مشهد من فيلم »الكيت كات« من بين أدباء الستينيات جميعا يبدو ابراهيم أصلان صوتا متفردا ومختلفا. ومع أن هذا الجيل قام بنقلة كبيرة في مفهوم الواقعية علي مستوي الموضوع واللغة، إلا أن ابراهيم أصلان هو الذي استطاع أن يصل إلي القطيعة الكاملة مع الأدب التقليدي، وأن ينسج لنفسه، ببطء وراحة بال نادرة، قطع قليلة من السجاد اليدوي الفاخر. في زمن السجاد الآلي والاليكتروني يبدو ابراهيم أصلان قادما من زمن ومكان بعيدين، يذكرني ببطلة فيلم "جابة" أو "السجادة" للايراني محسن مخملباف، تلك الفتاة التي تعيش فوق أحد الجبال النائية المزهرة، والتي تنسج قصة حبها وحياتها فوق سجادة هي كل ما يبقي من عمرها القصير. لماذا بدا لي ابراهيم أصلان نساجا، حتي قبل أن أعرف بعد وفاته أنه عمل في صباه بورشة للنسيج اليدوي؟ ولماذا كانت تذكرني أعماله بتلك الفتاة التي تغزل عالما مبهجا من الألوان والأشكال تبث فيه روحها البريئة البسيطة، وتصنع بخيالها ويديها الرقيقتين المحترفتين تحفة فنية تنافس، إن لم تفق، أعمال كبار الفنانين. تخلو أعمال ابراهيم أصلان من الايديولوجيا ومن النزعة التعليمية الخطابية ومن الأفكار كلها تقريبا. ليس معني ذلك أنه لم يكن صاحب رأي ورؤية وموقف...علي العكس تشف أعماله قبل شخصيته- عن أخلاقية وانسانية تتجاوز كل الايديولوجيات والتحليلات الاجتماعية المباشرة. ربما يكون جيل الستينيات قد استطاع أن يحرر اللغة الأدبية من بلاغتها العمومية الرسمية لصالح اللغة الفردية للأديب، وأن يحرر الحكاية من أسر القصص التعليمية ذات المغزي لصالح التأملات الفردية والسرد الشخصي، ولكن ابراهيم أصلان خطا بهذه المحاولات خطوة أخري عملاقة وسابقة لزمنها بكثير جدا. استطاع أصلان أن يحول اللغة إلي كيان شفاف مثل الماء الذي يخلو من اللون والرائحة ولكن ينبع فيه سر الحياة كلها. من النادر، إن لم يكن مستحيلا، أن تجد في أعمال أصلان بلاغة لغوية لفظية أو شيئا من المحسنات البديعية المألوفة أو تركيبا معقدا للجمل أو حتي استخداما لأفعل التفضيل أو الأوصاف التي تنم عن التعبير المبالغ فيه أو المشاعر المفرطة. الشئ نفسه حدث مع الحكاية. لن تجد هنا شيئا من الحكايات التقليدية ذات الحبكة والحدث والتطور الدرامي، ولن تجد أيضا تلك الحكاية الشخصية التي شغف بها جيل الستينيات. وكما دمر اللغة ليحيلها إلي أصولها البسيطة كمجرد وسيلة للوصف، كذلك قام بتدمير الحكاية ليحيلها إلي أصولها الواقعية، حيث تتحول إلي وقائع متناثرة غير مترابطة كما لو أنها طبيعة عذراء لم تمسها يد بشر بعد! لطالما شعرت بالخجل حين أحاول التحدث عن أحد أعمال أصلان. ذلك الشعور الذي ينتابك حين تجد نفسك في جبل أخضر يمتلئ بالأشجار والأزهار تسير فيه وحدك، وتفكر أن تنتزع زهرة لتفحصها وتلمسها وتشمها عن قرب، ولكن تخجل في اللحظة الأخيرة من انتهاك هذه البراءة العارية...أو حين تجد نفسك مطالبا بوصف لوحة فنية أو فيلما مدهشا بصريا يصعب وصفه بالكلمات. يكمن سر ابراهيم أصلان الابداعي في هذه النقطة تحديدا: الكيفية التي أخضع بها الوسيط، وهو اللغة هنا، إلي شئ غير مرئي أو ملموس، لصياغة نص يصعب وصفه بمفردات أخري أو بترتيب مختلف للكلمات. وتتجلي هذه البراعة كأفضل ما يكون في الحوار بين الشخصيات. شخصيات أصلان في الحقيقة لا تكاد تقول شيئا مفيدا، وكلها تعاني من مشكلة في التعبير عما يعتريها من مشاعر ورغبات، ولكن الطريقة التي يتم بها ترتيب الكلمات، وتقاطعها مع وصف اللغة الجسدية لأصحابها وايماءاتهم وردود فعلهم علي كلمات الآخرين، هي التي تنقل إلينا محتوي النص. وهذا الاسلوب في الحقيقة سينمائي بامتياز لأنه ينقل إلي القارئ صورة متكاملة مستقلة كما لو أنه لايوجد شخص يكتبها أو يصنعها...