تسألني طالبة الماجيستير عن دلالة الموسيقي التصويرية في ديوان »إلي السينما» أذكِّرها بوظيفة الموسيقي التصويرية في صناعة أيّ فيلم ثم أشرح لها كيف حاولتُ كتابة قصيدة علي شكل مشهد سينمائي، أختار له الديكور المناسب والموسيقي التصويرية التي تكون عبارة عن أبيات لشاعر عربي قديم أو بيت شِعر رومانسي لبابلو نيرودا. ولتفادي الدخول في متاهات أخري لا أخبرها شيئا عن عِشقي للأفلام التي لا يستعين فيها المخرج بأيّ مؤثِّرات موسيقية خارجية، أي الأفلام التي يخلو فيها الجينيريك من اسم المؤلِّف الموسيقي والتي تتسلّل إليها الموسيقي من شقوق المشهد، من خلال نباح كلب، أو أغنية عابرة في الراديو، أو صوت الماء الذي يملأ البانيو. بعد عودتي من القاهرة، شرعتُ في كتابة نص عنها، أو تحديدا عن إضاءة القاهرة وبتعبير آخر أقرب إلي ما يسميه البعض »سنتيمنتالية» كتبت نصا عن نور القاهرة؛ بعد أوّل فقرة، أنقذتني أغنية »كلّموني تاني عنك» لأم كلثوم. ليست المرّة الأولي التي ينقذني فيها لحن ما من غرق الكتابة؛ وليست الموسيقي هنا القارب، لكنّها البحر الذي يدفعني برفق وحزم نحو النص؛ أحيانا، لكتابة قصيدة نثر قصيرة من أربعة سطور أو لكتابة نص سردي طويل، أفعل كما يفعل الشاعر العربي القديم الذي يختار بحرا من بحور الشِّعر ليحمل شِعره، غير أنني لا أختار بحرا من البحور التي حدّد الفراهيدي شواطِئها وإيقاع أمواجها-أوهذا ما كنتُ أعتقده- أختار بحورا حديثة، بحور اكتُشِفت في عصور لاحقة عن طريق الخطأ أيضا، حين كان الشاعر يقصد وجهة قديمة. أبدأ سرد حكايتي مع الكتابة »نبتدي منين الحكاية»- بمشهد طفلة في الرابعة أرادت الاستماع إلي أغنية في مُسجِّل كاسيت- آلة من القرن الماضي، لم تعد مستعملة- وكانت يدها اليسري مبلولة فأصيبتْ بصاعقة كهربائية وهي تحاول وصل المسجِّل بالكهرباء. ما تبقي من هذه المغامرة ثلاثة ندوب في باطن الكفّ اليسري، تحديدا فيما يصل بين الإبهام والسبابة، وما يشهد علي غموض والتباس في النص. لم تكن الطفلة تبحث عن »الميلودي»، كانت تبحث عن الكلمات لتحفظها ثم تردّدها مختارة لها لحنا جديدا كيفما اتفق؛ لاحقا، أي بعد سنوات طويلة، سيدور هذا الحديث بينها وبين صديقة العمر في أوّل لقاء بينهما:- هل تحبين الرقص؟- إن الموسيقي تجري في دمي! حاول المخرج المسرحي الذي اشتغلتُ معه منذ قرابة خمس سنوات علي الهيكلة الدرامية لنص شِعري بغرض تقديمه علي خشبة المسرح، أن يقدّم عرضا يشبه النوبة الأندلسية، وهي طابع موسيقي ينظّم الوصلة الموسيقية وفق ترتيب دقيق حيث ينتظر كلّ مقطع دوره(نوبته) فلا يسبق المقاطع الأخري ولا يتخلّف عنها، كما يحمل كلّ مقطع اسما ووظيفة تجعل الوصلة الموسيقية تنتقل من ذروة إلي أخري كرسم بيانيّ للقلب. وبغض النظر عن نجاح التجربة أو فشلها، فإن الذي يبقي عالقا في ذاكرتي الإيقاعية هو تلك الأحاديث الطويلة والمناقشات التي دارت حول إيقاعات الاستخبار والبطايحي والرصد والخلاص والساعات الطويلة التي قضيتها في الاستماع إلي أسطوانات نوبات أندلسية ليتسلّل الإيقاع إلي ذاكرتي ثم إلي نصوص قد تحتاج لاحقا إلي يَمٍّ يحملها. لا أحد يعرف بأنّني توقفت عن الاستماع إلي الموسيقي لأكثر من سنة، بدافع تدريب حواسي علي التقاط الإيقاع خارج الآلة؛ وكالصائم الذي يتخيّل رائحة الطعام وشكله في تشكّل الغمام، بدأت ألتقط دبيب النمل ووشوشة الملائكة. بعد أكثر من سنة اكتشفت بأن اللحن لَحَن الشخص في كلامه: أخطأ في الإعراب وخالف- كمهارة السياقة والسباحة لا يفقده الانسان بفقدان الذاكرة، غير أنني احتفظت أيضا بعادتي السيئة والجديدة في التقاط دبيب الحشرات ووشوشة ما لا يُري. أبدأ سرد حكايتي مع الكتابة -»دي حكاية حبنا ليها أكثر من بداية»- بمشهد أختين وأخ يقضون ليالي الصيف البيضاء في مناقشة وتحليل كلمات أغاني فرقة »سوبرترامب» فرقة الغناء الشهيرة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تحديدا أغنية »رودي» والتي تبدأ بهذا المقطع: »رودي يركب قطارا لا يتّجه إلي أيّ مكان، وفي منتصف الطريق لا يريد أن يصل إلي هناك، لكنّه بحاجة إلي الوقت»؛ لاحقا، أي بعد سنوات طويلة، ستكتب إحدي الأختين أوّل ديوان شِعر لها بعنوان »نسيت حقيبتي ككلّ مرّة» ديوان يتحدّث عن الأسفار والقطارات التي لا تصل. حين تُوفي والدي، كتبتُ: لا أفهم كيف يربط الناس عندنا بين الحزن وإخفاء صوت الموسيقي، كيف يمكن ربط الحزن بالتوقف عن الغناء أو الاستماع إليه، والغناء أيّا كان، هو بحّة الروح الفاتنة بعد عويل طويل. سألني أحد الشعراء، بعد أمسية شِعرية قرأت فيها قصائد كثيرة من ديوان »إلي السينما»: ما علاقتكِ بالبحر المتقارب؟ نظرتُ إليه باستغراب ثم قال: أحيانا يكفي إضافة حرف إلي أحد مقاطع قصيدتكِ لتصبح موزونة علي هذا البحر، فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعُولُنْ..ثم حاول أن يشرح لي إيقاع المتقارب بحركة يده علي قطعة خشبية. ابتسمت وقلتُ: لا أدري من أي جُحر في الذاكرة تتسلّل الأشياء؟ الجزائر