لم يكن اختيار ولاية تلمسانالجزائرية، عاصمة للثقافة الاسلامية صدفة أو من فراغ، فهي همزة الوصل بين المغرب الشرقي والغرب الجزائري، مدينة تنطق بالتاريخ، كانت تعرف ب »بوماريا« في العهد الروماني، واتخذها الزيانيون عاصمة لهم.. مدينة فخورة بماضيها المجيد. ذات المعالم الأندلسية، متأصلة في المغرب الاسلامي، وصاحبة المواقع الطبيعية. فهي بحق مدينة الفن والتاريخ بكثرة ما فيها من المباني الفنية الرائعة. تضافرت جهود الطبيعة السخية، وجهود أهلها المبدعين لتكوين مدينة تفوقت في استغلال الجبال في زراعة أشجار الزيتون، واللوز في تشكيل هندسي رائع يبهر الناظر إليها، واستغلوا السهول في زراعة القمح الذي أغني أهلها عن ذل المستورد المسرطن. كما أن تلمسان - أيضا - مدينة راقية ممتعة للفكر والقلب والروح بغرام أهلها بالموشحات الاندلسية القديمة رغم طغيان اللغة الفرنسية في المجتمع الجزائري - فاستحقت أن تدعي جوهرة المغرب وغرناطة افريقيا. من معالمها الأثرية مغارات عين فزة، المنصورة، ندرومة، ميناء هنين، مساجد بني سنوسي التي تعود إلي عهد المرابطين، فيها 45 موقعا طبيعيا وتاريخيا حتي أصبحت عبارة عن (متحف ضخم): مسجد تلمسان الكبير في وسط المدينة، مسجد سيدي بومدين علي قمة الجبل، بجواره قاعة لابن خلدون للدرس، وحولها معرض لأهم المخطوطات العربية، وهذا المسجد له مكانه في روح وقلب أهل تلمسان إليه يتجه أهل تلمسان ليتلمسوا البركات، ومن الآثار الاسلامية أيضا، قبر السلطان، المشور وهو متحف مفتوح لكل ألوان الفنون الأندلسية. ولأنها مدينة العلم وموطن العلماء والأولياء، لذا حرصت الدولة ممثلة في وزارة الثقافة والمركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ بجامعة أبي بكر بلقايد، بالتعاون مع مؤسسة الأمير عبدالقادر علي تنظيم الملتقي الدولي »عبدالقادر رجل عابر للزمن« ضمن تظاهرة تلمسان عاصمة للثقافة الاسلامية لعام 2011 شارك في الملتقي نخبة من المفكرين من أنحاء العالم الاسلامي، شرقا، وغربا، أراد القائمون علي هذا الملتقي (د. نور الدين غوالي)، عميد جامعة تلمسان، د. زعيم خنشلاوي، مدير الأبحاث بالمركز، د. سليمان حاشي مدير المركز الوطني للبحوث)، أن يؤسسوا لاقامة شبكة علمية جامعة للدراسات المكرسة حول شخصية الأمير عبدالقادر المحورية في تاريخ الجزائر المعاصر، فهو البطل الذي وقف مجاهدا بثبات في وجه أعتي قوة استعمارية في النصف الأول من القرن ال 19 معبئا القبائل ضد جيش فرنسا الذي فاق تعداده المائة ألف مقاتل، والمجهز بسلاح فائق الاحترافية، وحكم القدر بحرمان عبدالقادر من شعبه وحرمان شعبه منه، وكان النفي، والاستقرار في دمشق، وبتكريس هذا المجاهد لباقي حياته للفكر وللشعر والذكر والانهماك في شئون العالم، والاهتمام بالآخر مهما كان هذا الآخر، في هذا الملتقي يقدم القائد الجزائري الدائم الحداثة نفسه - اليوم - مثلما فعل منذ القرن ال 19 كمعاصر للماضي والحاضر ومعاصر مغيب عن المستقبل. بدأت فعاليات الملتقي صباح السبت 25 فبراير، ولمدة أربعة أيام، بقصر ثقافة إمامة، دارت أعماله في عشرة محاور حول الأمير عبدالقادر امتزج فيها العلم بأرواح العارفين، وكانت المحاور هي: عبدالقادر رجل الدولة، العسكري، الشاعر، الفيلسوف، الحكيم، رجل الحوار، الانسان، العارف الصوفي،و ثمة محاور أخري حول علاقته بالمرأة وحقوق الانسانية. وكان الافتتاح بمداخلة للدكتور زعيم خنشلاوي (رئيس قسم البحث بالمركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ)، فقدم قراءة تأملية في رمزية الشجرة التي تم تحتها مبايعة الأمير عبدالقادر وولد من رحمها جنين الدولة الجزائرية الحديثة، مبينا أن مبايعة الأمير تحت شجرة الدردارة تكتسي صبغة صوفية، يسترجع هذا الطقس الرمزي مشهد الميثاق الالهي الذي أخذه الرسول (صلي الله عليه وسلم) علي صحابته الكرام تحت شجرة السمر الشريفة المذكورة في القرآن الكريم، وكذا يتلقي الأمير عبدالقادر علي غرار جده الأكرم المبايعة تحت الشجرة. من مصر تحدث الدكتور مصطفي لبيب، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، عن المشترك الانساني عند ابن عربي والأمير عبدالقادر: رؤية للهوية في الاختلاف، فأكد بقوله: كثيرة هي وجوه التناظر بين قطب العارفين الشيخ الأكبر محيي الدين عربي، وأكبر