14 صورة ترصد اللحظات الأولى لحريق مصر الجديدة    "التعليم": تنفيذ برامج تنمية مهارات القراءة والكتابة خلال الفترة الصيفية    إنتهاء أزمة البحارة العالقين المصريين قبالة الشارقة..الإمارات ترفض الحل لشهور: أين هيبة السيسى ؟    نشرة التوك شو| "التضامن" تطلق ..مشروع تمكين ب 10 مليارات جنيه وملاك الإيجار القديم: سنحصل على حقوقن    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الأحد 11 مايو 2025    انتهاء هدنة عيد النصر التي أعلنها الرئيس الروسي في أوكرانيا    إعلان اتفاق "وقف إطلاق النار" بين الهند وباكستان بوساطة أمريكية    بسبب عزف الموسيقى والأغاني.. طالبان تعتقل 14 شخصاً في أفغانستان    في غياب عبد المنعم، نيس يسقط أمام ستاد رين بثنائية بالدوري الفرنسي    سامي قمصان: احتويت المشاكل في الأهلي.. وهذا اللاعب قصر بحق نفسه    انطلاق النسخة الثانية من دوري الشركات بمشاركة 24 فريقًا باستاد القاهرة الدولي    الأرصاد تكشف موعد انخفاض الموجة الحارة    إخلاء عقار من 5 طوابق فى طوخ بعد ظهور شروخ وتصدعات    إصابة شاب صدمه قطار فى أبو تشت بقنا    وزير التعليم: إجراءات مشددة لامتحانات الثانوية العامة.. وتعميم الوجبات المدرسية الساخنة    بضمان محل الإقامة، إخلاء سبيل بسطويسي عامل سيرك طنطا بعد زعمه التعرض لحادث سرقة    ورثة محمود عبد العزيز يصدرون بيانًا تفصيليًا بشأن النزاع القانوني مع بوسي شلبي    بعد الفيديو المثير للجدل، أحمد فهمي يوضح حقيقة عودته لطليقته هنا الزاهد    رئيس محكمة الأسرة الأسبق: بوسي شلبي تزوجت محمود عبد العزيز زواجا شرعيا    وزير الصحة: 215 مليار جنيه لتطوير 1255 مشروعًا بالقطاع الصحي في 8 سنوات    إجراء 12 عملية جراحة وجه وفكين والقضاء على قوائم الانتظار بمستشفيي قويسنا وبركة السبع    محافظة سوهاج تكشف حقيقة تعيين سائق نائباً لرئيس مركز    مصابون فلسطينيون في قصف للاحتلال استهدف منزلا شمال غزة    «التعاون الخليجي» يرحب باتفاق وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان    قفزة بسعر الفراخ الساسو وكرتونة البيض الأبيض والأحمر بالأسواق اليوم الأحد 11 مايو 2025    5 مصابين في انقلاب ميكروباص بالمنيا بسبب السرعة الزائدة    عددها انخفض من 3 ملايين إلى مليون واحد.. نقيب الفلاحين يكشف سر اختفاء 2 مليون حمار في مصر (فيديو)    رياضة ½ الليل| هزيمتان للفراعنة.. الزمالك يلجأ لأمريكا.. كلمات بيسيرو المؤثرة.. وشريف ومصطفى احتياطي    دلفي يواجه القزازين.. والأوليمبي يصطدم ب تلا في ترقي المحترفين    رسميًا.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي وطريقة استخراجها مستعجل من المنزل    حكام مباريات الأحد في الجولة السادسة من المرحلة النهائية للدوري المصري    أمانة العضوية المركزية ب"مستقبل وطن" تعقد اجتماعا تنظيميا مع أمنائها في المحافظات وتكرم 8 حققت المستهدف التنظيمي    في أهمية صناعة الناخب ومحاولة إنتاجه من أجل استقرار واستمرار الوطن    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأحد 11 مايو 2025    وزير الإسكان يتفقد سير العمل بمشروعات التطوير بمارينا وكومبوند مزارين بالعلمين الجديدة    سورلوث يُبدع وأتلتيكو مدريد يكتسح ريال سوسيداد برباعية نظيفة في الليجا    نشوب حريق هائل في مطعم شهير بمنطقة مصر الجديدة    خالد الغندور: مباراة مودرن سبورت تحسم مصير تامر مصطفى مع الإسماعيلي    بعد أيام من رحيله.. سامي قمصان يتحدث عن صفقة انتقال زيزو إلى الأهلي    تفوق كاسح