في قراءة الناقدة العراقية المصرية الكبيرة دكتورة فريال جبوري غزول لثلاثية إدوار الخراط ( 1926- 2015) "رامة والتنين" و" الزمن الآخر" و" يقين العطش"إعادة اكتشاف لعالم الخراط الإبداعي المدهش. تدخل إليه الكاتبة حين تضيق بها الأرض في هذا الزمن العربي الرديء، وتشعر باللاجدوي والعبث ووطأة الأبواب المغلقة التي يتواري خلفها الثراء المكنون في طيات الزمن الحاضر. تدخل إلي هذا العالم الخياليمن بوابات ألف ليلة وليلة السحرية، وتعثر علي الكلمة السرية التي تفتح الكهوف الممتلئة كنوزا حين تتماهي مع علي بابا رمزيا ومجازيا لتقول بدلا من "افتح يا سمسم"، "افتح يا إدوار"، فتنطلق الكلمات "في سحرها الشعري، وثرائها الدلالي، وإحالاتها التراثية، وإيحاءاتها الأسطورية لتعيد تشكيل عالمنا، مستكشفة العمق الإنساني في زحمة اليومي، فينزاح اللون الباهت الرمادي عن الأشياء لتبدو شفافة ومشعّة بعد إزالة الصدأ منها، والرواسب عنها." تقدم فريال غزول هذه القراءة في كتاب صغير الحجم عميق القيمة، صدر مؤخرا ( 2018) عن الهيئة العامة لقصور الثقافة- سلسلة كتابات نقدية بعنوان: " الريادة في الرواية ثلاثية الخراط". تجمع غزول في هذا الكتاب الصادر عن هيئة قصور الثقافة بين الرصد العلمي المنهجي الموثق من جانب، وروح النقد الإبداعي المتأججة وراء الكتابة من جانب ثان. تلك الروح تلتقط نبض الإبداع الحي لدي إدوار الخراط في عمقه وثرائه، وتري ما لا يراه العقل الأكاديمي المحايد. فهناك إلي جانب التناول العلمي المتمرس بالخبرة والمعرفة الواسعة، والحساسية النقدية المرهفة لدي غزول في تحليل النصوص عبر ممارسة ممتدة لعقود، مشهود لها خلالها بالرصانة والأصالة رفيعة المستوي، يجد القارئ إلي جانب ذلك شيئا آخر يجذبه للقراءة، ولا يستطيع الإفلات منه حتي تكتمل صفحات الكتاب، بل يصاحبه ويغويه لإعادة القراءة من جديد. إنه الشغف المبطن للغوص في عالم إدوار الخراط ، أحد حاملي مشعل الريادة في الرواية المصرية والعربية للكشف عن أغوار هذا العالم الصاخب " بالشعري والسردي، الفلسفي والسياسي، التأملي والصوفي (حيث) تتجاور في كتاباته الأبعاد في تضافر خلّاق: التاريخي بالأسطوري، التسجيلي بالغنائي، العربي بالعالمي، القبطي بالإسلامي." من يستطيع الغوص في هذا اليم الإبداعي العميق بمثل هذا الشغف والقدرة علي الكشف الجسور؟ الإجابة لدي فريال غزول في هذا الكتاب. يبدأ الكتاب بتصدير بعنوان "إدوار الخراط.. الهبة والموهبة"، يليه ثلاثة فصول يستكشف كل منها مبحثا بعينه من خلال التركيز علي نص من نصوص الثلاثية: مساهمة الرواية العربية في أساليب القص العالمية رامة والتنين أصالة الحداثة في الرواية الشعرية الزمن الآخر صورة الفنان في شيخوخته المشبوبة يقين العطش من عمق المعرفة المقترنة بالوعي تضع غزول يدها في تصدير الكتاب علي خصيصة أسلوبية بارزة لدي إدوار الخراط هي "شبقية الأسلوب"، لكنها تعيد اكتشاف هذه الخصيصة، فترفعها من المعني الملتبس الشائع في كثير من النصوص الراهنة إلي أفق الفرادة والتميز، إذ امتلك الخراط القدرة علي شحن أية جملة عابرة في خطابه المتنوع بطاقة شبقية فريدة، فتفاصيل الأشياء اليومية العادية تصبح لها