في فيلم » باب الشمس « المأخوذ عن رواية بنفس الأسم لإلياس خوري تتردد طول الوقت عبارة اسطورية علي لسان يونس الأسدي البطل » من الأول ، بدنا نعيدها من الأول « . العبارة ملهمة ، ومادام الحال هكذا ، هيا بنا إذن نعيدها من الأول . في عام 98 كان كلينتون قد اتخذ قراراً بقصف بغداد. خرجت مظاهرات قادها الناصريون في الجامعة ضد الاعتداء علي العراق. تم وقتها رفع شعار: "يا مبارك فوق فوق، الضربة الجاية في باب اللوق"، و"اللي بيضرب في العراق، بكرة يضرب في الوراق". المظاهرات كانت صغيرة، كما هو متوقع من مظاهرات الناصريين واليساريين في الجامعة. في تلك الأيام تم تحديد ميعاد لمظاهرة كبيرة تخرج من صحن الجامع الأزهر بعد صلاة الجمعة. وصلت متأخراً، بعد أن تم حبس المتظاهرين داخل صحن الجامع وخارجه بأمتار قليلة. وقفت علي صف مسجد الحسين أرقب المتظاهرين الذين يحول بيننا وبينهم جنود الأمن المركزي. كنا مجموعة أفراد نطمح إلي المشاركة ولم يجد أي منا في نفسه الجرأة للبدء منفرداً. اقترب منا شخص وحاول إقناعنا بالعودة لبيوتنا. سأل مستفسراً عن أهدافنا: "أنا عاوز اناقشكو في فكرة القومية العربية". ضحك الكثيرون منا. قال له واحد: "احنا مانعرفش يعني إيه قومية عربية. بس احنا زعلانين ع اللي بيحصل لاخواتنا". ركبت الأوتوبيس عائداً من الدراسة. وقتها تم منع دخول عربات هيئة النقل العام شارع الأزهر (وكانت تدخل في ذلك الزمان البعيد). سائق الأوتوبيس كان غاضباً من منع المرور. هتف بغيظ: "مش هو صدام اللي جابه لنفسه؟ مش هو اللي مشّاهم (يقصد المفتشين) م العراق". ورد أحد الركاب يوافقه الرأي: "مش لما نخلص م اللي عندنا نبقي نتكلم عن التانيين؟!". في عام 2000 كانت انتفاضة الأقصي. خرج الجميع، بمن فيهم أطفال المدارس يهتفون: "يا شارون قول الحق.. أمك وسخة ولا لأ". رأيتهم بعيني في ميدان تريومف، في قلب حي هليوبوليس الهادئ. وقتها راجت الكوفية الفلسطينية جداً، تحولت إلي موضة. في 2003 كانت حرب العراق واحتلالها. بدأت الحرب يوم 21 مارس، وبدأت معها المظاهرات في ميدان التحرير. طلبة الجامعة الأمريكية يحتلون الميدان ويعتصمون. الطلبة يهتفون في الميدان ل"الكعكة الحجرية"، وأحد الشباب ينشد: "أنا أحمد العربي قال، أنا الرصاص البرتقال الذكريات". منذ نشوء حركة كفاية بدأت بوصلة الحركة الوطنية تتجه إلي الداخل. لا أحد يعرف لماذا حدث هذا ولا كيف حدث. كانت الانتخابات الرئاسية علي الأبواب، وفطن الجميع إلي أن 24 عاماً من حكم شخص واحد ينبغي الرد عليها بكلمة "كفاية". صورة مظاهرات كفاية الراسخة في الأذهان اليوم هي خمسمائة شخص يتجمعون أمام مبني نقابة الصحفيين، في طليعتهم جورج إسحق وكمال خليل ومحمد عبد القدوس، يهتفون قليلا ثم يعودون لبيوتهم. ولكن ليست هذه الصورة الكاملة. كفاية كانت تقوم بالحشد أيضاً. رأيت مسيرة عظيمة تمتد من ميدان طلعت حرب إلي ميدان مصطفي كامل ومنها إلي الأزبكية. الشارع كله مليء بالشباب والرجال والنساء. قال لي وقتها حلاق غاضب في "وسط البلد": "يعني ينفع كدا. البنت تبقي راكبة فوق كتاف الواد وعمالة تهتف؟". نتذكر جميعا مظاهرة "كنس السيدة" أمام مسجد السيدة زينب. يومها شاهدت أحد الشباب من خارج المظاهرة ينظر لشاب متظاهر ويقول: "ياللا يا معر.. يا بتاع الجزيرة". بعدها تواصل الحشد لإسقاط النظام المصري، الصحف المستقلة مع حركة كفاية مع بعض الفضائيات. اندلعت انتفاضات صغيرة في أماكن خارج القاهرة، انتفاضة 6 إبريل في المحلة وانتفاضة خالد سعيد في الإسكندرية. وقتها رأينا أنفسنا وحيدين بلا عزاء، في عالم من الأشرار والجهلة، محاطين بمن لا يسمعنا ومواجهين بمن لا يريد لأحد أن يسمعنا، إلي أن حدث الانفجار الكبير: 25 يناير 2011. هذا السرد مقدمة لسؤال: هل حدث بالفعل تحول في أولويات الثوار، من الثورة لأجل تحرير فلسطين والتضامن مع الأمم العربية إلي الثورة لإسقاط الديكتاتوريات المحلية؟ هذه هي نظرية أعداء الثورات، وهم كثر، حتي من بين ذوي النوايا الطيبة، وأخص بالذكر قطاعات عريضة من اليسار اللبناني والأردني والفلسطيني. بدأت النظرية في النمو بعد اندلاع الثورة السورية. وقتها وقف من سبق وأن شجعوا الثورة المصرية في موقف حرج. هل يشجعون سقوط نظام ينتمي لمحور المقاومة ضد إسرائيل؟ النظام السوري قمعي يدعي وطنيته، والنظام المصري قمعي يصرح بعمالته. وبالتالي فدعم الثورة المصرية ليس أمراً صعباً، الصعوبة بدأت من الثورة السورية. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، سرعان ما بدأ بعض الوطنيين من ذوي النوايا الطيبة يشككون في الثورات العربية كلها، بما فيها تلك المصرية، الأكثر شعبية وجذبا للتعاطف، باعتبارها "صناعة أمريكية". صدمة الانتفاض ضد النظام السوري "الوطني" كانت قوية واستلزمت آليات كثيرة من الإنكار وتبرير الصمت. لاحظ هؤلاء تحول الأولوية من محاربة إسرائيل والتضامن مع الدول العربية إلي إسقاط النظام الداخلي، وبدا هذا حجة مناسبة تؤيد وجهة نظرهم. أية ثورة لم تناد علي رأس أولوياتها بإسقاط دولة إسرائيل وليس إسقاط الديكتاتوريات الوطنية - فهي ثورة باطلة في رأيهم. هل هذا صحيح؟ نعم ولا. نعم، لأن البوصلة تغيرت بالفعل، لا أحد ينكر، البوصلة الجديدة استلهمت تقنيات البوصلة القديمة. الاعتصام في ميدان التحرير، خروج المظاهرات من الأزهر، خروج المظاهرات يوم الجمعة، ولكن الأولوية تغيرت، الداخل هو الأهم الآن. ولا، لأنه من قال إن الداخل هو الأهم؟! العكس بالضبط. الشرارة التي اندلعت في مصر كانت نتيجة مباشرة لثورة تونس. ألهبت مشاهد الثورة في تونس خيال المصريين، فقاموا بثورتهم. وألهبت مشاهد التحرير مشاعر الإخوة في البحرين وتونس واليمن وسوريا وحتي السعودية، فقام كل فريق باحتجاجات تختلف في درجاته حدتها. طول الوقت كان الثوار المصريون يشاهدون الثوار العرب في سائر الاقطار فيتماهون معهم. كان الشعور هو أن سقوط ديكتاتور مصر يساوي سقوط دكتاتور البحرين. ببساطة، ظهر نوع من الشعور "العروبي" الجديد عند عموم المصريين الذين لم يعرفوا عن العرب إلا كونهم صنفين: أهل الخليج وأهل سيناء. كل هذا بدون تنظيرات "القومية العربية" بتصوراتها الثقيلة عن الهوية والتي لم تجد سوي في الناصرية، والتطبيق من أعلي، نموذجا لها، والتي لم تحاول البحث عن تطبيقات حديثة وحياتية محتملة لشعور المرء بأنه عربي، يتحدث العربية ويعيش في إطار إقليم كامل يتحدث نفس اللغة. لم يكن صدفة أن يهاجم شباب الثوار السفارة الإسرائيلية. فشباب الثورة كلهم يرفضون إسرائيل كما يرفضون الديكتاتورية، وترفضهم الدكتاتورية وإسرائيل في نفس الوقت. هذا طبيعي، ولا يحتاج لمعادلات مثل: "هل أنت ضد إسرائيل أم ضد العسكر"؟ يمكن للمرء أن يحارب عدوين في نفس الوقت. هذا يحدث فطرياً. بعد أن كنا نهتف "يا مبارك فوق فوق، الضربة الجاية ف باب اللوق"، أصبحنا نهتف "يا مبارك يا جبان، يا عميل الأمريكان". تحول الهتاف هنا دال للغاية. وبالعكس، فمن كانوا بالأمس أعداء التصعيد ضد إسرائيل، من كانوا يستخدمون خطاب "الحكمة"، أصبحوا اليوم من أشد أعداء الثورة المصرية بوصفها مؤامرة إسرائيلية، هم ضد إسرائيل ولكنهم ضد التصعيد مع إسرائيل. هم ضد أمريكا ولكنهم لا يتحركون ضد السلطة المحلية التي تتلقي المعونات من أمريكا، شيء لا يصدقه عقل. جدول النضال المصري لم يتغير جذرياً، فقط تغير ترتيبه قليلاً. من يتغير تماماً هو أنتم، يا أعزائي. تشاهدون دبابة إسرائيلية تهرس بيتاً فلسطينيا فتمصمصون شفاهكم حزناً علي الفلسطينيين، ولكن عندما يدعوكم أحد للنزول إلي الشارع لإعلان التضامن مع الفلسطينيين تبادرون باتهام الضحية: "دول يهود العرب. انا عشت ف الخليج وشفت اتنين فلسطينيين، ولا علي بالهم إسرائيل ولا حاجة، وكل اللي ف دماغهم الفلوس"، أو "مش لما نخلص من اللي عندنا الأول نبقي نتكلم عن التانيين"، وعندما نحاول أن نخلص من اللي عندنا الأول تتهمونا بالعمالة لإسرائيل التي تريد تقسيم مصر. ترون مظاهرة صغيرة فتعتذرون عن المشاركة لأنها لن تغير شيئا، وترون مظاهرة كبيرة فتتهمونها بتعطيل المرور. الشيء الوحيد الذي لم يتغير فيكم هو ميلكم للتبرير الفلسفي لعدم المشاركة. أعزائي، أنتم لستم فلاسفة ولا منظرين، أنتم فقط تخافون الخروج للشارع، ببساطة تامة. الاعتراف بهذا لن يضير أحداً. في النهاية، يتبقي أن أقول شيئاً: كم كان صعباً إكمال هذا المقال بدون ذكر كلمة "كنبة"، ولا مرة واحدة:)