ل ليفربول على أرسنال قبل قمة اليوم.. أرقام مذهلة    ضع راحتك في المقدمة وابتعد عن العشوائية.. حظ برج الجدي اليوم 11 مايو    حان وقت التخلص من بعض العلاقات.. حظ برج القوس اليوم 11 مايو    «عشان تناموا وضميركم مرتاح».. عمرو أديب يوجه رسالة إلى أبناء محمود عبدالعزيز    افتتاح النسخة الثالثة لمعرض البورتريه المعاصر بجاليري قرطبة.. الأربعاء    وزيرة التضامن ترد على مقولة «الحكومة مش شايفانا»: لدينا قاعدة بيانات تضم 17 مليون أسرة    باكستان تعلن إحياء "يوم الشكر" احتفالًا بنجاح عملية "البنيان المرصوص" ضد الهند    أبرزها الإجهاد والتوتر في بيئة العمل.. أسباب زيادة أمراض القلب والذبحة الصدرية عند الشباب    تبدأ قبلها بأسابيع وتجاهلها يقلل فرص نجاتك.. علامات مبكرة ل الأزمة القلبية (انتبه لها!)    منها «الشيكولاتة ومخلل الكرنب».. 6 أطعمة سيئة مفيدة للأمعاء    أخبار × 24 ساعة.. رفع معاش تكافل وكرامة ل900 جنيه يوليو المقبل    وزيرا خارجية السعودية وبريطانيا يبحثان مستجدات الأوضاع    قلعة طابية الدراويش.. حصن مصري يحتضن حكاية اختطاف أعيان باريس    بوتين يعبر عن قلقه بشأن استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي    صاحب الفضيلة الشيخ سعد الفقى يكتب عن : رسالة مفتوحة لمعالي وزير الأوقاف؟!    عالم أزهري: خواطر النفس أثناء الصلاة لا تبطلها.. والنبي تذكّر أمرًا دنيويًا وهو يصلي    رئيس جامعة الأزهر: السعي بين الصفا والمروة فريضة راسخة    وقفة عرفات.. موعد عيد الأضحى المبارك 2025 فلكيًا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 10-5-2025 في محافظة قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كاف تشبيه الدكتاتور
نشر في أخبار الأدب يوم 23 - 10 - 2011

أصبح يائسا وطريدا وانصرف عنه الأتباع والمريدون، لم يعد أمامه سوي طريق واحد وهكذا قرر أن يكون نبيا، خاصة وأن معظمهم كانوا في مثل حالته، بل ان بعضهم كانت حالته اسوأ بكثير، لكنه تذكر فجأة ان عليه الاتيان ببعض المعجزات، لدفع العامة الي الالتفاف حوله والدفاع عنه اذا اقتضي الأمر، عندها زاد يأسه وانصرف إلي النظر حوله، لعلمه بعجزه عن مثل هذه الأشياء، فقد كانت أعظم معجزاته التي يتذكرها- والتي لاتهم العامة علي الاطلاق- كونه لايزال حيا.
لكنه رغم انصرافه عن الأمر، قرر دراسة حياة اولئك المحظوظين، فإذا كان قد عجز عن الانخراط في سلكهم المقدس، فقد يسعفه الحظ فيعمل داعية لأحدهم، خاصة وان هذه الوظائف اصبحت تضمن لصاحبها كل ما يصبو إليه الآن. الطعام الجيد. البراندي والسجائر. النوم متي شاء.
لهذا لم يضيع وقتا فقد خرج مسرعا من البار، وعبر الشارع الصغير، ليجد نفسه محدقا إلي أكداس الورق المصقولة والمجلدة تاركا ما عداها، فقد كان يعلم- لطول باعه في هذا الميدان- أن كل ما يبحث عنه لايوجد إلا مصقولا ومجلدا، بل أن أكثره يتحلي ايضا- علاوة علي الغلاف المهيب- بعناوين ذات ألوان ذهبية وفضية، ولم تعطله أحجامها، ولا مقاومتها للطي، فقد كان يستطيع- لطول باعه ايضا- ان يسلب هؤلاء الباعة الأجلاف سراويلهم وليس فقط كتبهم.
كان لوجود هذه المجلدات علي طاولته أثره السريع فقد انهالت عليه الكؤوس من اصحاب الطاولات المجاورة، بل ومن الجرسون نفسه، فهم رغم عملهم طوال الليل ونومهم طوال النهار، مازالوا يتذكرون أصحاب هذه الكتب بالخير كلما وجدوا وقتا لذلك، وهكذا انصرف ذهنه الي العمل وحده، خاصة وان بعضهم عرض عليه ايضا اصطحابه- عند عودته- في عربة الفرقة الموسيقية التي ستمر بالقرب من بيته.