خصوصية، وشخصية حسية متفجرة بطاقة تعبيرية لافتة. هذه التفاصيل " تتشخص، وبالتالي تكتسب ثراء دلاليا، وغني رمزيا، وتصير مفردات في عالم شعري، لكل تفصيلة فيه وظيفة جمالية." ولا يعني هذا غياب المشاهد الحسية في أعمال الخراط، ومن بينها الثلاثية التي تدور حولها هذه الدراسة، بل إن أعماله كلها لا تخلو من مشاهد عشق ووصال من أجمل ما كُتب في تاريخ الأيروسية الطويل، سواء في التراث والأدب العربي القديم والحديث أو حتي في الرواية الأوروبية. تستثمر غزول خبرتها الواسعة بالأدب المقارن لترسم في لقطات سريعة ما الذي أضافته الرواية العربية الحديثة عالميا، فيما تتوقف عند ثلاثة ملامح أساسية برزت في رواية " رامة والتنين" وتعد إضافة مهمة في هذا المجال هي: الأسطورية التوليدية، والواقعية الحسية، والحداثة الملحمية. أما من حيث الملمح الأول، فنجد الأسطورة الأساسية والمولدة للنص الروائي متجلية في عنوان الرواية وفي الاقتباس الختامي المأخوذ عن الحلاج وترد فيه إشارة إلي التنين، فيما تتولد خلال السرد أساطير أخري عبر تداع أسطوري يتمثل في إشارات وشذرات مبعثرة، علي القارئ أن يجمعها، مما يستدعي أسطورة إيزيس وأوزوريس الذي يُبعث من موته كما العنقاء. كذلك تتجلي الواقعية الحسية في شقها الأول في وقائع حرب السويس، والنضال المصاحب له والتظاهرات وسط القاهرة آنذاك، وأهوال الحرب الأهلية في لبنان، وغير ذلك من أحداث الحياة اليومية في مدن مصرية. وقد اختار الخراط أن يصف تفاصيل هذا الواقع وصفا حسيا مشحونا بحرارة التماس المباشر،مستخدما تلاحم الحواس الخمس، فيما لا يخلو هذا التكثيف من تساؤلات كونية ومحفزة لأسئلة فلسفية. أما الحداثة الملحمية، فتتمثل في بنية سردية قائمة علي الانقطاعات والشذرية من جانب، والتعامل من جانب آخر مع الوجودي والكوني، والصوغ الشعري، والنفس الطويل، والامتداد السردي، والبعد الموسوعي. وتخلص الكاتبة إلي أن إنجاز الخراط في "رامة والتنين" يصل إلي مرتبة الظاهرة الأدبية حيث يتم التوليف بين خطين متباينين: الفيزيقي والميتافيزيقي، المحلي والعالمي، الآني والمطلق. في فصل "أصالة الحداثة في الرواية الشعرية" ومحوره رواية " الزمن الآخر" تتقصي الكاتبة تمحور النص علي ذاته تمحورا جماليا، وانشغاله بنسيجه اللغوي علي حساب الوظيفة الخبرية التي تمثل انفتاح النص علي خارجه انفتاحا محاكيا. فالفصول المشكلة للرواية يمكن قراءة كل منها منفصلة أو متصلة ببعضها، فيما يشبع كل منها الفصول الأخري، مضيفا مادة جديدة أو معمقا العلاقة الرئيسية في الرواية. ويزيد التواري الخبري في "الزمن الآخر" تعاقب الفصول، والأحداث المرويَّة من خلال مشاهد تنتقيها الذاكرة كما يحلو لها بغير قانون ثابت. وتبرز الكاتبة التواصل التراثي والتفرد الحداثي في هذه الرواية من خلال عقد مقارنة بين ولع الشاعر الجاهلي لبيد - والقصيدة العربية الكلاسيكية بصورة عامة - بوصف باهر للمرئيات، وعكوف علي تفاصيل تفاصيلها، وهذا الولع نفسه يظهر بكثافة لدي الخراط، كما تلمس لديه مهارة لغوية، واستغراقا بيانيا، وانغماسا لفظيا في متعة الكلمة المصوّتة كما عند الشاعر الجاهلي. فما كان صرامة إيقاعية تلتزم بحرف الرويّ، والقافية الموحدة في القصيدة القديمة، أصبح عند الخراط التزاما جناسيا يصل إلي درجة الظاهرة الموسيقية، والبصمة الفنية. وقد أطلق الخراط نفسه علي هذه الظاهرة مصطلح "الإصاتة"، وتتمثل في فقرات كاملة في الرواية يتكرر في كل كلمة منها حرف بعينه كالغين أو السين أو الصاد..