الثقافة التي نتحدث عنها هي تلك التي تسعي إلي تفجير طاقات المجتمع وتفلح في تعميق وعي المواطن بمحيطه وعالمه مواطن إيطالي سبعيني، اسمه جوزيبي، التقيت به في طرابلس منذ أيام قليلة مضت، جاء إلي العاصمة الليبية زائرا بعد انقطاع عن زيارتها دام سبعة اعوام، لأنه كان يعود إلي ليبيا كل عام عقب خروج اسرته منها عام 1970، تنفيذا لقرار الحكومة الليبية بإجلاء الجالية الايطالية، ولم يتوقف عن زياراته السنوية لمدينة مسقط الرأس واعوام الطفولة التي قضي ثلاثين عاما من عمره مقيما بها، يتحدث لغة اهلها وتربطه علاقات ود وصداقة مع ابناء المدينة من الليبيين، زيارات حنين وشوق ومحبة للمدينة واهلها، يجدد التواصل مع اصدقاء الطفولة، ويقوم ببعض البحوث في تاريخ المدينة باعتباره باحثا في علم الحضارات، كما يتبرك بزيارة قبور بعض اهله الذين قضوا في طرابلس ودفنوا بها، وقد احس هذا العام بان طرابلس اكثر امانا، وكان سهلا عليه زيارة المدن الاثرية القريبة من طرابلس، ووجدت في زيارة هذا العاشق الايطالي لطرابلس، علامة علي عودة الحياة الطبيعية إلي شوارع العاصمة وبعض الحواضر، وبداية الخروج من حالة التأزم وغياب الامن والقانون، إلي آفاق المصالحة والاستقرار. وهناك ظاهرة ايجابية يلاحظها الزائر لطرابلس تدل علي ما صارت تنعم به من استقرار هذه الايام، مقارنة بأشهر واعوام سابقة، هي التوسع في المناشط الثقافية، وتكاثر هذه الانشطة وتواترها، واقبال اهل المدينة علي حضورها، وظهور جمعيات ومنظمات ثقافية، ومؤسسات مجتمع مدني جديدة، تدفع إلي تاكيد العامل الثقافي وتعزيز حضوره في مشهد، كان يحتله اهل السلاح وتجمعاتهم الثورية العسكرية، تقدم انشطتها التي تغطي كل ايام الاسبوع، بعضها قديم، استأنف نشاطه، مثل منتدي اصدقاء دار الفقي حسن، والجمعية الليبية للاداب والفنون، وبعضها جديد الانشاء والتكوين، مثل جمعية بشير السعداوي، ورابطة ابناء البلد، ومنظمة آفاق الثقافية التي اسهمت في تأسيسها، وقبلت تكليف المؤسسين بأن اكون رئيسا لمجلس ادارتها، علاوة علي انتشار الصالونات الثقافية في البيوت، التي كان اول من بادر بها رئيس وزراء سابق في العهد الجديد هو السياسي والاستاذ الجامعي الدكتور عبد الرحيم الكيب، وصالون اقامه شيخ شعراء طرابلس الاستاذ الجامعي الدكتور عبد المولي البغدادي، وكان جهد المقل الذي اسهمت به في هذا الحراك الثقافي المتنامي عددا من المحاضرات رأيت ان اساهم بها في وضع خريطة طريق للعمل الثقافي باعتباره طريق المجتمع الليبي لإعادة تأهيل افراده، بعد ان تجاوزوا مراحل الفوضي والاحتراب، وشروعهم في دخول المرحلة الجديدة بروح اكثر صحة وعافية، متحررة من اوصاب وجراح المرحلة السابقة، بما يمكن ان يتحقق من بلسم لجراح الروح عن طريق العامل الثقافي، هذا العامل الذي كان غائبا، وعاني اقصاء وتهميشا لأكثر من نصف قرن، كان خلالها يتم تغليب القوالب الجامدة، وقيم المجتمع البدائي البدوي، ومناهضة ثقافة العصر والحداثة، وتطبيق مقولات