أخيرا وبقليل من البحث وجد ضالته، لم يكن يعلم ان الأمر بهذه السهولة، لذا فقد طرح جانبا مسألة العمل داعية، وقرر تنفيذ مشروعه الأول، فهاهو يكتشف ان هناك طرقا عديدة ليست المعجزة إلا إحداها، يكفي أن يباركك أحد القدامي، أو يقدم لك خاتمه فتصبح واحدا منهم، فهاهو أحدهم لم يقم بأية معجزة، واكتفي بانتحال شخصية أخيه ومكر بوالده الضرير المتقاعد، فصار نبيا ذائع الصيت بينما مات اخوه راعيا للماعز.
انفتحت امامه الطرق، وشعر بنفسه وقد أصبح بالفعل أحدهم، فصب كل ما أمامه داخل فمه حتي ابتلت ملابسه، وقذف ببقايا العصافير بين أسنانه، وخرج متجاهلا دعوة رئيس الفرقة الموسيقية، الذي ظهر عليه الانزعاج، ثم انقلب انزعاجه اطمئنانا وفرحا، عندما اكتشف ان المجلدات المصقولة والمجلدة مازالت علي الطاولة، فعلم انها احدي كرامات هذا المثقف الناسك.
فكر في الطريق- وقد صفا ذهنه- في خطواته المقبلة، وكاد يداخله اليأس من جديد، فمن اين له باحدهم- سواء كان ضريرا ام مبصرا حتي يباركه فيصبح واحدا منهم، خاصة وهو يعلم ان اخرهم مات منذ اكثر من مائة عام بعد او وضع وصاياه في كتاب كبير يكاد يحفظ أحد ملخصاته العديدة وهو المدعو »بالبيان الشيوعي« (رغم منظره البائس فلم يكن مصقولا ولا مجلدا).
لكن ذهنه الصافي سرعان ما اسعفه، فمن قال ان عصرنا يخلو منهم، أليس الجنرالات هم أنبياء العصر بلا منازع، بل انه كاد يرقص فرحا عندما تذكر انه رأي العديد منهم، بل وجالس احدهم منذ سنوات، وحادثه وجها لوجه، وعندما تذكر تفاصيل تلك الجلسة المقدسة تأكد لديه انه قد حقق امله، فما اسهل خداعهم، والتغرير بهم، رغم مظهرهم الذي يوحي بغير ذلك.
وهكذا ترك طريقه واتجه مباشرة الي منزل والد صديقه ذلك الجنرال الوديع المتقاعد، والذي يكاد لايري، والذي يهوي لحم الضأن، والذي يشرب الخمر كثيرا، والذي يحمل اسما يماثل تماما- من حيث جرسه علي الأقل- ذلك الاسم المقدس القديم.
نعم الجنرالات هم أنبياء هذا العصر بلا منازع، أليسوا هم أصحاب التعاليم والوصايا الكبري في عصرنا، بل ان اكثرهم تواضعا له عشرات الكتب التي تحمل تعاليمه ووصاياه وكلها لاتفترق عن تلك الكتب القديمة في شيء فلها نفس الأغلفة المصقولة والمجلدة.
لذلك قرر دراسة كل ما كتب عن الجنرالات خاصة تلك الكتب القديمة التي يحمل لها الناس تقديسا خاصا فكان مما قرأه في هذا الصدد، فصلا مطولا ولكنه باء بالفشل الذريع لاستعصاء الفاظه علي النظم مما جعله يلخصه- آسفا- نثرا وان اضمر في نفسه الانقطاع- بعد بلوغ المأمول- الي نظمه وجعله كتابه ودستوره الذي سيخلده بعد الانقلاب عليه وعلي الجنرالات من بعده.
ومع الإيغال في العمل داخله الشك في قدراته البلاغية فقد كان يجلس مبهوتا امام لمات هجينة ومعظمها اعجمي الاصل ثقيل الجرس عصي الفهم مثل:
القائد المعلم- الزعيم- المرحلة الحرجة- اللقاء التاريخي- الثورة المباركة- الاشتراكيه العربية- الاستفتاء- مجلس الشعب- الجماهير الكادحة-.. وغيرها من تلك المصطلحات المستحدثة ولكنه في النهاية نجح في تلخيص ما يهمه بعد ان استبدل مصطلح الجنرال بذلك المصطلح الحديث الذي وجد معظم اصحاب الكتب والجرانيل يطلقه علي الجنرال مقرونا بالهيبة والاحترام.
