لغة جاهلية تقتحم أبجدية قيد التشكّل، فتطيحها تحت وطأة الحماسة، والرغوة السائلة لرعاة يتأبطون كمبيوتراتهم في صحراء السراب، في وقفة طللية. بورتريه سريالي لشخص يرتدي سروال جينز ويضع فوق رأسه عقالاً لا مرئياً، يحميه من شمس الأسئلة الصعبة. يرنّ هاتفه الجوّال فيستله مثل خنجر. يغرق في ثريد الثورة إلي آخر أصابع يده، ثم يلقي بالعظام إلي من حوله، فهذا المنسف الغارق بالأدام الدسم، يستحق المغامرة. يتسلل من متاهة أحرف الكيبورد، حداء طويل، وعبارات غطّاها غبار النسيان. تستوقفني بنزق كلمة"حرائر". لاتستدعي هذه المفردة الحريّة قدر استدعاءها معجماً جاهلياً، في وصف الحرائر والإماء، وجِمال ونوق، وخيام، وزعماء قبائل، وعبيد، وقهوة مرّة للضيوف، وثغاء أغنام، ونباح كلاب، ومواقد مطفأة. بيانات لا تتسع لها بسطات سوق الحميدية، مكتوبة علي عجل، بطريقة كُتّاب العرائض. بعضهم يرغب الزواج عرفياً من الثورة، وآخر يفضّل زواج المتعة، وآخر الاغتصاب من دون شهود. لكن من يدفع المهر يقبع في مكانٍ آخر، أو إنه من فرط الانحناء تحت ثقل راكبي الموجة فقد صوته للاعتراض، أو الاحتجاج. القاموس الجاهلي يتسع للبيانات المضادة أيضاً، في سوق عكاظ السياسي، فيما الثورة ترتدي ثوب العروس الملطّخ بالدم. دم العذرية علي الأرجح. فالفحولة اللفظية تتسع لكل الهواة في كتابة الإنشاء الركيك والزعيق والاسم المستعار. إن فكرة التغيير تحتاج إلي معجم جديد يواكب لحظة غير مسبوقة عربياً، لكن ما نجده، هو خطاب قديم يستعين ببلاغة الأسلاف، أو إنه يجيب عن أسئلة جديدة، بإجابات قديمة، فالثورات العربية، أو ما يسمي "الربيع العربي" تشبه أحجية، أو متاهة، بغياب وضوح مقاصدها ، لدي بعضهم، وثورة بيضاء لدي آخرين، تبعاً للمتراس الذي يقف وراءه كلّ منهما. أفكّر بمسّاحي الأراضي الجدد، هؤلاء الذين يرسمون خرائط غامضة في توزيع الغنائم، ذلك أن الثورة بمفهوم هؤلاء هي غنيمة حرب أولاً، وكعكة دسمة صالحة للاقتسام في العتمة، ومن دون إشعال شمعة واحدة، كي لا يتسلل غرباء إلي صخب الاحتفال. لا شك أن المثقف السوري من أكثر الكائنات عطشاً إلي الحرية، ولديه سيرة ذاتية متخمة من نفائس القمع والإقصاء والتخوين، ولكنه بدلاً من أن يحفر بئراً في الأرض الصخرية، اكتفي - بعد محاولات مرتجلة في الحفر- بزجاجات المياه المعدنية المستوردة، وألقي معوله جانباً، متفرغاً لشعارات يوم الجمعة العظيم. قراءة هذه الشعارات تؤكد الحيرة العمياء ما بين الجامع والفيس بوك، وحرب دائرة الطباشير في الشدّ والجذب، بالإضافة إلي تصنيع صنم من التمر بالأسماء الجاهلية نفسها، ذلك أن الثورة أو الانتفاضة أو الاحتجاجات- سمها ما شئت- التي ما تزال في المخاض وعسر الولادة تحوّلت إلي أيقونة مقدّسة، محرّم الاقتراب منها، من دون وضوء وتعاويذ وتمائم، وكأن مريديها استعاروا قاموس مديح طغاة الأمس، وألبسوه للثورة في قفصها الزجاجي، وإذا بها تدخل المزار المقدّس بالطقوس نفسها التي يحفظها مريدو الأولياء الصالحين. بائعو تذاكر الثورة، افتتحوا أكشاكاً في شوارع الفيس بوك لبيع الأغاني الركيكة والشعارات المستعملة المستوردة من دكاكين اليسار القديم، ولكن بدمغة مختلفة. هكذا ارتدي هواة ومتعطلون"تي شيرت" الثورة، وذهبوا إلي الرقص في حانات باب توما إلي حدود الغيبوبة، حزناً علي أرواح الشهداء. لعل ما نحتاجه، في هذه اللحظة، هو فحص المشهد من خارج حدود الخريطة، وليس من تضاريس الداخل وحسب، في جردة حساب شاملة، بقصد تظهير الصورة بالألوان الطبيعية، وليس عن طريق"الفوتو شوب" لتزيينها فقط. ما نجده، علي صعيد ثقافي صرف، هو خفة في تسلّق شجرة المعرفة، ومحاولة قطف التفّاح المحرّم، من دون جهد ومشقة، لمثقفين استيقظوا فجأة، بعد غيبوبة طويلة، علي ثمرة يانعة في متناول اليد والفم، فيما كانوا، في الأمس القريب، جزءاً من حاشية" الفيل يا ملك الزمان". أن تنهمك في مديح مزايا الفيل بالأدوات نفسها التي تمدح بها مزايا الثورة، فتلك معضلة حقيقية، في كتابة جديدة يُفترض أن تكون متفلتة من معايير الصدأ الذي شاب كتابات كثيرة، كنّا ننظر إليها، علي أنها مجرد إنشاء عابر. قد يحتج بعضهم، بأن الفكرة أهم من صقلها، في هذه اللحظة، وإن الموقف أهم من البلاغة المضادة، لكن السراج يحتاج إلي زيتٍ صاف، كي يضيء العتمة، فتجاوز التفاصيل الصغيرة، سيراكم تبعات كبيرة، وأعباء سوف تتكدس لتصير- في نهاية المطاف- هي الأصل وليس الصورة، سواء لجهة تقنيّة الكتابة، أم لجهة تقديس الأيقونة(الصنم). في المقابل، لا يمكن تجاهل تأثير وسائل الميديا الجديدة، في طريقة الاختزال، وحتي عدد الكلمات. هنا لا تحتاج إلي تمهيد أو توطئة. عليك أن تذهب إلي فكرتك مباشرة، بما يشبه الرسائل القصيرة علي الموبايل، فالبلاغة في الاختزال، ولكن اختزالاً بلا بلاغة، سوف يكون طبخة بحص لا أكثر. بالطبع سوف يكون امتحان الكتابة الإبداعية، أصعب بمراحل، مما سبق، ذلك أن الانخراط في لحظة الانفجار وحدها، لن ينقذ النص من الشوائب التقنية، فنحن إزاء عتبة سردية مغايرة، تتطلب قدرة إضافية في قراءة المشهد، وإعادة رصف حجارة الشارع، بما يواكب حركة الأقدام، ورنين ساعة كانت معطّلة لفترة طويلة. دمشق