحدّ من تفاعل المتلقي المغربي أو المصري أو التونسي أو السوداني بدرجة ما، أما الإطلاق التام علي هذا النحو فإنه يسهم في تفاعل أكبر وتماه يكاد يكون تاما بين القارئ والعوالم التي تطرحها الرواية وبخاصة الشخصيات طبعا. ولعل هذا الإطلاق للشخصيات وإفلاتها من تحديد التسمية يرتبط بنسق آخر وهو الاعتماد علي اللغة العربية الفصحي في الحوار وتجاوز العامية تماما لتحقيق الهدف ذاته، وهو ما أحسب أنه سيكون ذا جدوي كبيرة في حال ترجمة الرواية إلي لغة أخري. واعتمدت الرواية النسق ذاته من إطلاق المكان وتحريره من التسمية فلا نجد اسما للمدينة أو تحديدا للعاصمة أكثر من كونها عاصمة دون اسم، وكلها أمور تسهم في جعل الحال الإنسانية التي تقاربها الرواية هي القيمة المركزية من الرواية دون أدني تشويش أو تفتيت لها من أي قيم دلالية أخري، كأن يكون هناك قصد لتحديد هوية ثقافية معينة أو نمط معيشي بعينه ويجعل تجربة المرض بالسرطان ساكنة في هذا الإطار بعينه. ركزت الرواية علي داخل الشخصيات وحسب، وبدت كلها في رصد الرواية أو زاوية رؤية الرواية لهذه الشخصيات في إطار من دورانها في فلك حال مرض السرطان وتداعيات هذا المرض علي سلوكها وتصرفاتها سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وكل يختلف بحسب موقعه ودرجة قربه من هذه البؤرة التي يتمركز فيها المرض عند الشخصية الرئيسة (ك).
لعل من أبرز القيم الجمالية للرواية هو ما ينتج عن الحس الساخر فيها والقدرة علي التعامل مع موضوع السرطان بهذه اللغة الساخرة المضمرة في نفس (ك) بحيث يتحصن بها ويستخدمها درعا وحصنا نفسيا له تغلفه السخرية وتعزله عن العالم وتكون تعويضا عن غياب القدرة علي التواصل الاجتماعي المعلن مع الآخر. فنجد أن (ك) يغوص في علاقته مع المرأة بشكل خاص حين يتعرض لعلاقته بأخته وصراعه معها وقدر ما كان بينهما من النفور وغياب الانسجام أو ما قد يصل إلي الكراهية أحيانا، حتي يصل إلي الدرجة التي يرفض فيها اقتراح الأخت بأن تتبرع له بخلايا جذعية لزرع النخاع مثلا متصورا أن خلاياها قد تكون أشد هجوما علي خلاياه من السرطان، ولاقتناعه قبل ذلك بأنها لا تتبرع له إلا لتنتهي من أزمة مرضه ومخاطر هذه الأزمة التي قد تفسد ترتيباتها لزواج أخيهما الآخر وترتيباتها للأسرة كلها وفق تصورها وتطلعاتها هي. الحس الساخر في الرواية يظهر في أشد مشاهد الرواية قتامة وتراجيدية، مثل تلك اللحظة التي يخبره فيها الطبيب باكتشاف المرض واقتراحه عليه بأن يجرب العلاج الكيميائي في أسرع وقت، ولا يكاد يغيب هذا الحس الساخر حتي ليبدو روحا عامة تمتد في الرواية من أولها لآخرها، وهو ما يجعل كابوسية المرض أكثر تخففا وتبدو مقبولة في هذا الإطار الفني الذي يجعل القراءة محتملة ويمكن التعايش مع كم الألم الناتج عن المرض.
