الكتاب: الثورة التشيكية وتجربة التحول »إن التوقع العام الذي كان سائدا والقاضي بأن النظام الجديد سيصفي الحسابات مع الجرائم السياسية للنظام القديم، بقي توقعا عاما لم يتم تنفيذه بسبب كثير من العقبات.. وقد ضعفت نتيجة لذلك حالة الثقة العامة وشرعية النظام الجديد" كم هي عبارات موحية فيما يتعلق بالوضع في مصر حاليا، ولكنها ليست عن مصر علي الاطلاق، بل وليست عن تجربة فاشلة، بل هي عن التجربة الناجحة للتحول الديمقراطي في جمهورية التشيك، والتي مرت بكافة المنعطفات التي توصف بالسيئة ولم يدمرها حتي انقسام تشيكوسلوفاكيا إلي دولتين هما جمهورية التشيك التي يركز عليها الكتاب وجمهورية سلوفاكيا التي لا يستطيع الكتاب إغفالها وان لم يسلط الاضواء عليها بشكل كاف. يحتوي الكتاب -الذي يضم مجموعة من الدراسات والمقالات لمؤلفين متعددين بينها سرد لتجارب شخصية لسياسيين وثوار قادوا عملية التحول الديمقراطي وتحويل بعض المؤسسات القديمة في جمهورية التشيك- علي 16 فصلا تتناول التحولات القانونية والمؤسسية في التشيك التي خرجت من رحم الكتلة السوفييتية مع جيرانها (المجر، بولندا، المانياالشرقية.. إلخ) عام 1989 فيما عرف بربيع الشعوب بأوروبا الشرقية. أثر البريسترويكا بدأ هذا الربيع، وعنه تبدأ فصول الكتاب التي تمتد عبر 255 صفحة، بتجربة الرئيس الاخير للاتحاد السوفييتي ميخائيل جورباتشوف لمنهج الاصلاح الراديكالي (البريسترويكا) كطريقة لانقاذ الامبراطورية السوفيتية التي انهكها سباق التسلح، وكان من الآثار الهامة للبريسترويكا تخفيف قبضة موسكو علي دول الكتلة الشرقية ومحاولة بعض النظم في هذه الدول استنساخ تجربة الاصلاح السوفييتية ما ادي في النهاية إلي انهيار النظم الشيوعية الحاكمة في كل هذه الدول بالتتابع وصولا إلي انهيار الاتحاد السوفييتي نفسه وانقضاء فصل كامل من تاريخ العالم. تعرض فصول الكتاب الأولي سريعا لأهم المحطات في عملية انهيار النظم الشيوعية في اوروبا الشرقية مع تركيز كبير علي ما تم في تشيكوسولوفاكيا السابقة الذي عرف ب"الثورة المخملية"، ومع هذا العرض نصطدم بأساطيرنا واخطائنا، فنجد في الكتاب -الذي يقول بوضوح إنه يسعي إلي نشر أسباب نجاحات ومشكلات عملية التحول التشيكية- أن التوافق هو الذي قاد أغلب خطوات التحول الديمقراطي بعد "الثورة المخملية" وليس صراع أغلبيات وأقليات بل إن أغلبية برلمانية من الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي -الذي قامت ضده الثورة- هي التي انتخبت اول رئيس ديمقراطي جاء من قلب المعارضة ومن ميادين الثورة وهو الأديب الحائز علي جائزة نوبل فاتسلاف هافيل، جاء ذلك الانتخاب تحت ضغط الشارع الثائر بالطبع وكبديل لحل هذا البرلمان ذاته، كما تضعنا فصول الكتاب في مواجهة أسطورة أن البرلمانات لا تكتب دساتير حيث تشرح كيف ان البرلمانات التشيكية المتعاقبة منذ انلاع الثورة قامت بتعديل (اولا) ثم اعادة كتابة (لاحقا) دستور الجمهورية التشيكوسلوفاكية. منظومة العدالة يتناول الكتاب -الذي يعد إعادة إصدار لكتاب أعدته وترجمته الحكومة التشيكية عام 2005 باسم عملية التحول- في فصول متعددة تجربة اصلاح منظومة العدالة في الديمقراطية الوليدة، فيفرد اكثر من فصل لعملية إصلاح القضاء، ورغم الاختلاف الواسع بين وضع المؤسسات القضائية البدائي في تشيكوسلوفاكيا بعد الثورة مباشرة وبنية المؤسسات القضائية المصرية المتطورة نسبيا إلا ان بعض المشكلات الجوهرية تظل واحدة في الدول التي تسعي للخروج من اسر النظم الديكتاتورية، حيث يقول الفصل المعنون "التغييرات في القضاء": (إن استقلالية وعدم انحياز القضاة يشكلان شرطا مهما في تصور كيفية عمل القضاء بشكل منظم، وهذا أمر لم يكن محترما ابدا في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية)، ويمكنك استبدال الكلمتين الاخيرتين ب"مصر مبارك" او نظام الحكم العسكري الخ الخ دون ان تحتاج الي تغيير كبير في بنية الجملة. يتناول الكتاب بعد ذلك بتفصيل كبير عملية اعادة هيكلة اجهزة العنف والسيطرة علي المجتمع متمثلة في الجيش والشرطة والمخابرات والشرطة السرية، فيفرد فصلا كاملا لعملية "تحويل الجيش"، ويوضح الفصل أن الشهور العشرة الاولي -10 شهور فقط- شهدت استمرار سيطرة الجنرالات علي منصب وزير الدفاع حتي تولاه اول مدني في خريف 1990، ويسرد الكتاب بشكل سريع لا يخلو من تفاصيل عملية اعادة تنظيم الجيش ليكون اكثر كفاءة ومهنية، ويقول بأوضح العبارات الممكنة: لقد تم منذ بدايات نشوء الجمهورية التشيكية فرض مبدأ الرقابة السياسية المدنية علي الجيش. قد لا تصدمنا الحقيقة التي يقررها الكتاب من ان نسبة الجريمة ارتفعت بشكل حاد خلال العام الأول بعد الثورة (انها مرآة الثورات)، ولكن الامر الصادم حقيقة هو ان عملية محاسبة واسعة وناجزة للجرائم التي تمت في العهد السابق علي الثورة لم تتم ابدا، وتشير الفصول/المرايا المتعلقة بوزارة الداخلية في تشيكوسلوفاكيا إلي ان النظام القديم ترك خلفه جهازا بحاجة الي تعديل جذري حيث: "كان نظام العمل في الوزارة بأكمله مبنيا علي نظرية تقول بأن كل مواطن يخفي بداخله عدوا حقيقيا او محتملا لنظام الدولة.. وكانت الوزارة تتمتع بسيطرة ونفوذ غير محدودين علي كل مواطن". ويتحدث الكتاب عن القلق الذي سيطر علي النظام الجديد من تسريح رجال أمن الدولة، خوفا من ان يشكلوا جماعات للجريمة المنظمة ويشرح ان الواقع اثبت ان هذه المخاوف غير حقيقية، ويضع الكتاب كافة الاجهزة المختصة بجمع المعلومات في سلة واحدة، حيث يجمع المخابرات وامن الدولة وغيرها من الاجهزة تحت مظلة يسميها "الشرطة السرية" ويقول عنها: بعد هزيمة او انهيار السلطة الشمولية المسيطرة، فإن الهدف الرئيسي الماثل امام المجتمع الحر المولود حديثا يتجسد في العمل علي حل الشرطة السرية، وهو هدف له دور في إنجاح التغييرات وعملية التحويل. هناك سببان علي الاقل لذلك: فالغاء سلطتها ونفوذها يحصن