تلاميذه المعاصرين عبدالقادر الجزائري، ومن بينها رؤيتهما للمشترك الانساني، وتجاوزهما لصور التعارض بين مختلف المعتقدات واستلهامهما لأنبل ما في الدعوات الدينية من تأكيد علي وحدة الأصل الانساني ووحدة المصير، ومن تحذير قوي ضد هدم النشأة الاسلامية. ويؤكد د. لبيب أن المشترك بين مختلف المعتقدات يتجلي عند الأمير عبدالقادر في الوعي العميق لمغزي كرامة الانسان ورفعة مقامه في الوجود وأن كتاب التكريم الالهي هو لهموم النوع الانساني بأسره، علي أن هذه الكرامة مرهونة بالقدرة علي التجاوز المستمر استشرافا للكمال، حيث ان الانسان الكامل هو مرآة الحق تعالي كما يؤكد عبدالقادر علي وحدة الدين الحق في دعوات الرسل جميعا، وينتهي إلي تقرير أن الانسان ما عرف نفسه إلا واحدا في كثير وكثيرا في واحد. كما يؤكد عبدالقادر - علي لسان د. لبيب- أن الدعوات الدينية كلها جاءت رحمة وسلاما للعاملين بما يستوجب الأنس بجميع الخلائق وهذا يفسر لنا حرصه (عبدالقادر) علي مراجعة مفهوم الجهاد في الاسلام، وبيان المقصد الحقيقي من الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر. ويختتم د. لبيب، أن الدرس المستفاد من ذلك هو أنه بدون قبولنا للآخر المختلف لن يكون هناك سلام حقيقي بين الأديان، وبدون هذا السلام والتأكيد علي ما هو مشترك فيها، والتسامح بإزائها لن يتحقق للانسانية سلامها المنشود. ومن المجمع الملكي للغة العربية بالأردن، تحدثت الدكتورة ليلي خليفة عن المنحي الفلسفي العرفاني في مواقف الأمير عبدالقادر، فأوضحت أن نصوص كتاب (المواقف) للأمير عبدالقادر تجمع العرفان والفقه والأدب، والفلسفة، وتجمع العلوم النقلية والعقلية والعرفانية، وتشرح وتفسر وتعلل، وتقوم، فهي علوم متوحدة عنده (ليست خليطا) علي نسق فلسفي عرفاني. وعن المصطلح الصوفي في شعر الأمير عبدالقاد وكانت مداخلة الدكتور رضوان الكردي (جامعة البلقاء - الحصن، الأردن) فأشار إلي أن عبدالقادر الجزائري كان ينتهج السلوك الصوفي، وله فيما اشتهر بين الناس كتاب (المواقف) في التصوف، ويدلل علي تصوف الأمير ما شاع في شعره من مصطلح صوفي، مؤكدا أن ديوانه يثبت تصوفه، واستغراقه الروحي الذي لايصدر إلا عن الصوفية، وأمثالهم، كما نلحظ تأثره بشعراء التصوف المشهورين كالبوصيري، وابن عربي، وابن الفارض، والحلاج، ومن المصطلحات التي ذكرها في شعره ألفاظ الحب، العشق، الدلال، التيه، العاذل، الوصل، الشوق، الهوي. ومن جامعة دمشق (سوريا) قدم الدكتور بكري علاء الدين دراسة لمخطوطات كتاب الأمير (المواقف) للأمير، مشيرا إلي أنه توصل إلي وجود أكثر من 12 نسخة، مخطوطة كاملة لكتاب المواقف في دمشق واستنبول، الرباط، باريس، برمنجهام، والجزائر العاصمة، وأوضح د. بكري أنه يعكف الآن علي اعادة التحقيق لكتاب المواقف انطلاقا من نسخة متحف الجيش في الجزائر والمهداة من قبل أحفاد الأمير إلي الجمهورية الجزائرية، مؤكدا أنها أفضل النسخ لأن فيها أكثر من 80 موضعا تم تصحيحها بخط الأمير عبدالقادر نفسه. ولفتت د. شيرين دقوري (المعهد الفرنسي للشرق الأدني بدمشق) إلي أننا في ظل ما نواجهه في عالمنا الحديث من شرور وظلم وتعذيب وانتهاك لحقوق الانسان وكرامته، فما أحوجنا اليوم إلي تلك الحاجات في فكر الأمير كمتصوف وكإنسان عاش حياته باحثا عن أسمي وأعلي مكانة يصل إليها الانسان، ونجد ذلك جليا في فلسفته الصوفية القائلة بتجلي الأسماء الالهية في الكون والانسان حيث اتسم فكره بالرحمة بجميع الخلق، والتخلق بالقرآن والسنة، وفي النهاية طرحت شيرين سؤالها: ألم يثبت العصر الحديث فشل اطروحاته حول الانسان (المدني) ألسنا في حاجة إلي الثقافة الصوفية عن الانسان وحقيقته؟! كان الاهتمام بالوفد المصري المشارك من اللجنة المنظمة قد فاق التصور، فقد وضع القائمون علي الملتقي الوفد المصري في المقدمة، وفي دائرة الاهتمام واحاطتهم بكل ألوان الكرم والترحيب، وقبل كل شيء كان السؤال عن مصر والاطمئنان عليها، وكيف أنهم في انتظار مصر الجديدة، وكيف أنهم بهروا بمليونيات ميدان التحرير، ومباركتهم للثورة المصرية، كي تقود مصر كل الوطن العربي، مؤكدين أنهم قد تناسوا ما حدث حول مباراة الكرة، ومشيرين إلي أن ما حدث في استاد بورسعيد قد فاق التصور، وأن ما تم كان من صنيعة كل من يعمل ضد الشعب المصري.