»نحن نكتب التاريخ«... هو شعار المرحلة التي نعيشها، شعار يتردد كثيرا كلما يزداد عدد الأرواح المفقودة في مذابح ممنهجة، أرواح لم تجد ما تواجه به القمع والتعالي والفساد والتواطؤ سوي أجسادها الخالصة. منذ عدة سنوات وعندما أصبح موضوع الحزام الناسف الفلسطيني الشغل الشاغل للغرب، توالت الاتهامات والتأويلات التي سعت جاهدة من أجل الصاق سمات بعينها بهؤلاء »الانتحاريين« ولم تظهر كلمة «استشهاد»، فكانت السمات محددة منها اليأس والفقر وما قيل إنه حض الاسلام علي الاستشهاد، وهو في العرف الغربي وكافة أدبياته »انتحار«. وعندما بدأت النساء يضطلعن بدور في ارتداء الحزام الناسف أصرت الأدبيات أنهن نساء فشلن في حياتهن الخاصة أو أن هناك عاراً ما يلاحقهن فقررن ارتداء الحزام الناسف كأحد وسائل الخلاص. في ذروة انتشار هذه التأويلات وتصديرها للعقل الغربي الذي رأي أن العربي لا يقدر الحياة كما يجلها الغربي، كتب تيري ايجلتون- المفكر اليساري- مقالا في صحيفة الجارديان شرح فيه مسألة »الحزام الناسف«. فقال إن الفلسطيني يحول جسده إلي سلاح مقاومة في وجه آلة عسكرية ضخمة، ففي مواجهة هدم منزل لا يتبقي سوي الجسد عاريا، الجسد الذي تستهدفه الآلة العسكرية الصهيونية يقرر تفجير نفسه قبل أن يحقق العسكر أهدافهم ومن هنا تبدأ الهزيمة العسكرية. وعقل العسكر لا يفهم كيف يضحي الفلسطيني بجسده غير آبه بالحياة. يتجول الجسد الأعزل بالتراكم إلي أكبر سلاح تهديد في مواجهة ترسانة عسكرية تقتات علي الموت. كان مقال تيري ايجلتون يحلل الحالة الفلسطينية وإذ بتحولات التاريخ يصبح المقال صالحا لتفسير الوضع في كل مكان في العالم العربي، ما أسماه الغرب أيضا «الربيع العربي»، وما هو بربيع بل بشائر الربيع. في سياق الخريف المليء بالغيوم الذي نمر به الآن ترتكز صدمتنا نحن المصريين علي أرضية تقديسنا للموت. الموت في حياتنا- مثل الجميع- حدث جلل، ولا نقبله بسهولة، ولا يمر مرور الكرام، بالرغم من الايمان الفطري الذي جبلت عليه الروح المصرية. الموت عندنا حكايات، ماذا قال قبل أن يموت وماذا طلب وماذا فعل، الموت عندنا دموع كثيرة وإحساس فقد أبدي وذكريات محفورة. الموت عندنا طقوس: الخميس الأول والثاني والثالث والأربعين، والذكري السنوية. الموت عندنا ارتداء الأسود وفقد الرغبة في مباهج الحياة، الموت المصري يشبه الجداريات الفرعونية، يبقي محفورا بوجعه في القلب ولا ننساه، ونشير طوال العمر للميت باسم المرحوم وكأن ذكر الاسم سيسمح لكل الوجع أن يتدفق مرة أخري. أنتمي لجيل لم يتدرب كثيرا علي مواجهة الموت في الشوارع، تدربنا فقط- وكنا حتي وقت قريب نظن أن هذه هي أسوأ الكوارث- علي مواجهة التعذيب الوحشي الذي تمارسه السلطات الأمنية ضد كافة الفصائل السياسية وضد نشطاء المجتمع المدني وضد المدنيين علي خلفية جرائم عادية وليست سياسية. ثم خبرنا مفهوم البلطجية الذي ظهر في انتخابات 2005 (المفهوم الذي رافقه التحرش الجنسي بالنساء)، واعتقدنا خطأ أن ذلك هو سقف الجرائم التي تمارس ضدنا. لم يخطر ببالنا أننا سنتدرب فجأة علي لقاء الموت