يواصل شريف عبد المجيد في مجموعته الأخيرة "فرق توقيت" اللعب علي وتر الأحلام البسيطة والتي، رغم بساطتها هذه، يتم إجهاضها في مجتمعات تفقد الإنسان إنسانيته، إذ تتجاوز القصة لديه مجرد الحفر في نفسيات شخوص وأحلامهم إلي الحفر في البني الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تفتك بالبشر. ورغم إن فرق توقيت هو عنوان إحدي القصص داخل المجموعة فإنه يؤطرها جميعا؛ حيث نجد أنفسنا أمام فروق توقيت شاسع بين الذات وتحققها، بين الإنسان ومجتمعه، بين الأحلام والمصائر؛ حيث قسوة المجتمع التي تدهس كل ما يقابلها. النصوص داخل المجموعة تفضح مدي التفكك والتناقضات التي يحفل بها عصر العولمة -التي توهم بأنها تجعل العالم قرية صغيرة، وتدفع الجميع إلي التواصل وإلغاء المسافات- حيث التواصل الوهمي والذوات متوحدة مع نفسها. تبدأ المجموعة بقصة "chat 1" والتي تدور علي شبكة الإنترنت بين شريف وميتشل الأمريكية، ورغم اختلاف السياقات بين الشرق والغرب فإننا نجد أن مشكلاتهما واحدة تقريبا، فميتشيل أمريكية من أصول صينية ويعاملها الأمريكيون كآسيوية ملونة رغم إنها ولدت في أمريكا ولم تذهب إلي الصين قط، والغريب أنها عندما ذهبت إلي الصين تعامل معها الصينيون كجاسوسة أمريكية، فهي منبوذة من الجانبين بلا ذنب ارتكبته. الأمر نفسه تكرر مع شريف ذي الأصول النوبية، فرغم إن حياته كلها في القاهرة ولا يعرف عن النوبة شيئا، فإن القاهريين يتعاملون معه كنوبي، فالاثنان مغتربان عن مجتمعاتهما، منبوذان، لا أحد يتواصل معهما كذوات مستقلة بعيدا عن التصنيفات المسبقة. فالقصة عبارة عن (حوار) علي المستوي التقني ولكنها تفضح انعدام الحوار علي المستوي الثقافي، فكلاهما منبوذ من مجتمعه، لا يجد من يتحاور معه، وربما وجد في الآخر المنبوذ مثله ملجأ له، يستطيع أن يتفهم مشكلاته ووضعيته. هذه القصة chat ليست قصة واحدة، ولكنها تتواجد أكثر من مرة داخل المجموعة، فنجد chat1 و chat2 و chat3 و off line message ، وجميعها يتواجد علي فترات متباعدة حتي نهاية المجموعة، وكأن هذا الحوار الافتراضي يحتضن بقية القصص وشخوصها المجهضة أحلامهم، كتعويض عن عدم التحقق والحوار مع شخوص حقيقية وقريبة منهم، ولكن حتي هذا الخيط الوهمي من التواصل الافتراضي لا يتم حتي النهاية، حيث ينتهي بإرسال رسائل من ميتشل لشريف وبالعكس، ولكن عندما يكون الخط مغلقا من الطرف الآخر، فيفقد جدواه وحيويته. بعد قصة chat1 تأتي أربع قصص تتمحور كلها حول تيمة الأحلام المجهضة، فالشخوص رغم تفاوت أعمارهم دهستهم قوي الإنتاج الشرسة التي لا ترحم؛ ففي قصة "كامل العدد" يوجد عم سالم الذي يعمل مراقبا علي بيع تذاكر السينما لصالح إحدي شركات الإنتاج، ولكن الشركة تستغني عن خدماته، بعد أن قامت بتحديث آلياتها والقيام بالتفتيش إلكترونيا، فيأخذ الرجل مكافأة نهاية الخدمة ويدور متسكعا في شوارع وسط البلد التي يحفظها عن ظهر قلب، ويصل يجتر ذكرياته عن السينما في الستينيات وأبطالها، وقصة حبه التي لم تكتمل، حتي يموت وحيدا لا يسأل عنه أحد سوي بعض