بزغ القمر في السماء أصفر بارد. لكن هنا في منطقة الفيلات ببورتوفيق خنقت عاصفة ترابية سماء فبراير، واندفعت الريح بعنف إلي الشارع الرئيسي فاستسلمت لها أشجار الزينة علي حيّد الطريق، وكسوة السيارات القليلة التي وقفت منفردة أمام أبواب الفيلات والبيوت ذات الطابق الواحد معلنة عجزها بلا مقاومة. كان (رشدان)؛ حارس المنطقة، قد احتجز في كوخه ذي السقف الصفيحي والجدران الخشبية علي بعد سبعة أمتار من أقرب فيلا إليه، وقد تجمدت بندقيته العتيقة غير المعمّرة. إنه ينتظر العاصفة هنا ويتسلي بالعبث في مفتاح المذياع المربوط بأستك مطاطي انتزعه من سروال قديم ليثبّت به البطاريتين الجافتين من الخلف بأوراق، والأصوات تأتي منه متقطّعة مغبّشة، وفي الخارج تعوي الريح وتتحول إلي صراخ، فينظر (رشدان) في توتر ثم يعود إلي المحاولات الخرقاء مع مذياعه. إنها الريح رغم كل شيء! لكن الريح لا تخدش الأبواب..ولا تترك ظلالاً مستطيلة علي الأرض!! ينهض من مكانه، رجلاً ضخم البنيان، بديناً، يرتدي كنزة صوفية زرقاء حال لونها وزي رجال الأمن الرسمي ولفافة تبغ تتدلي من ركن فمه، ووجهه الذي يحمل قسمات أهل الريف تضيئه الانعكاسات البرتقالية من مصباح الكيروسين المعلق من السوق. يعود الخدش من جديد. لا أحد يربي الكلاب هنا! فما هذا؟ ثمة كلابة معدنية باردة من الخوف تقبض علي قلبه، كان هذا موسماً سيئاً في السويس هذا العام. قبل أن يقرر ما يجب عمله حيال هذا الصوت، يستطيل الظل أكثر أمام باب كوخه. هناك صوت ارتطام كأنما شيء ثقيل يضرب الجدار خلف ظهره.. يتراجع.. يضرب الجدار من جديد.. يرتجف الجدار الخشبي خلفه حيث ألصق بوستر مهتريء الأطراف لفريد الأطرش وتهب نسمة باردة ثلجية من السقف الصفيحي. يتجمد (رشدان) في مكانه غير فاهم ما معني هذا. الظل الذي يكسو الأرض أمام كوخه، والضرب علي الجدار الذي بدأ يصدم ظهره! يحاول العبث في جيوبه بحثاً عن خرطوش البندقية وأن يدعم اللوح الخشبي وراءه في الوقت نفسه، لكن قبل أن يمد يده إلي المقعد الذي يجلس عليه، ضرب الشيء المجهول الجدار بقوة غير معقولة، مهشماً إياه من أعلاه إلي أسفله. يتماسك الجدار لحظة.. يهتز رأسياً.. يدخل الشق الناتج فيه رأس أبيض عملاق وعيناه الصفراوان تتوهجان بين جبين أزرق ووجنتان كالعجين الأزرق. هل كان هذا أكبر كلب رآه (رشدان) في حياته؟ هل كان هذا أكبر وحش رآه (رشدان) في حياته؟ ويزمجر فيما يشبه كلام البشر إلي درجة مرعبة! يتهاوي الجدار أخيرا، يتحطم، يستسلم. وفي لحظة أصبح الشيء المريع بالداخل. في ركن الكوخ كانت هناك علبة الخرطوش بين أدوات أخري.. التقطها (رشدان) وأمسكها..علبة من الكرتون البني، مدعمة بإطار معدني أسود مكتوب عليه أرقام كثيرة وكلمات إنجليزية.. يمزق الورق المقوي بأسنانه، بينما الكائن يشق طريقه بالداخل ويعوي.. عيناه الصفراوان تتوهجان صوب الرجل المحاصر في الركن....أبيض كأنه مخلوق الجليد..وكأنه عاصفة ثلجية تدخل من الباب الذي تهشم في منتصفه.. يثب وهو يعوي، بينما (رشدان) ينتزع الأسطوانات الحمراء كلها من العلبة..تعوي الرياح وتعوي..يبدأ الصراخ..هذا الشيء جارح..يوخز مخالبه في بدن الرجل ويهم بعض عنقه..الكائن المشع الضخم يملأ الكوخ ويتكاثف بالداخل كالدخان السميك..(رشدان) يحاول السيطرة علي جهازه العصبي ..يزحف إلي بندقيته التي سقطت ..يلمس طرفها المعدني البارد ويبدأ في سحبها بين أصابعه..الأنياب كالشفرات الحادة تجرح عنقه..اللعنة!..أي مخلوق هذا؟ يقبض علي طرف ماسورة البندقية رغم الألم والرعب.. تستقيم في يده ..وفي يده الأخري الخراطيش مضمومة إلي صدره فيما بينه وبين الغول الذي خرج عليه من حيث لا يدري..يضرب بكعب البندقية مصباح الكيروسين الذي يتدلي من أعلي..يتهشم ويسقط فوقهما، يبلل الكيروسين صدره إذ يتسلل عبر ملابسه الصوفية..وتفعم أنفه الرائحة العطرية المميزة للسائل الجاهز للاشتعال..الفتيل الملتهب يلحم الشعلة في قماشة الثوب فوق صدره ..الأنياب تنغرس في جانب عنقه..والنار تولد فوق قلبه مباشرة..تصل إلي علبة الخرطوش .. الأنياب كالإبر.. رائحة الوقود.. اللهب الحارق.. و.. ينفجر كل شيء، ويبتلعه قلب الوردة الجهنمي.. في الخارج ظل عويل الريح مهتاجاً منتشيا لا ينقطع .. كل شيء هو الشتاء الأسود والليل القاتم..سواد مدلهم لا تضيئه سوي شعلة ضخمة كانت منذ دقائق كوخ الحراسة الذي ينعم فيه (رشدان) بحياته، علي الأقل..