كل ضجيج يؤرق السلطات، كل حفيف ورقة شجر يبدو للسلطة وكأنه موجه ضدها، كل مليمتر خارج الصف يعني للسلطة تمرد. لكن أكثر ما يؤرق كل السلطات في التاريخ عموما وفي بلادنا بشكل خاص هو النساء: هؤلاء الكائنات المتمردة بالطبيعة، المختلفة بالتعريف. كائنات تسعي أبدا لخرق المحظور ولاعادة صياغة كل المسلمات، كائنات غريبة لا تقبل الحد الأدني للحياة فتتصور أنها كائن مساو للرجال! كائنات مؤرقة مزعجة، يغضب من أجلهم المجتمع وبسهولة يمكن كسر الرجال عبر إهانة النساء. في لحظة يوتوبيا تحققت بالفعل منذ 25 يناير وحتي 11 فبراير كان الموضوع الرئيسي الذي لم يتوقف الحديث عنه هو غياب التحرش بالنساء، قبول الجميع للجميع، لا أحكام، لا ضغينة، بل تعمد في اعلان مبدأ القبول الايجابي. في مساء 11 فبرير وكان تليفوني لا يعمل لسبب من الأسباب أصر رجل ملتحي وزوجته المنتقبة أن أستخدم تليفونهما لأهاتف أمي، أصرا اصرارا ودودا حقيقيا، لم يشيحا بوجهيهما ولم يتجهما، كانت لحظة خفة كبيرة. لكن لحظات اليوتوبيا لا تستمر كثيرا، تطير مع الزمن. بدأنا العام بخروج كثيف آمن للشارع، بدأنا باستعادة الملكية كاملة غير منقوصة وأنهينا العام بالسحل والتعري في نفس الشارع. وما بينهما يندي له الجبين. بما أن البداية كانت تملك فأفضت إلي نهاية التعري لابد أن نتساءل عن ما أرق السلطات من النساء، والسلطات هنا تشمل كل الأشكال المؤسسية والحزبية والفردية والمجتمعية. ببساطة شديدة كان خروج النساء فيه إعطاء الرجال مزيد من القوة والدعم، فقد أعطي خروجهن مع اندلاع الثورة مشروعية للحدث، تماما كما كان وقع خروج الأقباط. عندما تنضم كل شرائح المجتمع للثورة فهذا تأكيد لمشروعيتها وعموميتها، ليس حدثا قاصرا علي فئة بعينها. بشكل عام كان ظهور النساء في المجال العام مقلقا دائما للسلطات، فعندما وقعت حوادث التحرش بالنساء في 2005 كان الهدف هو اقناع المجتمع بوجود عناصر مندسة في المظاهرات وبالتالي خطورة التظاهر، بالاضافة إلي الهاء الرجال عن الهدف الرئيسي وارجاع النساء للمنزل كمكانهن الطبيعي. عقل السلطة لا يتغير، ودائما ما ينقصها الخيال والابداع، السلطة أفقها ضيق كخرم الابرة وخيالها منعدم كالصحراء الجرداء. فتكرر الأمر في 2011، في سياق من المفترض أنه ثوري ومن سلطة طالما نادت أنها قامت بحماية الثورة. في يوم 9 مارس علي سبيل المثال قامت الشرطة العسكرية باقتحام ميدان التحرير ووقعت الاعتقالات العشوائية للرجال والنساء. وتحول المتحف المصري إلي سلخانة تعذيب للرجال والنساء. وقد كتبت رشا عزب الصحفية والناشطة شهادتها عما وقع لها ولمن معها في المتحف المصري، ذلك المتحف الذي يضم أكبر مجموعة من الآثار المصرية الفرعونية! اللافت للنظر أن هذا المكان بكل دلالاته الثقافية تحول إلي مكان يهدف لاهانة الثوار ليس فقط عبر الضرب والصعق بالكهرباء بل أيضا عبر الخطاب اللفظي الذي تم استخدامه ولنا أن نتخيل نصيب النساء من ذلك، فالخصوصية النسائية المتعلقة بالجسد تستدعي خطابا بعينه يحول جسدها إلي ساحة إذلال وإهانة. ثم وقعت كارثة كشوف العذرية التي قامت المؤسسة العسكرية