المهمشين أمثاله. أما قصة "go to hell" فبطلها يعمل في الإعداد التليفزيوني "تلك المهنة التي تشبه عمل السكرتير أو المشهلاتي" ويقوم السارد، الذي يروي بضمير المخاطب، بالربط بين حياة البطل وعمله في مهنة لا يحبها وبين أبطال فيلم "اللعب مع الشياطين" -هالة فؤاد وعبد الله محمود ومحسن محيي الدين- ومصائرهم المختلفة في الواقع بعد تمثيلهم هذا الفيلم "هؤلاء الأبطال إنهم يشبهون أبناء جيلك، لم يصلوا قط لأدوار البطولة، وأنت بالذات شارفت علي الأربعين ولم تحقق أي شيء من أحلامك الخاصة" كما يربط بينهما وبين سقوط سور برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي وخطب جورباتشوف، فانهيار الأحلام الشخصية دوما يرتبط بانهيارات سياسية ولا ينفصل عنها، كما أن الانهيار الواقعي لا يمكن تعويضه عبر المتخيل، فلا يمكن للمتخيل أن يعيد خلق واقع أجمل مهما حاول ذلك. الأمر نفسه يتكرر في قصة "made in Egypt" حيث البطل الذي يستريح بين العمل صباحا ومساء فتقتحم حياته فتاة صينية تبيع ملابس نسائية، ويتمني أن يقضي معها وقتا حميميا ولكنها سرعان ما تختفي كالسراب. قصة "فرق توقيت" عبارة عن حوار بين ابنة وأبيها المصاب بالزهايمر بعد خروجه علي المعاش، والذي يفقد إحساسه بالزمن وبالحياة من حوله، فيعيش في زمنه الخاص وإيقاعه الخاص. معظم أبطال المجموعة تنتهي حيواتهم نهايات مفجعة، من الموت المادي في "كامل العدد" إلي الموت الرمزي في " to hell" goو"فرق توقيت" ومن الانتحار في " hand made" إلي الجنون في "السلمة الناقصة" إلي التورط في قتل أسرته نتيجة الضغط الاقتصادي في "محرم" وكأن هذه هي النهايات الحتمية لأبطال يعيشون في الزمن الخطأ، زمن ليس زمنهم، رغم إن أحلاهم ضئيلة وهشة، لكن هذه الأحلام ذاتها تصبح هي سبب فجيعتهم في مجتمعات تسحق الحالمين، بغض النظر عن حواراتهم العبثية التي تشبه حوارات الذين ينتظرون موتهم، والتي يحاولون عبرها أن يحافظوا علي وجودهم، إثبات أن لهم صوت ما زال يخرج. تتنوع طرائق السرد داخل المجموعة بين الحكي بضمير المتكلم والغائب والمخاطب، بين تقنية الحوار المحض والسرد المحض، بين الوصف والتداعي الحر، وأحيانا ما تتداخل هذه التقنيات داخل القصة الواحدة، كما نجد ألعابا تقنية مثل الصراع بين الراوي والمؤلف في إعادة صياغة الأحداث في قصة "جزمة الباشا". تعمد المجموعة -كعادة أعمال شريف السابقة- إلي معاينة مجتمع العولمة بأدواتها الحديثة من وسائل اتصال وغيره، وتتسرب هذه الأدوات باعتبارها لغة هذا العصر إلي جسد النصوص بوصفها جزءا من تركيبته البنائية، واتساقا مع هذا تتسرب اللغة الإنجليزية إلي لغة السرد، وكأن الحدود قد سقطت بين اللغات، تماما كما سقط سور برلين، وكما سقطت الحدود بين الدول بفعل وسائل الاتصال. تعمد النصوص إلي استخدام نسق لغوي خال من الزركشة اللغوية من مجاز وغيره، لغة متقشفة، باردة، حيادية أو هكذا تدعي، لغة براجماتية تتسق مع العوالم التي تقدمها في النصوص، وكأن السرد يستعير لغة النظام العالمي الجديد ليفضحه من خلالها ويقوم بتفكيكه وتعريته.