لم أكن من أصحاب الصف الأول. ربما كنت من أصحاب الصف الثاني أو الثالث في قائمة أصدقائه الطويلة ومتعددة الصفوف. ولكن مرضه ثم موته قفزا بي هذه المسافة النفسية لأكون قريبا منه، قريبا من ألم الشهور الأخيرة. كان ألمه من النوع الذي يفوق الوصف. طوال فترات مكوثه بالمستشفي، وعبوره بأكثر من واحدة، وبعدة أسرة بيضاء، إما أن تجده نائما، أو يتأوه. كان جسده فقط يقتات علي جرعات كبيرة من المورفين. الألم يقتات علي ألم أكبر منه. أقترب من سريره، أنظر إليه بعين دامعة، ربما لم يكن أصلا يراها، أو يعيرها اهتماما. لم يكن يري هذا النوع من الألم الشفاهي، أما ألمه فمكتوب وموثق ومؤرشف ومصنف بكونه الأكثر عمقا. الألام الشفاهية تحفر حفرة عميقة في النفس، تؤنثها، إلي أن تُسد هذه الحفرة بالنسيان. المرض يضبط المسافات بدقة مع الحياة. أي تبادل أو عهد مفتوح بيننا وبين الحياة، لايستقيم إلا تحت ضغط ما، الفقد، المرض، الموت. لامساواة في الحب، لامساواة في التبادل، أو الحوار. هذه هي العدالة التي تعلمناها علي كبر. التبادل يتم مع عالم لامرئي، لذا ثمنه فادح، وعطاؤه فادح أيضا. تضع روحك علي سارية سفينة جانحة، ومن الصعب التراجع. تحتاج الحياة إلي زلزال كي تتحقق المساواة والعدل. العدل له كفتان، أما المرض فله جناحان. نطير أبعد من ذواتنا، لا لكي نقابل ذاتا جديدة، ولكن لكي نتخلص من الألم. اقترب من سريره، أهمس في أذنه بأن هذا الألم الذي يعانيه سيكون له معني عندما يشفي. كنت ساعتها أحسب الألم كقطعة نقود أضعها في حصالة الطفولة. ألم يتكائر كالشجرة، وكلما كبر، ازدادت مساحة الظل. ينظر لي بوجه صارم، كأنه يقول لي " الألم هو الألم". أحيانا عندما كانت تعصف بنفسي مثل هذه الآلام الشفاهية، كنت أتخيل أن شخصا آخر هو الذي يتألم وليس أنا. كنت أفسح مكانا بجانبي لشخص يتألم. هذه المسافة هي التي جعلتني أتحمل مضاعفات هذه الألام الشفاهية. أحاول أن أمسك بيده، كأني قبضت علي حزمة مسامير، فقد نحلت، زيادة علي نحولها الطبيعي. تشعر بأنك صغير وليس لك حجم، أمام هذا الزائر الذي لاتراه، فقط تسمع صوت تأوهاته. يغفو قليلا، يبحر حافيا علي رخام أملس. لاأعرف أي أحلام يفسح لها الألم مكانا بجانبه. لم يكن موته مفاجأة. كل من رافقه في المستشفي، صار صديقا له، وأضيف لهذه القائمة التي كانت تتكائر بقوة في شهوره الأخيرة. نتعاطف بقوة مع الذين علي وشك الموت، ربما حتي ندرأ عن أنفسنا هذا الشبح المتيقظ. نفرح فرحا ملوثا، بأننا مازلنا بعيدين. لاندري أن هذه التمثلات التي ندور بها حول المرض أو الموت، تقربنا من هذا الآخر، تلغي المسافة. تلك المسافة المستحيلة التي لاتلغي إلا في حضور الموت، أو الألم. ممرضته في المستشفي الأخير لم تجد الوقت لتلبس السواد، فذهبت لتشيعه برداء التمريض. ظلت تسير بملابسها البيضاء علي السطر الأخير من الجنازة. لقد تورطت في حبه، ألغت هذه المسافة، كانت كالطبيب النفسي الذي يحب مريضه، فيفقد الطريق إلي شفائه. هل يهم هنا الشفاء؟ فقدان الأمل هو الذي جعلها تقترب منه لهذه الدرجة، لتلغي هذه المسافة المستحيلة. الحب هو الذي يلغي المسافة، هذا النوع القيامي من الحب. أتذكر قبل وفاته بعدة شهور، وبعد أن نحل جسده وأصبح لايقوي علي السير، زرته في صحبة أصدقاء قريبين له. كانت ليلة ضاحكة، طلب من صديقه أن ينزل معنا ويقود العربة. نفذنا له طلبه. جلس علي حجر صديقه، كطفل، وأمسك بالمقود، وأخذ يقود بسرعة هائلة في طريق البحر، ونحن نضحك. كانت العربة محصنة ضد الموت، لأن الموت كان أحد أفرادها. كان آل باتشينو في فيلم "عطر امرأة"، والشيخ حسني في "الكيت كات". الخيال كان أحد أفراد العربة. أتذكر هذه الروح الجميلة الآن. له ولأصدقائه. محمد بهنسي.