لماذا كان رحيل أحمد خالد توفيق مؤلماً للجميع؟ لماذا اتشحت وسائل التواصل الاجتماعي جميعها بالعزاء فور إعلان وفاته بأزمة قلبية؟ لماذا امتلأت جنازته ومجلس عزائه بآلاف الشباب؟ لماذا شعروا جميعهم وكأن أخاً أو أباً أو صديقاً حقيقياً لهم قد رحل فجأة، وعلي حين غزة منهم؟. أؤمن بمقولة البعض إنه حين يموت الأشخاص الذين تحبهم، فإنهم يأخذون جزءاً من روحك معهم. حتي لو تركوا لك صوراً وكتباً وأفلاماً ورسائل وحكايات، فلا شيء يعدل وجودهم في العالم، حتي لو لم تلتقيهم قط. فيقينك غير المحسوس بوجودهم في العالم من حولك، يجعلك تتكئ عليهم في أوقات شدتك، يعطيك قوة وطاقة لاحتمال وإكمال الحياة. وربما هذا ما أحسه ملايين الشباب المصري والعربي حين عرفوا أن أحمد خالد توفيق قد رحل. وربما لأنه مات صغيراً (55 عاماً)، وهو السن الذي يبدو قريباً ممن هم في بداية الأربعينات أو أواخر الثلاثينيات مثلي وغيري كثيرين وهو ما يجعل الموت قريباً جداً، وخاطفاً. قريباً منهم، كما صار قريباً منه، واستطاع أن يخطفه دون أن ينتبه أحد. ربما لأن في كتابته احتفاء بالموت، وسخرية منه، وميل للعدمية التي صارت علامة لأجيال بأكلمها بسبب تشوهات سياسية واقتصادية واجتماعية. ربما لأنه آثر أن يقتل بطله الأقرب إلي نفسه (رفعت إسماعيل) والذي حمل كثيراً من صفاته واعتلاله بداء القلب، ويري جنازة له علي وسائل التواصل الاجتماعي، فكأنه كان يقتل نفسه ويري عزاءه بنفسه. ربما لأن رفعت إسماعيل، وعبير عبد الرحمن وعلاء عبد العظيم، شخصيات أحمد خالد توفيق الشهيرة، هي جزء من وجدان معظم المصريين الذين ولدوا بعد الثمانينات، جزء من ذاكرتهم الجماعية، لأنهم يشبهونهم، بكونهم أبطالاً ضد " أنتي هيرو"، شخصيات عادية مطحونة، تحاول أن تحلم وتحقق أحلامها البسيطة، وتقابل المشاكل العادية التي يقابلها ملايين المصريين، وربما لأنه سرد عبر قصص سلاسله تفاصيل حيواتهم فارتبطوا بهم وبه نفسياً، من الفتاة الفقيرة عبير الحاصلة علي دبلوم لكنها دودة كتب مثل كثيرات في الشارع المصري، إلي علاء الباحث عن عمل خارج حدود بلاده إلي رفعت الذي يمكن أن يموت بينما يحدثك بسبب ضعفه. كلهم شخصيات بسيطة ولا يملكون سوي القدرة علي الحلم، مثلنا جميعاً، بسخريتهم من ذواتهم، بمصريتهم الشديدة، للدرجة التي تجعل مواصفاتهم تنطبق علي أي شخص يسير في الشارع، علي عكس الشخصيات التي قدمها نبيل فاروق المحبوسة في مكاتب المؤسسات الرسمية وتقوم بأفعال خارقة. ربما لأنه تنبأ بتاريخ وفاته في مقال بمجلة الشباب، وضمنه كتابه " قهوة باليوارنيوم" عن أزمة قلبية مر بها، وصادف أن التاريخ الذي ذكره هو ذاته يوم دفنه، كأنها نبوءته الخاصة التي منحت موته زخماً خاصاً، كأنها أسطورته الختامية لأساطير سلسة قصص " ما وراء الطبيعة". ربما لأنه عمل بالمهنة التي نحبها (الكتابة)، وآمن بها، وظل يكتب لأكثر من ربع قرن بلا توقف في كتب ومجلات ومواقع، ويربي أجيالاً حقيقية من القراء في كل شارع في مصر وليس مجرد حفنة من الأصدقاء معجبي الفيس بوك ولم يلتفت للكثير من الهراء الذي يقال علي الأدب الموجه لليافعين، كأنه سبة أو عار، ورغم ذلك لم يكن أحمد خالد توفيق يكتب أدبا تقليدياً في هذه النوعية، بل قام بنقلة كبيرة في أدب الشباب. من كتابة المغامرة التقليدية، وطرق السرد التقليدية المعتادة في أدب البوب آرت، إلي طرق حداثية، فقدم رواية الأصوات، والرسائل، والنصوص التوثيقية، وغيرها الكثير، والتي كانت بالنسبة لي وقت أن كنت أقرأها في أوائل التسعينات، كشفاً وعلامة علي أن هناك طرقا أخري للكتابة غير