باجرائها لسبع فتيات في مركز الهايكستب، وواضح أن الأمر كان يهدف لنفس الشيء: كسر الارادة. ثم توالت المصائب وأصبحن النساء طرفا أساسيا ينال نصيبه من الضرب والاعتقال والشتائم. ناهيك عن الأمهات اللواتي شهدن مقتل أبنائهن أو لا يزلن يبحثن عنهم في أروقة السجون والمحاكم. بتوالي هذه الانتهاكات المنظمة- وليست عشوائية أو فردية كما يتصور البعض ويدعي البعض الآخر- جاء الخطاب اليميني المتطرف ليوصم هؤلاء النساء بكل صفات الدونية، وهو ما لاقي استجابة من جزء كبير من المجتمع الذي وجد فجأة أن النساء عبء لابد من التخلص منهن. فكان لوم الضحية أسهل وأكثر أمانا من لوم الجاني، وظهرت الثقافة السائدة تجاه النساء. فهذه كافرة وتلك سافرة والأخري ملحدة والرابعة مرتزقة وغيرها فاجرة وهكذا من التهم التي تعمد إلي انتهاك الأعراض ثم يحدثونك عن الاستقرار. بعد مرور فترة قصيرة ظهرت فيها هذه الانتهاكات واتضح الموقف الفاشي تجاه النساء كان يتوجب علي المؤسسة الثقافية أن تضع هذا الأمر في أجندة أولوياتها، لكن المواجهة تبدو صعبة، والخطاب شرس ومتغلغل، والأسهل هو طبع الكتب وإقامة ندوات انشائية عن "الثورة" و "عظمة الشعب المصري"، خطاب لا يدل علي شيء سوي مراوغة الواقع والرغبة في عدم مواجهته. حتي أن حريق المجمع العلمي نال نصيبه من ولولة سائق التاكسي في حين أنه لم ير أي غضاضة في تعرية امرأة "لم ترتد شيئا تحت العباءة". ناهيك عن النساء اللواتي استوعبن نفس الخطاب وأعدن انتاجه بشكل سافر. مواجهة الواقع تعني ضرورة الاعتراض، ولا أحد يرغب في "الصدام"، اللحظة غير ملائمة للمؤسسة الثقافية التي تحاول اثبات وجودها الآن بعد أن تغلب السياسي علي الثقافي من ناحية، كما أنها مؤسسة تدار تحت حكم المؤسسة العسكرية التي صدرت عنها الانتهاكات فكيف يمكن الخروج من هذا المأزق. في وسط هذا الحصار الواقع علي النساء من خطاب عسكري يحتقر النساء وآخر يسمي نفسه ديني يكره النساء وثالث مجتمعي لا يرغب في رؤية لنساء، تحاول المؤسسة الثقافية ايجاد حلا للخروج من هذا المأزق الذي ازدادت حدته بسحل وتعرية وتعذيب النساء في منتصف هذا الشهر. التزمت معظم المنابر الثقافية الصمت تجاه ما حدث، إلا أن ما أجج الوضع وأغضب الكثيرين هو ما جاء علي لسان وزير الثقافة الدكتور شاكر عبد الحميد في الحوار الذي أجرته معه صحيفة روزا اليوسف يوم 25 ديسمبر، فقد جاء خطابه ليؤكد الواقعة وينقضها في آن. خطاب يسعي إلي "التوازن" فيلقي باللوم علي كل الأطراف، فوزارة الثقافة في نهاية المطاف تشكلت في لحظة الحكم العسكري، وإدانة العسكر بشكل مطلق يفضي إلي تفكيك مشروعية الوزارة- أي وزارة. لكن اللافت للنظر أيضا في هذا الخطاب أنه لا يعفي الفتاة التي تم سحلها وتعريتها من اللوم وهو بذلك يكرس خطابا انتشر في الآونة الأخيرة كلما وقعت انتهاكات مشابهة. كما أن الحديث عن اسقاط مصر في سياق الحديث عن هذه الواقعة كان مبالغا فيه، فالدول تسقط عندما يتم إهدار كافة القيم وعندما تكون الصور أقوي من الكلمة، وتقوي الدول عندما يثور البشر لكرامتهم ويمارسن النساء حقهن في الاحتجاج، وعندما نواجه أنفسنا