إلخ . قد تبدو المقارنة بين شاعر المعلقات والخراط مفاجئة للقارئ، وذلك من حيث المماثلة في تصميم كل منهما في سياقه علي فرض شفرة صوتية بعينها، وإن استدركت الكاتبة بقولها إن تعبيرهما عن هذا الإصرار جاء مختلفا، وهذا أمر لا يصعب فهمه، فعلي الرغم من انتمائهما إلي تراث واحد، فهما منتميان إلي عصرين متباينين، إضافة بالطبع إلي اختلاف التكوين المعرفي، ورؤية العالم لدي كل منهما. أما " يقين العطش" فتجسد صورة الفنان في شيخوخته المشبوبة، فبطل الرواية يمثل النموذج الإنساني لبطل مهزوم عمليا، وصامد نفسيا. إنه الإنسان الذي ناضل وفَقَدَ، أحب وعاني، حلم وانكسر، لكنه ما زال يحمل في داخله الرغبة العارمة، والعشق المقيم. إنه يري ما آلت إليه الأمور من تصدَّع، وقد عايش الهزائم العامة والخاصة، لكنه ما زال مليئا بالتطلعات ومشبوبا بالرغبات، يحلم ويظل يحلم علي الرغم من التراجع والانهيار. يبني إدوار الخراط " يقين العطش" علي طموح يشير إليه، لكن لا يقدمه بصورة مباشرة، وهو إعادة الروح التي سُرِقَت علي غفلة، الوحدة الوطنية التي تسربت تدريجيا، والذات التي غُيِّبَت. إنها محاولة تقديم لصرح منهار من أجل ترميمه، هذا الترميم المنتظر، والمشكوك في نتيجته هو "الأمل" المحبط مسبقا، لأنه مبطن بإدراك أن القضية خاسرة. ونجد في هذه الرواية، كالجزءين الأولَيْن، استثمارا فنيا لتقنية الكولاج والمونتاج في السرد، والتوصيف المبني علي ترقيع شذرات الخطابات المتباينة التي تتجاور مبرزة صنعة الترقيع بتنافرها. وتري غزول أن هذا المنحي السردي - في هذا الجزء الأخير - مقصود لإبراز التنافر بين الخطابات الموجودة علي الساحة الثقافية، واستحالة قيام جدل بنّاء بينها، فينقلنا الكاتب أسلوبيا من نثر مصمت إلي نثر صائت، ومن تقرير إحصائي إلي مناجاة صوفية. إن التنوع في الأساليب والخطابات المتنافرة وغير المتلاحمة في "يقين العطش" مؤشر لدي الخراط لانفراط العقد الاجتماعي واللغوي، وتعثر التواصل. إنه برج بابل عصري تنعدم فيه قدرة اللغة علي التوصيل. يقول الكاتب في الفصل الأخير من الرواية: "كأنني أتكلم من جوف نفق طويل تحت الأرض، مهجور من زمان. صوتي غريب، بلغة تكاد تكون غير مفهومة. لم يعد أحد يتكلم هكذا الآن. غير مفهوم، وغير مؤثر، ولعله مضحك أو مؤسٍ قليلا. غريب علي كل حال." هذه اللغة المنقرضة التي لم تعد مفهومة، هي اللغة التي تذيب الفوارق، وتصهر الحواجز، وتتجاوز الانقسامات. إنها لغة الصمت الثرية، لغة التصوف الإيمائية، لغة الشعر الإشارية. وفي غياب هذه اللغة يتلهب الكاتب بيقين العطش، ولكن هذا اليقين ليس نهائيا، وإلا فما جدوي الكتابة؟! الأصح أنه يقين السؤال المقيم. وتوازيا مع مقولة هيرودت: "مصر هبة النيل"، تقول فريال غزول: "إن إدوار الخراط هبة مصر لكل الناطقين بالعربية"، وأنا أقول : إن هذا الكتاب هبة لروح إدوار الخراط، الحاضر في الغياب.