وجها لوجه فبدونا كالممثل الذي صعد علي المسرح دون أن يقرأ كلمة واحدة من النص. مرت في حياتنا قصص لم نشهدها أو كنا حينها أطفالا، آخرها حرب73. نتفاخر ونقول شهيد، ونستوعب جيدا المعني، فالشهيد سقط في مواجهة عدو صهيوني، سقط الشهيد من أجل تحرير الأرض. شهادة تدعو للفخر، شهادة بديعة. لكن مع أول شهيد سقط يوم 26 يناير من هذا العام لم نفهم ما يحدث، ومع توالي الشهداء حتي موقعة الجمل في الأسبوع الأول من فبراير كنا كمن يدور حول نفسه بحثا عن سبب مفهوم لزهق الروح، ثم اكتشفنا السبب بكل بساطة: الرأي المخالف يستحق القتل. بهذه البساطة. لم نستول علي أرض أحد ولم نحتل بلداً آخر، فقط اختلفنا في الرأي وعبرنا عنه بوسائل سلميا، فكان القتل عقابنا. يمكن للتاريخ والتاريخ المضاد أن يطلقا علينا ما يرغبان من أوصاف، فالأول سيسمنا بالبطولة والثاني سيشير إلينا بالمتمردين المأجورين. في كل الأحوال لابد أن يحافظا علي فكرة واحدة: أردنا حياة جديدة فأعطونا الموت. يراهن القاتل دائما علي الخوف، الخوف الذي يسحبك للخلف أو يربكك أو يشل حركتك أو يدفعك ببساطة لتغيير رأيك. كان مشهد الموت الأول كافيا ليثير غضبنا ويؤجج مشاعر الذهول الدافع إلي الاستمرار والتقدم، هكذا خسر القاتل الرهان. كان كافيا أن نري شابا يحمله المتظاهرون من قدميه ومن ذراعيه ومخه يتدلي خارج رأسه لنقرر أن نضع حدا لهذا الفجور في القتل بدم بارد. مع كل خطوة تقدم كنا نكسب أرضا ونخسر روحا، وها نحن نتقدم من 28 يناير وحتي 2 ديسمبر، عشرة أشهر وستة أيام خسرنا فيها أرواحا بأشكال متنوعة: رصاص حي، رصاص مطاطي، خرطوش، قنابل مسيلة للدموع، قنابل أعصاب، ضرب مفضي إلي الموت، والأحدث في العالم دهس بالمدرعات. شهدنا ذلك وشهدنا الروح وهي تودعنا وتغادر هذا العالم ... هل كنا نتخيل يوما ما أن نكون شهود عيان وليس مجرد مستمعين لقصص يرويها آخرون؟ في كل مرة كانت لحظة انفصال الروح عن الجسد تقدم نتيجة مضاعفة، موجعة حتي النخاع في وجه وباعثة علي الحياة في وجه آخر. في كل مرة شهدنا فيها وحشية انتزاع الحياة كان القلب ينخلع مع الراحل وتختفي الكلمات ويحل الصمت حتي ينطلق الهتاف مدويا: «يا نجيب حقهم، يا نموت زيهم». في كل مرة شهدنا الموت يبسط سطوته علينا كان جزءا من الخوف ينكسر في الروح، والحال أن كل موت كان يعطينا حياة. كل يوم نمارس الحياة غير منقوصة في مواجهة موت شره... نحن الذين لم نألف الموت بعد ولم نتصالح مع انتشاره في جنبات الشوارع . نحن الذين نقدس الموت ونهيل التراب علي الرؤوس في مواجهته. حتي الموت الذي يعطينا الحياة لديه انحيازاته، حتي الموت طبقي، حتي الموت الذي في أصله يساوي بين الجميع في التراب يختار شكله في الحياة ليتراكم الحزن في نفوسنا دون أمل في إزاحته. يختار الموت كل من يقف في طريقه، لا تصدقوا أن الموت يختار الأجمل من دون الأخرين لان كل من ينا هض القمح ويمتلك شجاعة التقدم خطوة في وجه العسكر هو الأجمل. الموت لا يختار في هذه الحالة. بل يحصد كل الأجمل. كل من خالف هو الأجمل وكل من قال»لا« هو الاجمل. ولكن هؤلاء الأجمل