ذذلم أجايل نجيب محفوظ، لذا تبقي شهادتي عنه عبارة عن إعلان تأثير كاتب من جيل سابق علي كاتب من جيل لاحق. التأثير الذي قد يأخذ: _من طبيعة الشهادة- شكل دروس فكرية، وفلسفية وعملية بل وحتي أخلاقية: الدرس الأول، كما يمكن أن أصوغه، هو: "لا تصنع دوامة حول النَص بل أصنع اعصاراً داخله"؛ قال نجيب محفوظ كل ما يريد قوله دون أن يختلق المشاكل حول النَص الأدبي أوالإبداعي الأمر الذي كان يصل أحياناً إلي تبليغ الكاتب عن نفسه حتي يُصادر كتابه، من أجل دعاية خارجية عن إبداعية النص نفسه. لم يتدخل محفوظ كثيراً في "سياسة الأدب" بل انْصَب فقط علي النص، لا خارجه. الدرس الثاني، هو: الرؤية الأنثويّة للعالم والتجربة؛ التي لا تقصي جميع الأنساق والأفكار من أجل نموذج وحيد صالح وصحيح، وتجد في كل تجربة معجزتها الخاصة؛ تفردها، حقيقتها، جمالها الخاص. لم يرفض محفوظ التصوف والكرامات والفلكلور المحلي والثقافة الشعبيّة، كأفكار متخلفة وساذجة من منظور عقلاني، بل توغل فيها حتي وجد في كل منها فلسفة ومنطق وجمال خاص، كتجربة بشرية فريدة تضيف معاني وزوايا مختلفة للتجربة العامة. الدرس الثالث، هو: القدرة علي التجربة. من الظواهر المنتشرة في الكتابة عموماً في واقعنا، هو الخوف من التجريب، خوفاً من ضربة خفيّة من مُعلم أو مدير أو مجتمع أو حتي جيل أدبي، لا يسير المُجرِّب حسب قواعده وقوانينه ورؤاه. جرّب محفوظ ثم جرّب ثم جرّب، لم يترك طريقاً إلا وسلكه وفكرة إلا وطرحها. الدرس الرابع، الذي اتعلمه من نجيب محفوظ، هو: "عليك بالكتابة، وعلي الزمن الباقي"؛ يغرق الكاتب نفسه في سؤال لماذا أكتب؟ ولمن؟ صحيح أن السؤال مهم، وغير قابل للتجنب في أوقات عديدة، لكنه يكون معطلاً لمن يريد فعلاً الكتابة، الكتابة بصفتها شهوة أوليّة. نجيب محفوظ استغرق في الفعل وأخرج منه المعني _ لا العكس. لهذه الدروس/الأسباب، يبقي الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ علي صلة بالحاضر اليوم، لأن تجربته الغنية تضرب بعمق في أساس التجربة الإنسانية بمعناها العام، وتقدم نموذجاً لوعي حاول بناء شيئاً لنفسه، فأخرج أشياءاً ممتعة ومؤثرة للآخرين أيضاً.