الكتاب: »حياة باسلة« المؤلف:حسن النواب الناشر:العين ما هو الفارق بين السيرة الذاتية والرواية؟ ربما يبدو السؤال كبيرا، وتتسع الاجابة عليه بعرض تاريخ كتابة الرواية، والسيرة الذاتية أيضا، وربما تكون الاجابة الاسهل هي التعامل مع النص حسبما يقدمه كاتبه، وترك التصنيفات التالية بعيدة. لكن أحيانا كثيرة يقفز السؤال أمامنا حين نطالع نصا ما، والسؤال لا يقفز هنا رغبة في التفتيش في حياة الكاتب، أو مطابقة شخصيات الرواية مع شخصيات واقعية، ولكن السؤال يقفز عندما تختل أليات الصنعة الروائية مع طغيان الرغبة في البوح، وذكر حوادث شخصية وقعت لشخص الكاتب وتفلت منه حال كونه يكتب رواية، فيتوه القاريء في البناء الروائي المفتوح، ويضيع ما بين المنطقتين، فلا هو يتابع حيوات شخصيات روائية تظهر وتختفي حسبما تتطلب الرواية، أو حيوات حقيقية تظهر وتختفي حسبما تقتضي ظروف الحياة نفسها. تطالعنا هذه الاسئلة عند قراءة رواية »حياة باسلة« للشاعر العراقي حسن النواب، والصادرة مؤخرا عن دار »العين«. تدور أحداث »حياة باسلة« -519 صفحة - في عراق الثمانينيات والتسعينيات، تحت حكم صدام حسين، والحروب التي أدخل فيها صدام البلاد، ثماني سنوات مع إيران، ثم مغامرة غزو الكويت، وبعدها سنوات الحصار الإقتصادي الطويلة التي رزح تحتها العراق. بطل الرواية شاعر شاب مشغول بالشعر وبالاسئلة الوجودية الكبيرة، وايضا بمجتمع المثقفين العراقيين في تلك الفترة، تبدأ الرواية بالتقاء الشاعر الشاب مع شاعر كبير صعلوك، يعرف الجميع موهبته، ويخافون لسانه الطويل، الذي يفضح أنصاف المواهب، والمتسلقين، والمثقفين المخبرين، ويطول حتي صدام حسين، في وقت كانت اجهزة صدام الوحشية تطول كل من يفكر في التجرؤ علي شخص الرئيس، لذا ظل الشاعر الكبير الذي يسميه الكاتب «الوشق البري» الوشق: حيوان مفترس من فصيلة السنوريات، يتشابه مع القط والنمر ويتغذي علي الحيوانات الصغيرة كالارانب والثعالب - صعلوكا يقضي ايامه يتسكع في الطرقات ويسكر وينام في الفنادق الرخيصة والحدائق العامة، في اشارة إلي الشاعر العراقي »جان دمو«، من هنا يبدأ انبهار الشاب بالشاعر الصعلوك الذي يكتشف موهبة الشاب الصغير، ويجولان معا علي المقاهي والحانات البغدادية، ويسخران من المثقفين الجبناء، والشعراء عديمي الموهبة. هكذا يفتح النواب الباب علي مصرعيه أمام تفاصيل كثيرة تخص الحياة الثقافية في ذلك الوقت في العراق، حيث يهمس المثقفون لبعضهم خوفا من ان يسمعهم جاسوس مندس علي طاولتهم، حيث المتحكم في الحياة الثقافية هي وزارة الثقافة وهيئاتها المختلفة، وبالتالي يمكن للمسئولين أن يقربوا من يشاؤون ويبعدوا من يشاؤون حسب درجة الرضا عن الكاتب أو الأديب. الخيط الثاني الذي تدور حوله الرواية هي الحروب التي خاضتها العراق، حيث يتم طلب الشاعر للتجنيد، والتجنيد في ذلك الوقت كان يعني الموت المجاني علي جبهات حرب لا تخص العراقيين بقدر ما تخص صدام حسين، وهكذا يرسل الشاعر المجند إلي إحدي جبهات الحرب كسائق دبابة، وهناك يري الموت كثيرا، وهنا تفتح الرواية باباً واسعاً لسرد تفاصيل الحرب التي ربما تبدو غائبة عنا، وايضا يصف الكاتب رعب الهرب من التجنيد والدوريات المستمرة للبحث عن الهاربين، يهرب الشاعر مرة ويلتحق