يرحلون ليقرضوننا بعض الحياة. فنختار منهم من نمجده ونهمل كل من لا نعرفه. الآلاف من الفقراء البسطاء الذين لا نعرفهم لكنهم يعرفون مصر، فكان أن أنفق عادل- العامل اليومي- كل ما لديه ليشتري للمعتصمين ما يقتاتون عليه فأصيب بطلق ناري في بطنه. الموت يختار الأجمل ونحن نمجد الأشهر. لم يبخل أحد بحياته حتي هؤلاء الذين لا يمتلكون شيئا. ولازلنا لم نألف الموت ولا نود أن نتآلف معه ونعتقد أن ما يحدث هو إزاحة مؤقتة للحياة وإحلال مؤقت للموت حتي إشعار آخر. يقول السياسي المحنك بصوت ينبع من نافورة الحكمة اليونانية أن كل الثورات تحتاج لدماء، ويقول أن الدماء هي قربان الحرية. نستجدي الفهم من التاريخ فيؤكد لنا أن الدماء تهون في سبيل الحرية، ولا يبقي أمامنا سوي الهتاف «يا نجيب حقهم، يا نموت زيهم». نتسمر أمام أم الشهيد التي تجعلنا نرتبك فلا نعرف إن كنا في مصر أم فلسطين، أم الشهيد تطلق الزغاريد وجثة ابنها تخرج من المشرحة. نحن إذا نواجه قوات الاحتلال، هكذا يخف ارتباكنا، علي الأقل السياق مفهوم. لنتوقف عن التساؤلات التي لا جدوي من ورائها ونعترف أننا شهداء الوطن وأن تقديس الموت لابد أن يدور في هذا الفلك. كل من قدم حياته قربانا للحرية لم يجد سوي جسده العاري ليواجه به أسلحة حملتها أيد مصرية وقنابل صنعتها الولاياتالأمريكيةالمتحدة. أما القربان الأكثر قسوة فكانت أعين هؤلاء الذين التقت عيونهم بعيون الوحش فاقتلعها لهم وحل مكانها البصيرة. ربما كان جمالهم مشهودا وملحوظا فكان لابد من اقتلاع عيونهم. غاب بصرهم فهدونا للطريق: حياة غير منقوصة. ربما قد آن الأوان لنا كمصريين أن نتعامل مع الموت بخفة أكثر، فنتحول إلي كائنات لا تحتمل خفتها. أو ننظر للموت كباب يفضي لمساحة أرحب، أو حتي أن غياب الموت ليس إلا غشاوة وقد حان ميعاد إزاحتها، أو هو ثمن يدفعنا للحفاظ علي ما اكتسبناه، وقد يكون خطوة نحو طريق لابد من السير فيه. الموت في حصاده لكل من يواجهه يشبه الريح الغربية التي تغني بها الشاعر الثوري الرومانسي بيرسي شيلي، تلك الريح التي تحصد كل ما يقابلها وتذويه، آن الأوان أن نتوحد مع الموت الشره لنمارس الحياة غير منقوصة كما ناشد الشاعر تلك الريح: إجعليني قيثارتك، مثلما هي الغابة، ماذا لو كانت أوراقي تتساقط مثل أوراقها! فالصخب الذي تصدره إيقاعاتك الجبّارة سيأخذ من كلينا نغماً خريفياً عميقاً، حلواً علي الرغم من الحزن. كوني أنت، أيتها الروح الشرسة، روحي! كوني انت أنا، أيتها الجامحة! طوفي بأفكاري الميتة حول الكون كالأوراق الذاوية لتُعَجِّلي بميلاد جديد! وبقوة تعويذة هذا القصيد، بعثري، كما من موقدٍ رمادُهُ وشرره مُنطفِآن، كلماتي بين بني البشر! كوني من خلال شفتيّ إلي الأرض التي لم تستيقظ بوقَ النبوءةِ! أيتها الريح، إذا حلّ الشتاء، فهل سيكون الربيع بعيداً؟ لم يحن بعد الربيع العربي، لم يحن أوان تفتح الزهور ولم يحن بعد وقت الاحتفال... لننغمس بكل حواسنا وطاقاتنا في الخريف ونواجه الموت الشره المتخفي في زي عسكري ونحن عزل لا نملك سوي أجسادنا فإذا حل الشتاء لن يكون الربيع بعيدا.