ومن القيم الجمالية البارزة كذلك أن الرواية تأخذ شكل الرحلة، وهو أمر يجعل القراءة فيها قدر من الحركة الموازية لحركة الرحّال أو الذات المرتحلة أو المستكشفة. ولكونها رحلة بحث عن العلاج فهي دائما مشمولة بنوع من التعاطف من القارئ ومفعمة بالأمل والرغبة الإنسانية التي لا تنتهي في إيجاد المرسي أو المستقر المتمثل في العلاج وربما الموت. وهذه الرحلة ليست مفرغة من الداخل أو تأتي الحركة فيها بين نقطتين متباعدتين، بل بها عدد من المحطات الداخلية المهمة، فثمة مرحلة أولي للتشكيك في حقيقة السرطان وهي مرحلة التحاليل، وبعدها مرحلة الكيماوي المقسمة داخليا وفق جدول زمني وكل مرحلة منها لها تحولاتها المتراوحة بين الخطورة والتحسن أو بين الإيجابي والسلبي وهي حركة دائما متراوحة بين نقيضين، بين الشفاء أو تردي حالة (ك) وانتهائه. وبعد مرحلة الكيماوي أو فشلها أو ارتباطها ببعض التداعيات والآثار الجانبية ثمة مرحلة العلاج الإشعاعي، وبعد الإشعاعي هناك البحث خارج الدولة عن حلول أخري، فكأن هذه الرحلة مفتوحة علي مطلق رغبة الإنسان في الحياة وحرصه عليها أو صراع البقاء الذي يبدو مثل حرب ممتدة مع المرض المجهول مهما بلغت الإحاطة بألمه أو أعراضه. فكأن الرواية اتخذت في ترتيب سردها ومحتواها أو استمدت ملامح بنيتها من المرض وهو ما يجعل الرواية علي قدر كبير من العفوية والابتعاد عن الافتعال فلا حاجة لخلق صراع أو حبكات لأن الصراع موجود والتحولات وانقسام الصراع إلي جولات موجود كذلك بشكل طبيعي في المرض أو هو جزء من طبيعة الصراع مع المرض. فكأن كل ما يأتي هو محض نقل مباشر عن الواقع أو محض تدوين لأحداث هذا الصراع أو رحلة البحث عن العلاج والنجاة من الموت، فلا يبدو هناك أثر لمتخيل سردي بارز في الخطاب، والحقيقة أن العمل في النهاية هو محض نتاج مخيلة أدبية وصنعة خالصة لكن لا أثر ظاهرا لهذه الصنعة في البنية النهائية أو الناتج السردي النهائي وهو في تقديرنا أهم ما قد يطمح إليه السرد الروائي أن يكون علي أكبر قدر من التماهي التام مع الواقع والقدرة علي إيهام القارئ بحقيقة هذا العالم برغم أنه ناتج تخييل واختراع محض.
من المهم كذلك التأكيد علي أن الرواية إلي جانب هذه الرحلة المثيرة للبحث عن العلاج أو الخلاص فيها قدر كبير من الثراء الدلالي والإيحاء المكثف والسريع بجملة من المعاني المهمة، ومنها علي سبيل التمثيل ما يرتبط بالعمل وما يرمي إليه النص من التسخير الدائم الذي يخضع له الإنسان وما يجعل الإنسان مسلوبا أو أسيرا للقواعد والتقاليد بشكل دائم وإن بدون وعي، فكأنه سجين للنظم والقوانين ولا يجد ذاته، فقد طرحت الرواية نموذجا إنسانيا يبحث عن السعادة باستمرار ويبحث عن إيجاد ذاته وفهمها أو استيعاب وجودها دون جدوي، حتي يصطدم بالمرض وهنا يكون الدرس الأكبر وتتحقق الذات أو تكتمل بمطلق الصراع أو المقاومة، فكأن فعل المقاومة بشكل مطلق هو ما يحقق هذه الذات ويكشف عن معناها الحقيقي ويكشف عن قدر كبير من المتعة، ولهذا فإن شخصية (ك) تخرج من حال الصراع علي قدر كبير من الجلاء والبصيرة والوعي بالذات لم تكن تتحقق بغير المرض أو لم تكن حاصلة قبله فكأن الرحلة هي رحلة بحث عن الذات واستكشافها ورحلة تبصر ورؤية لكل ما حقيقي في هذا العالم والمصارحة بهذه الحقائق التي تكشفها زاوية الرؤية المرتبطة بالمرض والمرهونة به. فالعمل/ الوظيفة له دلالته/ها، ورحلة العلاج هي رحلة بحث عن الذات ورحلة لمحاولة