بالحقيقة دون أن نحاول تجميل الأمور ودون أن نهون من شأن ما يحدث. فأي تجميل للموقف الراهن يشبه الخطاب الذي أرساه مبارك عبر العقود والذي لا يهتم إلا بصورة مصر (تشويه صورة مصر كان التهمة الرئيسية لكل من يعلن الحقائق)، وهو بالتالي خطاب يهتم بالشكل وليس المضمون. الاشكالية الأخري أن هول ما حدث دفع بصورة الفتاة إلي الصدارة في الصحف، في حين أن هناك الكثيرات اللواتي تعرضن لأسوأ من ذلك بعد اعتقالهن أثناء فض اعتصام مجلس الوزراء، فقد تم اجبارهن علي خلع الملابس والتفوه بألفاظ بذيئة في حق أنفسهن. هذا بالاضافة إلي المصابين الذين يرقدون في المستشفي والقيود في أيديهم ومنهم هند نافع المعيدة بكلية تربية بنها التي أطلق القاضي سراحها بسبب آثار التعذيب الوحشي البادية عليها هي ومن معها.خرجت مع آلاف النساء يوم 20 ديسمبر الماضي في مسيرة بديعة تهتف "بنات مصر خط أحمر" و "ارفعي راسك، رجلك أشرف من اللي داسك"، وقد كانت المسيرة تعبر عن التكاتف والتماسك الذي يظهر في لحظة الأزمة الحقيقية، آلاف النساء الشريفات يحوطهم رجال شرفاء غضبوا لما حدث، نود رجالا ونساء أن نبني البلد فعليا ولا نهدف لاسقاطها ونفعل ذلك عبر مواجهة الواقع وعدم تجميله، لم تكن المسيرة الاحتجاجية إلا أحد آليات مقاومة الظلم ومواجهة الانتهاكات بشكل سلمي تماما، فاستمرار الانتهاك عبر تحويل الجسد الانساني إلي وسيلة إذلال لا يبني إلا مجتمعا مهترئا، سواء كان الجسد لرجل أو إمرأة. إذا كانت المؤسسة الثقافية تقف منذ البداية بصمود في مواجهة تيار ديني يصم كتابات نجيب محفوظ بأنها دعوة للفجور، ويري أن مصطلح "التنوير" لهو من الكبائر، فمن باب أولي أن تطور هذه المؤسسة خطابها تجاه النساء لتجمع حولها مختلف فئات المجتمع. فالخطاب تجاه النساء ليس حكرا علي منابر الأزهر فقط، بل هو خطاب ينبع من أرضية ثقافية في المقام الأول. ولنا في التاريخ القريب العديد من النماذج التي تجعل من وضع النساء الثقافي أولوية. فهن أول من تم التضحية بهن بعد حصول الجزائر علي استقلالها بالرغم من مشاركتهن الفعالة في مقاومة الاستعمار الفرنسي، فقد كان هناك آلاف جميلة بوحريد. وحدث نفس الشيء في المغرب، وهو ما أوضحته الكاتبة المغربية ليلي بوزيد في عملها الرائع "عام الفيل"، أما في ايران فقد قمن النساء بالدور الأساسي في اسقاط الشاه وكلنا نعرف ما حدث بعد ذلك. إذا تم اعتبار الخطاب الذي تتعامل به مختلف التوجهات السياسية والثقافية والمؤسسية مع النساء الآن لا يدخل في عداد الأولويات فقد أوشك المصير أن يكون متشابها، خاصة أن السلطة لا تتواني عن تحويل النساء إلي آلية مقايضة، تتنازل عنهن مقابل الحصول علي مكاسب أخري. ها هي الحقيقة: لقد بدأنا العام كمواطنات مشاركات في الثورة وأنهيناه ونحن "عاريات" علي أيدي "العساكر"، هل من علينا حق الغضب؟ لقد كانت واقعة "تعرية الفتاة" المحك الحقيقي الذي أظهر مواقف الخطابات السلطوية المختلفة التي تؤكد كلها أننا- النساء- أصبحنا ما بين المطرقة والسندان، الكل أراد نفض يديه من الفتاة فكان الرد في المسيرة "ارفعي راسك رجلك أشرف من اللي داسك".