»يا ريت الفلوس اللي إتصرفت علي البهرجة دي كانت ساهمت في تحسين مرفق السكة الحديد و إجور العمال«. بهذه الكلمات البسيطة عبر العاملين في محطة مصر عن رأيهم في التطوير العبثي الذي نال مؤخرا من المبني العريق. لم ينبهروا بالديكورات الفالصو المصنوعة من البلاستيك و لم تنطلي عليهم إكذوبة التمسح بالثورة من خلال إستغلال أسامي الشهداء في نصب تذكاري لا يرقي بأية حال للحدث بل يشبه لعب الأطفال. فالمرفق في تدهور مستمر منذ أكثر من عشرين عاما، العربات متهالكة و لونها كالح، و القضبان إنتهي عمرها الإفتراضي، و القطارات تتحرك بصعوبة، و تتوقف عدة مرات خلال الرحلة بين القاهرة و الأسكندرية و تقضي من ثلاث الي ست ساعات في رحلة من المفترض ألا تستغرق أكثر من ساعتي، ناهيك عن الحوادث التي تكررت خلال الخمسة أعوام الماضية و راح ضحيتها الآلاف. و بدلا من إنقاذ أول خطوط السكة حديد في أفريقيا و العالم العربي من الضياع و إعادة تأهيلها وظيفيا و فنيا، و زيادة عدد الخطوط من أجل حماية البيئة من التلوث و ترشيد إستخدام الطاقة و المساهمة في الحد من الإحتباس الحراري، و توفير وسيلة مواصلات مريحة و سريعة بين المدن تسهل الإنتقال و تعزز التواصل و تحد من حوادث الطرق، يتم صرف الملايين، 160 مليون جنيه ، تكلفة المرحلة الأولي من الأعمال، من أجل تشويه، أطلق عليه زورا و بهتانا تطوير، مبني تاريخي من أهم و أوائل المنشآت العامة للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، ليستمر مسلسل إهدار الموارد و تدمير التراث. وإذا كان من الضروري إعادة تأهيل المحطة، في إطار خطة شاملة من تطوير المرفق برمته، كان من الواجب طرح مشروع التجديد في مسابقة عالمية علي غرار مسابقة الميدان الذي تطل عليه و إختيار أفضل الحلول من قبل لجنة تحكيم محايدة. لكن ما حدث، يفوق الخيال، فقد إسندت مهمة التطوير بالأمر المباشر لمكتب هندسي تابع لكلية الهندسة جامعة الإسكندرية، ليست عنده أية سابقة خبرة في أعمال الترميم و الحفاظ علي المباني التاريخية و إعادة تأهيلها طبقا لتصريحات الدكتورة سهير حواس نائبة رئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري. فتعامل مع هذا الصرح الهائل الذي شيد عام 1857 طبقا للمواصفات العالمية في تصميم محطات القطارات في تلك الحقبة مستعملا الجمالون الحديد في تغطية الفراغ الداخلي، و مستلهما في الواجهات و العناصر المعمارية الداخلية مفردات العمارة المحلية ، علي أنه مول تجاري في شارع رئيسي في إحدي المناطق العشوائية التي تحيط بالعاصمة. فجائت النتيجة متسقة مع مؤهلات و كفاءة المكتب الإستشاري، ليتحول مبني يحمل العديد من القيم التاريخية، و المعمارية، و الإنشاءية و الرمزية إلي مسخ مشوه يفتقر الي الذوق العام، و ينم عن عدم دراية بالمباديء الأساسية في التجديد و الإحياء و تطورها، وبشروط التعامل مع المباني التاريخية التي نصت عليها المواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر و بجهل للتجارب العالمية في هذا المجال وجهل أيضا بتاريخ السكة الحديد و تطوره و الخصائص المعمارية لمنشآتها. فمحطات السكة الحديد غدت، بوابة الدخول للمدينة في عصر الثورة الصناعية، فحلت محل لبوابات مدن العصور الوسطي، لذا فقد أخذت أهمية قصوي من حيث موقعها وتصميمها، و أصبحت معلم هام من معالم المدينة، و علامة مميزة تمثل بؤرة بصرية قوية،مثلها مثل الكنائس والكاتدرائيات في أوروبا، و مفترق للطرق البرية التي تصب