تلك المعتادة. يضاف إلي ما سبق، كل ما يروي عن مآثره الشخصية، وطيب أخلاقه ونبله، ومساعدته للجميع، فكل من التقاه يحكي كيف شجعه أحمد خالد توفيق علي الكتابة، وكيف طلب منه أن يرسل له ما يكتبه، وكيف كان يرد علي كل رسالة تصله في أسرع وقت. بالنسبة لي التقيته مرتين، ولمست فيه ذلك، وده وطيبته ونبله وتواضعه الشديد، وعدم اهتمامه بشهرته، وكأنه لا يفعل شيئاً. كان مهموماً فقط بالقراءة وبالكتابة، وكان صادقا في ذلك. لا يستطيع أحد أن ينكر الدور الذي لعبه أحمد خالد توفيق في تشكيل وجدان جيل كامل، بريادته فيما يمكن تسميته أدب الرعب العربي ومزجه بالسخرية، وتفكيكه علمياً لمعظم الأساطير، وبما قدمه من ترجمات مبسطة لعدد كبير من الروايات العالمية، وحتي لمحاولته تقديم أشهر الحوادث التاريخية درامياً في سلسلة فانتازيا، بل وتقديمه في نفس السلسلة محاكاة ساخرة " بارودي" لأشهر الشخصيات الدرامية عربياً وأجنبياً. وأهمية دور أحمد خالد توفيق أنه لم يتوقف عند تقديم قصص مسلية، مثلما فعل محمود سالم من قبل في المغامرين الخمسة والشياطين ال 13، أو ما قدمه نبيل فاروق في رجل المستحيل وملف المستقبل، بل فتح الباب واسعاً أمام قرائه علي عالم من الخيال، وقادهم إلي كتب ومفكرين وروايات أجنبية وأفلام وأغان، كان يشير إليها طوال الوقت في كتبه، وأشار لهم إلي عالم واسع من البحث والاطلاع والكتابة فانطلقوا إليه. أعرف أن الكثير من النقاد والروائيين ينظرون ما قدمه أحمد خالد توفيق بسخرية واستعلاء، مع أن ما تركه من أثر يفوق ما سيتركونه مجتمعين، وفي ظني أنه كان يعرف حدود دوره وأهميته، ولم يكن يتنكر له، بل كان يقول إنه يعد جيلاً قارئاً يستطيع أن يستوعب ما يقدمه كتاب الأدب الجاد، وهي مهمة عظيمة بالفعل، لا يستطيع أن يقوم بها الكثيرون ممن يسخرون من كتابته، وينصبون أنفسهم آلهة للأدب والنقد. ورغم ذلك قدم أحمد خالد توفيق أكثر من عمل لم يكن موجهاً لليافعين، وكأنه يقول للنقاد: " أستطيع أن أقدم ما تريدون، لكني أحب دوري الذي أقوم به"، ولعل أبرز ما قدمه في هذا المجال روايته "يوتوبيا"، والتي فتحت الباب بعد صدورها لعدد كبير من روايات " الديستوبيا"، وبغض النظر عن مدي الارتباط بينها وبين ما تلاها إلا أنها كانت أول البشارة. استطاع أحمد خالد توفيق التأثير بمقالاته الساخرة، بتشبيهاته الفريدة وسخريته من الكلاشيهات اللغوية وحكمته التي تتسرب في سطور رواياته، والتي يتناقلها الشباب بينهم، وتستطيع أن تلمح تأثيره ببساطة في لغة عشرات الكتاب الذين صاروا معروفين الآن رغم عدم اعترافهم بذلك، يمكنك أن تري صوت حروفه في آلاف التغريدات والبوستات علي فيس بوك وتويتر, هذا هو أحمد خالد توفيق ببساطة، الذي لا يقل تأثيره في الأدب عن تأثير جول فيرن وهربرت جورج ويلز و آرثر كونان دويل وستيفن كينج في الأدب الغربي، لكل من أراد أن يقول إنصافاً. أتمني أن يعود أحمد خالد توفيق اليوم من الموت، فقط ولو لساعة واحدة، كي يري بعينيه هذا الاحتفاء به، كي يقرأ المقالات النقدية التي دشنت لتحليل ظاهرته الأدبية، لكي يشاهد جنازته المهيبة (كما توقع) التي لم يمش فيها سوي الشباب، لكي يعاين تأثيره بنفسه علي أجيال جعلهم يقرؤون (كما تمني). كان سيسعد كثيراً لو كان حياً بهذا الاحتفاء به (مثل أن يطلق محافظ الغربية اسمه علي أحد شوارع طنطا)، وهو الذي تجاهله من يسمون أنفسهم مثقفين، وتعالوا عليه وسخروا منه، مع أن أكثرهم لو ظل يكتب طوال حياته، فلن يترك ربع التأثير الذي تركه أحمد خالد توفيق في وجدان كل من ولد بعد الثمانينات وحتي الآن.