منذ مائة عام صرخت امرأة صرخة الولادة. جاء إلي الحياة طفل حمل اسم الطبيب الذي أنقذ الأم من ولادة متعثرة: نجيب محفوظ، ليعيش منذ ذلك التاريخ في قرنين، ويعاصر الوطن في انتصاراته وهزائمه، في توهجه وانطفائه... استطاع طوال سنوات عمره التي قاربت قرنا من الزمان، وبعد رحيله أيضا ، أن يحافظ علي تأثيره وفاعليته، ليصبح رمزا عابرا للسنوات والعصور. عايش محفوظ التقلبات السياسية والمنعطفات الحاسمة، الثورات والأنظمة والحروب، من النكسة الي الاستنزاف وحرب أكتوبر، من ثورة 19، إلي ثورة يوليو 25 إلي كامب ديفيد، ومن نوبل إلي الخنجر الغادر الذي جاءه من الخلف. استطاع أن يصمد في وجه التقلبات والعواصف والتغيرات التي اصابت المجتمع والثقافة، صموده في وجه الحقد الأصولي. تبدلت الموضة وانقلبت المعايير الجمالية، وتغيرت الأسماء، وانسحب كتّاب كبار إلي متحف " التاريخ"، فيما ظل محفوظ في مكانه، يثير الاهتمام والإعجاب والجدل الصاخب. تكبد صاحب " الثلاثية" مشقة السفر في عالم الرواية طوال عقود بعد أن قاوم الشيخوخة تارة والسلطات تارة أخري، وكتاب التقارير وصناع الطغاة، وسكاكين المتطرفين وكل الصعوبات التي كادت تحول بينه وبين الكتابة تارات وتارات. ربما تمتد حياته وتتسع سيرته لحداثة عربية ضلت دروبها. كيف كان الوطن؟ وكيف أصبح؟ لم يكن عمره قد تجاوز الرابعة عشر عندما بدأ الكتابة بقصة طويلة اسماها ( الأعوام ) مقلدا فيها رائعة عميد الأدب العربي طه حسين (الأيام)...وعندما التحق بكلية الآداب اختار الفلسفة لدراستها، وظل مشتتا لفترة بين الأدب والفلسفة حتي حسم أمره نهائيا بالإخلاص للكتابة الأدبية وحدها. باختصار قرر أن يتخذ من الكتابة حرفة رغم ما ستجره عليه من مشكلات تماما مثل راوي رائعته ( أولاد حارتنا)! عبر الكتابة لم يبحث عن شهرة أو مجد أو مال وإنما متعته الشخصية وحدها. ولذا تكفل عبر أكثر من خمسين رواية ومجموعة قصصية بقطع الرحلة التي قطعتها أجيال من الروائيين الغربيين خلال أربعمائة عام. حرق محفوظ مراحل تطور الرواية من التاريخية إلي الواقعية إلي الرمزية، ولم يعد أمام أبنائه وأحفاده إلا الاندماج في مسيرة الرواية العالمية كتفا بكتف. محفوظ رجل الساعة حسب وصف صديقه الكاتب الساخر محمد عفيفي، المنضبط رغم أنه يمارس أقصي أنواع اللعب في كتابته، صاحب الذاكرة المتوهجة، الحادة. حتي يومه الأخير لم تأخذ الأيام من ذاكرته شيئا، بل كان في جلساته اليومية مع أصدقائه مثل شيخ صوفي، عباراته قليلة، مكثفة تلخص حكمة الكون، وتفيض بالدهشة، كما تعكس ضحكته الصافية التي ترتفع ين الحين والآخر استهزاء بذلك العالم التافه! لم تفارقه النكتة حتي في أسوأ الأوقات بل لعله كان واحدا من أشهر ملوك القافية والقفشة التي لا تتميز فقط بالسخرية بل تكشف عن ذكاء حاد وبديهة حاضرة. عندما سأله الحرافيش- كما يحكي جمال الغيطاني- في جلستهم الأسبوعية عن إحساسه لحظة الزلزال الذي أصاب مصر عام 2991 قال: (كنت أجلس في الصالة، شعرت به بقوة، وتطلعت إلي السقف منتظرا سقوطه، وسقوط برلنتي عبد الحميد في حجري)...وبرلنتي واحده من أشهر نجمات السينما في الستينيات تزوجت المشير عبد الحكيم عامر وتسكن الطابق العلوي من نفس العمارة التي يسكنها محفوظ! وعندما زاره المفكر الفرنسي جارودي ذات مرة عام 1997، سأله: ماذا تكتب الآن؟ أجاب محفوظ بتلقائية: أكتب اسمي! كانت زيارة جارودي له عقب محاولة الاغتيال التي تعرض لها عام 1994 بسبب روايته أولاد حارتنا وأصيبت اليد اليمني، نتيجة طعنة مطواة في العنق سددها شاب غشيم لم يكن قد قرأ له حرفا، وكان يتلقي علاجا طبيعيا بانتظام، ويعاود التمرين علي الكتابة مثل طفل، مكررا كتابة اسمه آلاف المرات. كانت الثورة حلمه الدائم. بالتأكيد هو الأكثر فرحا بها. هل تصله تفاصيلها؟ ربما لم يغادر محفوظ عالمنا. أتخيله يستيقظ في الصباح، يدخن سيجارته الأولي مع فنجان القهوة الأول، وفي الموعد المحدد يتجه إلي باب البيت ليفتح لقارئه الأول وكاتم أسراره عم صبري. يجلسان ليقرأ له الجرائد، ويخبره بآخر أخبار الدنيا. وفي المساء يرتدي ملابسه ويخرج ليلتقي الأصدقاء.. ويكون سؤاله الأول لهم: إيه آخر الأخبار؟ كل واحد يخبره بأمر من الأمور: الحقائق والشائعات. هو منصت باهتمام، قد لا يعلق، قد يتذكر شيئا من التاريخ مشابها لما يستمع إليه، حادثة أو حكاية..وبعد أن يلم بكل التفاصيل والبعاد..ينطق بحكمة مكثفة، أو نكتة وترتفع ضحكته الصافية وضحكات المحيطين به. هل تريد أن أخبرك بما جري في حارتنا بعد غيابك؟ لعلك تابعت في عالمك الآخر ما جري ويجري. لقد أيقن الشعب أن " عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة" كما كنت تقول دائما. شاهدنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب. لا لقد شاهدنا العجائب في "حارتنا"، ولكن مشرق النور لم يكتمل بعد، إنها الثورة التي حلمت بها، ودعوت لها، ويحاول الكثيرون حالياً الالتفاف عليها، ومحاصرتها. اسمك حاضر بقوة في الثورة، بعد أن خرجت الثعابين من جحورها، توجه إليك سمومها، يقولون ويقولون ..يستعيدون تلك الاتهامات البالية، بالقطع ستقابل هذه الاتهامات بوداعة واستسلام. ربما تضحك.. وتتمني أن "تمضي الحياة في الحديقة والناي والغناء" كما كنت تحلم في " أولاد حارتنا" .. فهل تحقق الثورة حلمك الذي هو حلمنا جميعا؟ !