وأنا عائد من الإسكندرية، بعد أن شاركت ليوم في اعتصام الثوار أمام مقر القيادة الشمالية بسيدي جابر، كان الراديو يذيع أغنية »شايلك في قلبي وفاكرك يا مصر« حدث هذا بعد خطاب المشير بساعات. في أوقات الأزمة، الأوقات التي تبدو وكأنها لحظات تحول، يستعين الإعلام الرسمي بالأغاني الوطنية. حدث هذا قبل 11 فبراير بيومين، ويحدث هذا مع موت أي رئيس مصري، مارشات عسكرية وقرآن وأغان وطنية. الأغاني الوطنية - التي تتحدث عن مصر ولا تقول أي شيء - هي ملاذ آمن للإعلام الرسمي في أوقات الأزمة، فمن خلالها يمكن إثبات أن الإعلام الرسمي كان دائماً مع الثوار ومن خلالها يمكن إثبات أن الإعلام الرسمي كان دائما ضد الثوار. الأغاني الوطنية تمثل لحظة الصمت بين خطابين متناقضين. هي اللحظة الخاطفة الكامنة في »مات الملك. عاش الملك« . ولكن ما الذي دفع بكل شيء إلي الانفجار فجأة. الإجابة واحدة دائما: السلطة. قدمت السلطة كل خدماتها إلي الثوار لتجعل اعتصامهم يوم 19 نوفمبر شعبيا لهذا الحد، بمحاولة فض الاعتصام بالقوة واستخدام القنابل وسحل الجثث وإلقائها في مقالب الزبالة. عرف الفوضويون أن السلطة دائما غبية، ولكن هذه المرة فاق الغباء كل الحدود. محاولات إخلاء الميدان بالقوة كانت تأتي بالمزيد من أبناء الطبقات الشعبية، تحركهم مشاعر الانتقام، وعدم استخدام العنف يأتي بالمزيد من الطبقات الوسطي، تحركهم فكرة » المطالب المشروعة« والأمان النسبي للميدان. السلطة في خانة اليك.
بدا الموضوع بوثيقة السلمي، هذه هي البداية الزمنية للقصة، وليست بالضرورة البداية المنطقية. نزلت إلي الميدان يوم الجمعة 18/ 8 كنت غاضباً من بعض الذين دعوا لعدم النزول تحت ذريعة إنها » جمعة قندهار الثانية« . قرأت تعليقا علي الفيسبوك كتبه أحد شباب الإسلاميين يسخر ممن دعوا لعدم النزول بهذه الذريعة. قال التعليق إن بإمكان من يريد جعل هذه الجمعة » جمعة ماركس لو عاوز«، فقط بنزوله، شريطة ألا يجلس في البيت ويولول من » قندهار الثانية«. بهذا المنطق البسيط قررت النزول، وفاجأني الميدان. من رأوا إنها جمعة » قندهار« كانوا مخطئين في رأيي. ومن رأوا أن اليوم خصص فقط للاعتراض علي وثيقة السلمي كانوا مخطئين. شباب الأتراس كانوا موجودين بقوة، وشباب الوفد والتجمع والقوي المدنية الأخري، بالإضافة إلي القوي الإسلاميية. القيادات تغيبوا، البرادعي تغيب، قادة الوفد والتجمع نافقوا النظام بدرجة لا تقل عما فعله قادة الإخوان المسلمين وحضر شباب كثيرون فقط يرفضون حكم العسكر. لا يحتاج المرء لأن يكون إسلاميا أو يسارياً ليرفض حكم العسكر، فمن محاسن القدر أن القبول بالحكومة العسكرية شرط غير وارد لا في القرآن والسنة ولا في » رأس المال « لكارل ماركس . بدأ الموضوع بقضية وثيقة السلمي، ولكنه انتهي بقضية مصر بأكملها، قضايا التعليم والأجور والصحة والمجاري والمياه والكرامة، كشوف العذرية والمحاكمات العسكرية ودهس البشر بالمدرعات وإلقاء الجثث في الزبالة. الشارع لم يكن مغيبا. كانوا يظنونه مغيبا، ولكنه لم يكن.
في اليوم التالي تواترت الأنباء عن اعتصام مجموعة من الشباب ومحاولات فض الاعتصام بالقوة. نزلت من البيت، وسط البلد هادئ.. لفت نظري جرافيتي مرسوم مكتوب عليه: » نَفَسك خروج ودخول.. عنه انت مش مسئول.. اوعاك ياخدك غرورك.. تهندس المجهول «. ابتسمت. من الحكمة غير المقصودة »ربما « للجرافيتي. المجهول لا يٌهندَس. المجهول يُعاش فقط. المجهول خبرة وليس نظرية. هذا ما تفعله الثورة. إنها تمارس هذه الخبرة. ومحاولات هندسة الثورة دائماً ما تبوء بالفشل. علي الأقل، محاولات حبسها في إطار » نظام مضي ليأتي مكانه نظام آخر« . هذا منطق الانقلابات العسكرية. يفترض في الثورة أن تغير العلاقة بين الحاكم والمحكوم، لا أن تكتفي بتغيير الحاكم. ميدان التحرير كان ملآناً. ولكن الغالبية كانوا يقفون في الصينية المعروفة بين المثقفين ب »الكعكة الحجرية« لالتقاط الصور. هذا عمل لا يمكن إنكار أهميته، ولكن عندما يتم ضرب النار وقنابل الغاز وتصفية الأعين وعندما يتساقط الثوار واحدا تلو الآخر، فإن الكثيرين لا يحتلمون مشهد من يقف بكاميرا ويلتقط الصور، يعتبرونها ترفاً، علي رغم أهمية ذ النظرية والفعلية - التوثيق. الأعصاب مشحونة الآن.