فيها، و مكان للقاء و الفراق، لذا إكتسبت محطات السكة الحديد أهمية تاريخية و سوسيولوجية و فنية تخطت بشكل كبير وظيفتها التقنية و تعبيرها بشكل خاص عن التطور الصناعي و التحضر الذي صاحبه في القرن التاسع عشر. و قد نشأت في بريطانيا عام 1920 و تلتها فرنسا ثم الدول الصناعية الأخري و من ثم المستعمرات. و لمصر وضع خاص بين تلك المستعمرات حيث نشأت فيها السكة الحديد ثلاثة عقود قبل الإحتلال البريطاني. فيرجع إنشائه إلي عصر عباس الأول (1847 1854 )، عندما أبرم إتفاقية مع الإنجليز عام 1851 لبناء خط سكة حديد بين الإسكندرية و القاهرة يمتد الي السويس لتسهيل مرور البضائع التجارية الي الهند،و ربط البحر الأبيض بالمتوسط بطريق بري قبل حفر قناة السويس و قد تم الإنتهاء من الخط الأول عام 1854 قبل موت الخديوي عباس و الثاني عام 1858، و بالتالي فإن محطة مصر في الإسكندرية سابقة بعامين عن محطة السكة الحديدالأولي، التي شيدت عام 1857 بجانب باب الحديد، وهو باب من أبواب قاهرة العصور الوسطي، مما رسخ المعتقد المصري في تلك الفترة، إن مسمي باب الحديد ينسب الي سكة الحديد و ليس الي المسمي القديم. و مثلما ساهمت السكة الحديد في العالم في نشأة المدن علي طور مسارها وكانت ركيزة للتحضر، فقد ساهمت محطة مصر في التطور العمراني للمنطقة المحيطة بها كما مثلت رأس من رؤوس مثلث منطقة الإسماعيلية،الذي ضم ميداني الإسماعيلية، التحرير، وعابدين، و التي قام الخديو إسماعيل بتعميره بعد ذللك وأصبحت وسط البلد الحالي.
و بجانب الإهتمام بمعمار المحطة، فقد تم الإهتمام بتجميل محيطهاالخارجي، فوضع أمامها تمثال نهضة مصر للمثال محمود مختار الذي إزيح الستار عنه في حفلة كبيرة إقيمت في الميدان في 20 مايو عام 1928 . ثم تم نقله بعد ذلك الي مكانه الحالي في شارع الجامعة عام 1954 ليحل محله تمثال لا يقل روعة عنه ،فالإثنان يعبران عن عبقرية فن النحت المصري في حقبتين مختلفتين، ، و منذ هذا التاريخ، وقف رمسيس الثاني،شامخا أمام المحطة التي إزدان ميدانها بنافورة جميلة تلطف مياهها الجو .، فأصبحت المحطة تعرف بالتمثال و يعرف بها. و قد خلد الراحل يوسف شاهين المحطة بفيلم باب الحديد الذي أخرجه عام 1957، و تمت أحداثه بالكامل فيها و خارجها، و كلنا يتذكر هذا المشهد الذي حفر في الذاكرة الجمعية لجيل الخمسينيات و الستينيات لهنومة و قناوي جالسان علي طرف النافورة أمام تمثال رمسيس يتجاذبان أطراف الحديث. ،و بدءا من السبعينيات، بدأ مسلل تخريب محيط المحطة و طمس معالم المكان، ، علي إثر بناء كوبري 6 إكتوبر، و الكوبري الحديدي للمشاة، و إزالة النافورة، ليحاصر التمثال من جميع الجهات، و ينتهي بنقله من مكانه عام 2006، واضعا كلمة النهاية لحقبة من الزمن الجميل في هذا الموضع.
و قد ظلت المحطة محتفظة ببقايا من الرونق و شيء من الكفاءة في الأداء حتي منتصف التسعينيات.و للمرء أن يتسائل في ظل التدهور اللذي أصاب كل مناحي الحياة في مصر، والتي عبر عنها العمران و العمارة، كمرآة للمجتمع ، كيف قاوم هذا الصرح طوال أربعين عاما معاول الهدم و التشويه التي طالت العديد من الآثار التاريخية المسجلة؟ كيف ظل في معزل عن شهية المستثمرون الجدد اللذين إستباحوا الغالي و النفيس من تراث مصر المعماري تحت ستار التطوير والتجميل ؟ و كنا قد إستبشرنا خيرا بإنشاء جهاز التنسيق الحضاري في بداية الألفية الثالثة، في ظل تنامي الوعي المجتمعي و الرسمي بأهمية الحفاظ علي التراث.