الخلاص واكتشاف معني الحياة. تبدو الحياة وفق هذا النسق من البحث عن معني الذات صراعا ممتدا ليس مع المرض وحسب وإنما مع المجتمع بكل مظاهره، صراع مع الأب والأم والأخت والمرأة أو الفتاة التي لا تقترب من الرجل إلا بفرض مزيد من القيود والالتزامات كأن يكون أكثر طلاقة وأكثر تغزلا وتلطفا وإلا يتم عقابه بالابتعاد والحرمان منها. صراع مع الأخت والأخ بنمطيته ورغبته في مجرد أن يكون صاحب أسرة عادية ويكرر دون اختلاف رحلة الأب والجد. في بعض الأحيان يبدو المرض ملاذا لهذا البطل الباحث عن العزلة والتحصن بقوقعته وأن يبقي ساكنا بها محاولا الحفاظ علي فطرته أو براءته، فهو يبدو علي قدر كبير من العفوية والسذاجة وأقرب لنموذج الإنسان الخام إن جاز التعبير، وقد لا يختلف التقوقع بالمرض عن الانغلاق داخل الكتب والانكفاء علي مزيد من قراءة الروايات والأشعار من كل العالم، وربما لهذا صرحت الرواية علي لسان (ك) بأن القراءة والسرطان شيء واحد تقريبا أو يتشابهان إلي حد بعيد، وهما بالفعل كذلك في هذا الجانب من حصار الإنسان وعزله عن الواقع، ولهذا كانت القراءة سببا لصراعه مع أمه التي لا تملّ من مطالبته بالخروج إلي الحياة وأن يعيش كما يعيش أقرانه حتي وإن فعل ما يعده المجتمع لونا من الفساد أو الانحلال علي أن هذه القيم الدلالية كلها تأتي في إطار من الهمس وبأسلوب ساخر ودون مباشرة أو تصريح فجّ أو تسلط في طرح المعني، بل هي وجهة نظره ورؤيته للأشياء ولهذا الوجود من حوله، ومن هنا يأتي رد فعل المتلقي الذي قد يختلف أحيانا مع فهم البطل وتصوراته ولكن لا يملك أن يرفض هذه التصورات بل يتعاطف معها ومعه برغم اختلافه، بل كثيرا ما يتبني القارئ وجهة نظر البطل ويتطابق معه شعوريا. الرواية يمكن قراءتها وفق نمط رمزي فهي ليست رحلة ك للعلاج أو البحث عن ذاته بل هي قصة معاناة الإنسان بشكل عام، وأن المسألة ليست بعنف المرض بل بعنف الألم، فكل إنسان لابد وأن يمر بمثل هذه التجربة من الألم الشديد والبحث عن ذاته أو محاولة استكشاف معني الحياة في ضوء الألم وكأنه أصبح مرآة للذات يعيد في ضوء المعاناة طرح أسئلته ومواقفه، ويحاول الإجابة بشكل مختلف بناء علي تغير تغير زاوية الرؤية ومفارقة الموضع الاعتيادي أو الهادي إلي زاوية الألم والصخب والحركة في كل اتجاه من أجل النجاة ولا شك أنها زاوية كاشفة للكثير. ثمة كذلك قدر من التوفيق الكبير في وظيفة ك المرتبطة بالحاسبات ونظم المعلومات وما قد تتعرض له الشركات من اختراقات وما تحتاج إليه من الحماية من الفيروسات أو الهجوم والاستهداف من أنظمة أخري، حتي لتبدو رحلة الشركة للتحصن من هذه الأخطار أقرب إلي ذات موازية للإنسان المستهدف بالأمراض والتسرطن. وقد كان هناك كذلك قدر كبير من التوفيق حين تجاهل خطاب الرواية مصير الشركة والعمل بعد أن غادرها (ك) حتي لا يكون هناك قدر من الافتعال في مدّ هذين الخطين والإصرار علي توازيهما حتي نهاية السرد، فاتخذ مساحته الطبيعية أو العادية حتي إن زملاءه في العمل حين زاروه لم يتحدث أحد منهم في مصير الشركة وما تعرضت له من هجوم أو فيروسات لتحافظ الرواية علي أعلي قدر من العفوية والابتعاد عن الافتعال واصطناع الخطوط والفواعل السردية لتطويل الرواية، وربما كان هذا هو أحد عوامل التكثيف وغياب الترهل فيها.
الكتاب : الحالة الحرجة للمدعو «ك»
المؤلف : عزيز محمد
الناشر : دار التنوير


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.