» ديجافو الثورة»، هكذا علق صديق وهو يصف ما يشاهده يوم 19 نوفمبر. كان المشهد مشابها تماما لأيام الثورة، وبالتحديد أيامها الثلاثة العنيفة، 25 و28 يناير بالإضافة إلي موقعة الجمل. قنابل الغاز المسيل للدموع، وتكسير حجارة الرصيف لإلقائها علي الجنود لصد هجوم القنابل، الدق بالحجارة علي أسوار الميدان الحديدية لتحميس المتظاهرين، الصلاة في قلب الميدان وتحت خطر الهجوم المحتمل في أي لحظة. الهجوم لم يتأخر، جحافل الأمن المركزي اقتحمت التحرير، تسبقها القنابل المسيلة للدموع، وبدأ الثوار يتراجعون إلي عبد المنعم رياض. من هناك عاودوا تنظيم صفوفهم، مسلحين بالحجارة فقط أمام جنود مسلحين بالخراطيش المطاطية والحية وقنابل الغاز. في هذه الأثناء كان المدون مالك مصطفي يفقد عينه اليسري من جراء إطلاق خرطوش عليها، وكان النشط أحمد حرارة يفقد عينه الثانية بعد الأولي التي فقدها في ثورة 25 يناير وكان الشباب يتساقطون من حولي من جراء اختناقات الغاز. لفت نظري أثناء الضرب بائع يبيع غزل البنات. كان مع الثوار ويرفع عمودي غزل البنات بإصرار غريب. بعدها بيومين، عندما يزدعم الميدان تماما بكل أنواع المتظاهرين، سأجد بائع فريسكا يخبرني أنه ينتهي من البيع ثم يخوض مع الثوار في شارع محمد محمود. أسأله: » طب وانت ايه اللي جابك أساسا»، يتجاهل سؤالي. يبدو مشغولا بالعراك مع زبون آخر حول ثمن الفريسكا ثم يلتفت لي زاعقاً: »إيه اللي جابني؟؟ اللي جابني بلدي.« سأجد رجلاً كهلاً قال لي أنه بكي ساعة الضرب: » انا من كام شهر كان اللي يقولي اقرب م الجيش انهش ف لحمه. الجيش بالنسبالي دا حاجة مقدسة. دلوقتي الاقي عساكر الجيش بيطلعوا يجروا ورايا ويضربوني. يعني الاقي اخويا ولا ابن عمي بيضرب فيا«. الرجل كان يحمل لافتة مكتوب عليها: » الثورة أولا. حزب واحد. ائتلاف واحد. كلمة واحدة. مسلم، مسيحي، إخواني، سلفي، علماني، ليبرالي. مصر حرة مستقلة« . كنت قد سمعت عن الطائرات التي تلقي بقنابل مسيلة للدموع في الإسكندرية، أمام مقر مديرية الأمن بسموحة. هكذا قررت السفر هناك. شاركت في الاعتصام أمام مقر القيادة الشمالية بسيدي جابر. شباب وفتيات في الجامعة. الهتاف لمصر وضد حكم العسكر،كالعادة. وأمواج من البشر قادمون من شارع بورسعيد. البشر لا ينتهون. طوفانات تسير في الشارع. الجميع يهتفون نفس الهتاف: » يسقط يسقط حكم العسكر« . يوزع علينا شاب بياناً يحمل اسم »ا لحركة الإسلامية لتطبيق الشريعة« . أرتعب من الاسم. ثم أقرأ البيان فيدهشني. البيان يتحدث عن المجلس الذي أذل »المسلمين«، تبدو لي الكلمة سخيفة، فالمجلس أهان الجميع، ولكن سائر فقرات البيان تتوافق تماما مع مطالب أي مواطن مصري. السلفيون هم أيضا مصريون يفكرون في مستقبل مصر وتعليم أفضل وأجور أفضل وضد نظام لم يختره أحد بشكل جاد. السلفيون يفكرون في أنفسهم ك »مسلمين« بالأساس، وأنا أفكر فيهم كمواطنين في الأساس. لكل إنسان الحق في أن يختار هويته ويحددها، ولكن رغما عنه، هذا رأيي، ستظل حياته الكريمة هي شغله الشاغل أكثر من »أخته كاميليا«. في الخمسينيات قاد البكباشي عبد الناصر انقلابا عسكرياً أطلق عليه اسم» االثورة«، وفي السبعينيات أجري السادات تغييرات أطلق عليها » ثورة التصحيح«. في يناير 2011 قاد الشعب ثورة، وفي نوفمبر 2011 قاد ثورة لتصحيح مسار الثورة بعد أن تمت سرقتها. هذا هو الفارق. التاريخ يُصنع من أسفل الآن. التاريخ لم يعد تاريخ القادة وإنما تاريخ الأفراد.