و أثلج قلوبنا وقوف رئيسه بحزم و صلابة ضد بناء جراج متعدد الطوابق في حرم المحطة و حصوله علي قرار من رئيس الوزراء بإزالته عام 2008. تلي ذلك طرح مسابقة عالمية لإعادة تخطيط الميدان ، فاز بها مكتب إستشاري مصري بالتعاون مع مكتب فرنسي ، وإستحق الجائزة الأولي عن جدارة نتيجة لفهمه للأهمية التاريخية للمنشأ الذي تعامل مع فراغه الخارجي بحس فني وحضاري رفيع المستوي. و ككل المشاريع الذكية، لم ينفذ هذا المشروع للأسف، لإنه يناقض ثقافة القبح التي تهيمن علي العقول..و في الوقت الذي تم فيه القاء هذا المشروع الفائزا في سلة المهملات، كان يتم التخطيط للإنقضاض علي المحطة، بل إن المؤامرة كانت قد بدأت قبل طرح المسابقة بعامين ، مما يثير العديد من علامات الإستفهام. فطبقا لتصريحات نائبة الجهاز، التي نشرت في بوابة الأهرام بتاريخ 3 نوفمبر 2011، فإن مشروع التطوير بدأ عام 2007 و كان يتضمن فتح محلات علي واجهة المحطة، كان سوف يؤدي الي تدميرها ، وتغيير ملامح المبني ، تم وقف هذا الشق من المشروع بعد أن كان المكتب الإستشاري قد بدأ بالفعل في فك زخارف واجهات المبني و عمل كرانيش لا علاقة لها بطابعه الأصلي. و مع ذلك، إستمر العمل في الداخل طبقا لرسومات إعترض عليها الجهاز بدون حسم للموقف. أي أنه منذ عام 2007 و حتي نهاية 2011، لمدة أربع سنوات كان العمل يجري علي قدم و ساق فييما أطلق عليه تطوير محطة مصر، بدون أي تدخل أو إعتراض، من أية جهة، لا من المعماريين، و لا من لجنة العمارة في المجلس الأعلي للثقافة، و لا من قبل الجهاز المختص بالحصر و التصنيف والحفاظ علي التراث.... و لنا أن نتسائل لماذا لم يصمم الجهاز علي وقف آلأعمال بالداخل بعد بروفة تشويه الواجهة ؟ و لماذا لم يعترض طوال هذه الفترة ؟ لماذا صمت في مواجهة هذه الكارثة الجديدة من العبث بتراثناو قد كانت أركان الجريمة مكتملة منذ البداية؟ وعلي الرغم من عدم وجود إجابات شافية علي تلك التساؤلات فنحن نتضامن مع جهاز التنسيق الحضار يلوقف أعمال التطوير في محطة مصر. بل نذهب الي أبعد من ذلك، ونطالب بفتح تحقيق مع كل الجهات التي ساهمت في طمس معالم المحطة القديمة و تحويلها الي مسخ لا طابع له سوي القبح والفقر، فقر الرؤيا و فقر الفكر و فقر المواد المستعملة و رداءة الإنشاء. لن نقبل بعد اليوم أن يتم طمس خصائص أي منشأ يعتبر جزء من ذاكرتنا الجمعية، و جزء من هويتناالثقافية، في مقابل إرساء هوية ممسوخة، لا تعبر علي الإطلاق عن طموحاتنا التي تبلورت قبل ثورة يناير في الحفاظ علي تراثنا المتفرد بروافده المتعددة. لقد إنتفضنا في 25 يناير من أجل العيش و الكرامة و الحرية و المواطنة، و الوعي بالتراث يرتبط بتاريخ مشترك شواهده مادية و بالتالي فالإرتباط بها والحفاظ عليها هو بمثابة اللحمة التي تعزز الإنتماء و مفهوم المواطنة. ولن نسمح لمن يستبدل صلابة الحديد بهشاشة البلاستيك بالمرور.