تحمل معني العداء للحضارة، والمدنية، مثل شعار الخيمة تنتصر علي القصر، وشعار اخر لطمس النوابغ واهل العقل والمعرفة وقوي الابداع والابتكار، وهو ذلك الذي يقول »لا نجومية في المجتمع الجماهيري»، وغيرها من شعارات وممارسات كانت جزءا من خطة تحريف وتجريف وإمحال وتصحر ثقافي عانت منها ليبيا. وكان دافعي للحديث عن الثقافة، بشكلها الشامل، والتي لا تقتصر فقط علي الفنون والاداب، لانها اوسع واكثر شمولا من ذلك، اذ انها تتصل بقيم ومفاهيم واساليب حياة تنعكس في الممارسة والتفكير والسلوك، وبطاقة ايجابية تشحن بها المجتمعات نفسها، لتحرر بها هذه النفس من ربقة الارتهان للقوالب الجامدة القديمة، والانطلاق مع التجديد والتحديث، والتفاعل مع معطيات العصر، ولهذا فان جانبا اساسيا في العامل الثقافي، التفاعل مع ثقافات العالم الاخري والتعامل معها من موقع الاخذ والعطاء، والاستفادة المتبادلة كبديل للانغلاق والتقوقع والانكفاء علي الذات(وهنا لا بد من تقديم مثل من واقع الحالة الليبية، فقد اقر النظام الملكي في مراحله الاخيرة التي صار فيها اكثر نضجا واعمق تجربة، واستعان في ادارة البلاد بكوادر شابة مثل المرحوم عبد الحميد البكوش، الذي تولي رئاسة الحكومة وأقر تدريس اللغة الانجليزية منذ المراحل الاولي للتعليم، باعتبار أن لغة ثانية ذات اهمية عالمية، تعني تطويرا وتحديثا للعملية التعليمة في ليبيا، وهذه الخطوة هي التي تم الغاؤها في اول قرارات حكومة الانقلاب، التي حلت محل النظام الملكي، بل وصل بها الأمر إلي الغاء تدريس اللغات من كل المستويات التعليمية). (وليس جديدا هنا ان نقول ان كثيرين يعتبرون ان اضافة لغة أخري للإنسان لكي تتجاور مع لغته الام، هي بمثابة اضافة عقل إلي عقله، وجهاز تفكير وتقويم وتفعيل لخلايا المخ، لان اللغة لا تأتي مجرد حروف وكلمات، ولكنها تنقل معها اساليب عمل وتفكير وادوات لفهم العالم واستيعابه، من رؤي وزوايا، غير تلك التي كان يراه بها من موقع اللغة الام. لكل لغة حمولة من المفاهيم والافكار والمعارف وهذه الحمولة ستكون مكسبا لمن يتعلم هذه اللغة). وكان جزء مما قلته ان اقصاء العامل الثقافي لحساب العمل السياسي القائم علي تاكيد الولاء للحاكم الفرد كما كان يحصل في ليبيا وعدد من الاقطار الاخري، وغابت حصص الموسيقي والقراءة الحرة وحصص الرسم والنشاط المدرسي في مجالات المسرح والمباريات الرياضية، لبدائل اخري بينها البرنامج العسكري في مدارس ليبيا، والعراق مثلا، هو الذي خلق مناخا لخروج جماعات التطرف، لان الفراغ الذي حصل بسبب غياب الثقافة العامة جاء اهل التطرف والانغلاق والافكار الظلامية لملئه، واستقطاب العقول منذ مرحلة الطفولة لهذه الاجواء، مستخدمين الدين بشكل يمتلئ تشويها واساءة لجلاله وما يحمله من تراحم وخير، والانحراف به لأعمال الشر والتوحش والاجرام. وقلت ان الثقافة التي نتحدث عنها هي تلك التي تسعي إلي تفجير طاقات المجتمع وتفلح في تعميق وعي المواطن بمحيطه وعالمه ومعطيات واقعه