فوجود ابراهيم أصلان الكلي والكامل يتجلي تحديدا في غيابه كصانع، وهو كفنان أقرب في عمله لعظماء صناع السينما الوثائقية والواقعية. عمله المنشور الأخير "حجرتان وصالة" تملكني لشهور. اصطحبته معي بالصدفة أثناء رحلة إلي البرازيل، كعادتي في اصطحاب كتب لا أجد غالبا وقتا لقراءتها في السفر. ولكنني وجدت نفسي أسيرا لغرفة الفندق لا أستطيع ترك الكتاب قبل أن أنهي قراءته. والمدهش أنني قرأته مرة ثانية قبل عودتي، وثالثة في القاهرة، ورابعة مع زوجتي. من النادر جدا في عمري هذا، ومشاغل العمل والحياة التي تسرقك من القراءة، أن تدمن قراءة كتاب إلي هذا الحد. ورغم أن عاما ونصف العام مروا علي قراءته، فلا يزال الكتاب منطبعا في ذهني علي شكل صور متوالية، تثير البهجة والوجع، كما لو كان فيلما، أو بالأصح كما لو كانت شخصيات الكتاب بشرا من لحم ودم يتجسدون أمامي. من المؤكد أن هذه الحالة ليست خاصة بي، وأنها أصابت الكثيرين ممن قرأوا العمل، خاصة من السينمائيين. واحد من خريجي معهد السينما، وهو شريف البنداري، قرأ احدي قصص المجموعة في "الأهرام" قبل أن تنتظم في كتاب، فقام بتحويلها إلي فيلم قصير بعنوان "آخر النهار"، ومنذ أيام، بعد وفاة أصلان بساعات، أعلنت جوائز ساويرس الثقافية لأفضل سيناريو سينمائي، وفاز بها محمد صلاح العزب عن السيناريو الذي قام بإعداده عن "حجرتان وصالة"... لا توجد صدفة في هذا الارتباط بين أعمال أصلان والسينما. "مالك الحزين" كانت من أوائل أعمال أدباء الستينيات التي تحولت إلي أفلام، وهو واحد من أنجح وأهم الأعمال المقتبسة عن عمل أدبي. وسر هذا النجاح يكمن في أن المخرج وكاتب السيناريو داود عبد السيد استطاع أن يلتقط روح العمل لا نصه، وبالتحديد تلك "الواقعية الشعرية" التي تميز أعمال ابراهيم أصلان كلها. وتكمن شاعرية هذه الواقعية في عدة خصائص أهمها روح المحبة والمشاركة الوجدانية التي تلف الشخصيات بغلالة ناعمة ورقيقة مهما كانت هذه الشخصيات شعبية وسوقية وغير أخلاقية وبسيطة الفكر والثقافة. هناك شئ شفاف وروحاني في هذه الشخصيات، وهناك ذلك الاحساس الذي أطلق عليه الناقد الألماني فريدريش شليجل ( 1772- 1829) "السخرية الرومانتيكية"، والتي قال أنها تميز عددا من كتابات الشعراء الألمان الجدد. هذا التعبير عرف طريقه إلي الفن الحديث في الآونة الأخيرة، خاصة في بعض أعمال مابعد الحداثة التي تتعامل مع الواقع باعتباره مصدرا للتأمل الساخر والمتعاطف للفنان. تنتمي أعمال ابراهيم أصلان في اعتقادي إلي هذه الواقعية الشاعرية الساخرة، التي تبعث الفكاهة والأسي في النفوس، وهو ما نجح في التقاطه وتوصيله داود عبد السيد في "الكيت كات"، وكان سببا لنجاح العمل واستمراره في حصد الاعجاب حتي الآن. "عصافير النيل" من أعمال أصلان التي ارتسمت في خيال كثير من قرائها كصور سينمائية منذ صدورها، ولكن لظروف الانتاج المزرية في مصر تأخر المشروع طويلا، ومر بفترات تعثر كثيرة، قبل أن ينجح المخرج والكاتب مجدي أحمد علي في تحويله لفيلم منذ عامين. ويحمل الفيلم بشكل عام ذلك الاحساس بالفكاهة والأسي الذي يتغلغل أعمال أصلان، ولكن لأسباب تقنية في التنفيذ، منها اختيار الممثلين والمبالغة بعض الشئ في اخراج المشاهد الكوميدية، لم ينجح العمل في نقل روح أصلان ولا الوصول لقطاع كبير من الجمهور.