بالشمال حيث الاكراد المتمردون، مع اثنين من رفاقه الشعراء والمجندين أيضا، ويقرران انشاء حركة ثورية مناهضة لصدام حسين، ولكنهما يرجعان بعد ايام ويتفرق شملهم ويقرر الشاعر العودة الي الجيش مرة اخري ليرسل الي جبهة جديدة، وبعدها ينتهي من تجنيده، ولكن يقرر صدام احتلال الكويت وهكذا يتم استدعاؤه مرة اخري، وتحل الهزيمة، ليعود هاربا ويتساقط زملاؤه علي طول الطريق، مشاهد قاسية تعرضها الرواية، لتصنع مشهدا دمويا خطط له الطاغية ودفع ثمنه ملايين العراقيين. بعد ذلك تبدأ الرواية مشهدا جديدا بطله الاساسي الحصار الاقتصادي، الذي يرهق الجميع ويدفع الكتاب والفنانين إلي بيع مقتنياتهم، وكتبهم علي الرصيف، ويدفع الشاعر الذي ضاقت به الامور الي حد انتظار دجاجاته الخمس عندما تبيض كي يشتري بثمن البيض ما يمكن ان يسد رمق أطفاله، فيضطر إلي كتابة قصيدة تمجد »الرئيس« في ذكري انتهاء الحرب الايرانية، كي يحصل علي مكافأة تسد رمق اسرته، وفي الاخير يقرر الهرب من الجحيم، وعبر محاولات عديدة ينجح في الحصول علي دعوة من اتحاد الكتاب في الاردن، ثم يغادر العراق. هكذا تتحرك الرواية بين حياة المثقفين، وحياة الحرب، ولكن ما يصنع ارتباكا في الرواية هو الرغبة في الحكي عن العالمين لذا تكثر التفاصيل لكن تغيب نعومة الانتقال فيما بينهما فلا نفهم لماذا لم يحاول الشاعر الهرب منذ البداية، او لماذا يعود إلي الجيش مرة أخري بعد ان كان نجح للوصول إلي المنطقة المتمردة في الشمال، ولا يدرك القاريء التوقيت الزمني للاحداث إلا في بعد ما يقرب من ثلث الرواية، مع وضوح مشاهد الحرب. الرغبة الواضحة في ذكر كل التفاصيل التي يمكن أن تحفظها الذاكرة كما يذكر سارد الرواية، والانتقالات المفاجئة وغير الممهد لها من الجبهة إلي المدينة وبالعكس هو ما يصنع هذا الارتباك بين السيرة الذاتية التي تود ذكر ما حدث، وبين الرواية التي تحتاج إلي حرفية خاصة لصنع بناء روائي. أيضا ما يصنع هذا الارتباك الاسماء التي يعطيها الكاتب لشخصيات الرواية بداية من »الوشق البري« و »الشاعر القروي« و»شاعر طفولة الماء« و »المعتوق« و »الفيل الصغير« والتي تختلط بأسماء حقيقية مثل محمود درويش، وسركون بولص، وسعدي يوسف، أيضا تختفي الشخصيات فجأة، فعلي الرغم من الشقاء والتهميش الشديد الذي يعاني منه »الوشق« ألا اننا لا نفهم لماذا قرر فجأة الرحيل، وكيف رحل في ظل القبضة الأمنية الباطشة لنظام صدام حسين. أيضا التفاصيل الحياتية الخاصة بالشخصيات، فلا ندري لماذا تزوج الشاعر، ولا تظهر شخصية الزوجة سوي في ثلاثة أو أربع مشاهد في الرواية، ليست الزوجة فقط ولكن الحبيبة التي تظهر في بداية الرواية سرعان ما تختفي بسهولة، لتتزوج بآخر غني، وبشكل عام لا تتواجد النساء في الرواية بكثرة باستثناء الأم، التي لا تتجاوز دورها ك»أم«. »حياة باسلة« نص يفتح أبواب كثيرة لمعرفة عراق غائب عنا تحت طغيان شعارات عامة لا تظهر تفاصيل الحياة التي يعيشها الناس، عراق تعرض للجراح كثيرا ولا يزال ولا نعرف كثيرا عن مدي عمق هذه الجروح، نري كيف يسقط المثقف تحت وطأة الحصار والارهاب الامني ومطالب الحياة، ربما نرتبك أمام فيض التفاصيل التي لم يتم بناؤها بعناية، لكن يجعلنا النص ندخل إلي العراق الذي لم نعرفه.