وترسيخ مفاهيم الولاء للوطن والتشبث بقيم الخير والمحبة والتراحم، باعتبار ان انسانية الانسان لا تتأكد الا بهذه القيم، وعبر هذا الولاء، وافهامه بانه ينتمي إلي دائرة حضارية تجمعه مع بني قومه، ممن ينتمون إلي جغرافيا ولغة وذاكرة تاريخية واحدة، ومن ثم تعبئة هذا المواطن والمساهمة في تشكيل ذوقه ووجدانه ورفع مستوي تفكيره، والدفع به لكي ينخرط في مسيرة البناء والتنمية، وانجاز السلام الاجتماعي، وتمتين النسيج الرابط بين ابناء مجتمعه، هذه هي المنطلقات الاساسية التي يمكن ان تبني من خلالها استراتيجية العمل الثقافي الحضاري لمؤسسات الدولة. وكان لا بد من تاكيد حقيقة من حقائق المرحلة التاريخية، فللثقافة في هذه المرحلة دور اكثر تأثيرا وأهمية من دورها في مراحل الاستقرار، والحياة الطبيعية الامنة، فالمجتمع الليبي عاش سنوات من التأزم والصراع المحلي، وكان صوت الرصاص يعلو علي كل صوت آخر في المدن الليبية ولعدة سنوات، ولا بد ان نفكر في اثر مثل هذا المناخ علي نفوس الاطفال، قبل الرجال والنساء، وهم ايضا تأثروا وعانوا مما حدث، وتركت مثل هذه المرحلة ندوبا وجراحا في النفوس لا سبيل لعلاجها الا بالآداب والفنون ومناشط ثقافية تاهيلية اخري. عن الفن والحياة تعليقا علي ما اوردته من حديث عن الادب والفن في اوقات الازمة، اشار احد الحاضرين إلي ما كان يثار من نقاش بين انصار الابداع الادبي والفني الهادف الذي يخدم المجتمع والحياة وبين انصار الفن للفن والادب للأدب، وقلت لصاحب التعليق انه اعادني إلي معارك كانت تثار منذ اكثر من نصف قرن مضي، حول قضايا عقيمة مثل هذه القضية، نشغل بها انفسنا عبثا، قبل ان نكتشف انها معارك لا تفضي الا إلي طرق مسدودة، ومنها هذه القضية التي اجدها اليوم قضية مفتعلة لا ادري كيف كانت محور صراع بين معسكر ادباء ينسبون انفسهم إلي الفكر الاشتراكي، وادباء ينسبون انفسهم إلي الخط الليبرالي، وخط ثالث اكثر اعتدالا وعقلانية، احد اعلامه الرائد الكبير توفيق الحكيم، الذي اختار طريقا وسطا بين الاثنين، صك له تعبيرا مبتكرا، ليس الادب من اجل الادب، ولا الادب من اجل المجتمع والحياة، وانما أدب الحياة، غير أن الامر كما قلت لصاحب التعليق، لم يكن يحتاج إلي كل هذا الضجيج، فكل انواع الادب والفن، تطمح، كما يقول الشاعر الالماني جوته، ان تكون مثل الموسيقي، بمعني انها لا تنشغل بشيء خارج رسالتها الجمالية ودورها في اثراء النفوس وتجميل الحياة واضفاء لمسة رواء ونضارة وألق علي جوانبها المعتمة، فمن يستطيع ان يقول عن السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، هل هي فن لخدمة المجتمع وقضاياه والحياة ومعطياتها الاجتماعية، ام هي فن للفن؟ بل ويمكن ان ينسحب هذا التساؤل علي اعمال فنية خارج ميدان الموسيقي، ولها حمولة تعبيرية ذات معني وملامح مثل الرسم، من تراه يقول عن لوحة الموناليزا لليوناردو دافينشي، انها فن للفن ام فن لخدمة المجتمع؟ ومعني ذلك ان الابداع الفني والادبي اكبر مما يقولون واكثر اتساعا وشمولا وعمقا، واعظم من محاولة احتوائه في اقفاص العناوين والشعارات، وانه لا عنوان يليق بالابداع الادبي والفني، ولا شعار، الا قوة الابداع، اتقانا وجمالا وقدرة علي الوصول إلي عمق ما يتناوله الكاتب او الفنان، اكتب ادبا جميلا، جديرا باسمه، قوة وتعبيرا وعمقا وسبرا لاغوار الحياة وقبضا علي اسرارها واسرار النفس البشرية، وعندئذ تكون قد انجزت الرسالة وبلغت الامانة وحققت التواصل بين الانسان وجذوره بين النجوم في السماء، سموًّا ورفعة وشموخا، واكملت المهمة التي عهد بها اليك خالق الكون المبدع الاكبر، لتكون حالة من حالات التجلي لابداعه، وجميل صنعه وإلهامه. كاليجولا قديما وحديثا من النقاط التي يثيرها بعض الواقعيين تحت تأثير ونفوذ الطغاة العرب، حتي بعد رحيلهم، وانتهاء سطوتهم وجبروتهم، هي ان ما فات مات، وان صفحة هؤلاء الطغاة قد طويت ولم يعد جائزا الحديث عنهم بسوء، بعد موتهم، ولا ضرورة لفتح سجلات الكوارث والجرائم التي ارتكبوها ضد شعوبهم، وكان ردي علي هذا المنطق الذي يسوقه ازلام الانظمة السابقة، هو انني ادعو فيما اكتب واقول، إلي عدم ان نبقي رهائن الماضي وسجناء احقاده ومآسيه، واننا يجب ان ننشغل بالمستقبل اكثر من انشغالنا بالماضي، ولكن ليس معني ذلك ان نعطي حصانة للطاغية العربي حيًّا وميتا، وقلت لاحد اللائمين لانني ذكرت قائده الاممي بسوء، ان هناك حاكما رومانيا استمر في الحكم ثلاثة اعوام هو كاليجولا، في بداية التاريخ الميلادي، ومع مرور اكثر من ألفي عام وقلة السنوات التي كان حاكما فيها، مازال الضمير الانساني يذكره ويلعنه ويذكر البشرية بجرائمه، وظل جنونه واعماله العبثية موضع اعمال ادبية وفنية، رسما ومسرحا وسردا قصصيا، وأن باستطاعة هذا الاخ أن يبحث عن مسرحية كتبها الفرنسي البير كامو تحمل اسم هذا الحاكم الروماني، لا يتوقف عرضها أبدا، وسيجدها هذه الليلة تعرض في احد مسارح العالم الكبري، فكيف قلت له، يريد من كاتب مثلي او غيري من كتاب الانظمة القمعية السالفة، عاصر مثل هذا الطاغية، وعاش ثلاثين أو أربعين عاما تحت حكمه وطغيانه، وأحس بنعله فوق عنقه، وربما ترك سوطه آثارا علي جسمه، أن يصمت عن جرائمه الان بعد موته، وقد صمت عن هذه الجرائم اثناء حياته خوفا من بطشه، وأراه ليس عدلا ان يحدث ذلك، بل العدل هو ان يحدث للطغاة العرب ما حدث لطغاة سابقين لهم، ففي بريطانيا مثلا هناك من اخرج اوليفر كرومويل، من قبره، وقام بشنق جثته، تنفيذا لحكم لم يطبق عليه اثناء حياته، فتم تطبيقه علي عظامه التي كانت رميما اخرج من تحت التراب، وقد لا تعلم، قلت له، انك تستطيع في المانيا ان تزور مركزا لجرائم الفوهرر ونظامه النازي، متاحة للاجيال الجديدة، وتستطيع وانت في روما ان تزور مركزا لجرائم الدوتشي ونظامه الفاشي، متاحا للاجيال الجديدة، لكي تأخذ العبرة والعظة، ومنعا من خروج طاغية جديد يعبث بمقدرات الوطن، ويواصل لعدة عقود، تنكيله بالمواطنين دون رادع من قانون او دستور. • روائي ليبي