فصل في محاسن الدكتاتور
واعلم أفادك الله انك اذا استطعت ولوج هذا الباب وانفتحت امامك المسالك وعبرت وصرت واحدا منهم، فابدا برفاقك ولاتبطيء عليهم. واطرد الوهن من
قلبك، ولا تجزع من سومهم صنوف العذاب قبل تعليقهم، وخذ ممن سبقوك اسوة حسنة، فقد اذلوا القاصي والداني وقيلت فيهم المدائح والأغاني، وذلك لصبرهم علي النوائب وكفاحهم وعظيم صبرهم علي بلوغ نهاية الطريق الي خرقة الجنرالية فهو طريق لا يقطعه سوي البواسل من السالكين فهو يبدأ بملازمة الشيخ لسنوات ولذا سمي المريد في هذه المرحلة بالملازم ويظل المريد خادما لصاحب الخرقة مرحلة تلو اخري حتي بلوغ المرحلة السابعة وهي الجنرالية وفيها توهب الخرقة المباركة وتصبح مستعدا للتلقي والأخذ وعبور البرزخ الذي يعبره من علا نجمه وتأكد خلوده وسعده، وليس بعده مشقة ولا عناء ولا هم ولا ضني بل ان من بلغ هذا الموضع واصبح دكتاتورا يمكن ان يقول للشيء كن فيكون ويمكنه مخاطبة الهوام والوحوش بلسانها والتربع علي عرشه طوال حياته ذلك ان الدكتاتور لايختاره العامة والدهماء ولا جماهير الصعاليك ولارقعاء بل يتربع بارادة عليا لايقدر عليها ولايفهمها امثال هؤلاء.
فاذا ما قدر لك ولوج ذلك البرزخ الخطير لتسليم خوذة الجنرال وتسلم خرقة الدكتاتور، فلا تندهش من ازدحامه ليس فقط بالجنرالات بل بما هو ادني، وكلهم طامح الي نيل الخرقة المرجوة، لعلمهم أنها لا تأتي إلا لصاحبها ولو كان جاويشا. غير أن طريقك هو أكثرها استقامة وأقصرها مسافة. إذا ما بلغت مقام الجنرالات، لأنه سابع المقامات وأرقاها حتي ذهب بعض المفسرين إلي أن لفظة الجنرال ليست سوي حجاب أو ستر ينكشف ساعة الوصول وبلوغ المأمول.
فإذا ما بلغت المأمول فلا تأبه لمستحدثاتهم المسماة بالدساتير والجرانيل والأحزاب والانتخابات فلم يعد في عصرك سمير سواها، واذا رابك شيء منها فما عليك سوي تغيير لباسك ووضع آلة حربك وكفاحك مقام آلة طربك وانشراحك فيستقيم لك الأمر، إلي آخر العمر.
عندما انتهي من بحثه، عاد الي الطاولة لم يسأله الجالسون عن سر غيابه، واستمروا في إكمال تلك الحكاية التي سمع أجزاءها السابقة قبل قيامه، بل وجد مجلداته المصقولة كما تركها تماما كل هذا جعله يشك في خروجه من البار، وفي حقيقة أبحاثه، لكنه سرعان ما طمأن نفسه عندما تحسس الهاندباج ووجدها منتفخة بالأوراق والأقلام، فزاد احتقاره لهم، أليسوا هم الذين لم يجزموا بموت »شاكر عيد« -صاحب الطاولة الخامسة- إلا بعد رحيله المفاجيء بأربع سنوات، بل وظل بعضهم يؤكد حضوره كل ليلة ويقسم انه شاهده يجلس الي طاولة اخري تقع في آخر البار بجوار دورة المياه، وبعضهم أكد أنه لم يمت ولكنه فقط انتقل الي بار آخر ولكنهم اضطروا في النهاية الي تصديق موته بعد ان رأوا بأعينهم احدي عظام حقوية- وكانوا يعرفونها- مكتوبا عليها عدة أبيات بقافة ميمية مخففة، عندها كثر عويلهم وعياطهم، وتتالت مراثيهم وقصصهم ومن الغريب ان تلك المراثي كانت جميعا بقافية الميم المخففة.
سرعان ما اصدر الأنبياء الفاشلون مرسوما بعد تلك الحادثة قالوا فيه ان معارفهم وتفسيرهم الصحيح لكل ماهو مجلد ومصقول، أكدت لهم دائما موت »شاكر عيد« بل حتمية موته في هذا التاريخ بالضبط، ولكنهم احجموا عن الاعلان بذلك لما وجدوه من ايمان بالترهات والخرافات بين أهل البار، اما وقد تم اكتشاف احد الحقوين وبعد التأكد من نسبة القصيدة الي صاحبها فهم يعلنون للجميع ان الابتعاد عن معتقدهم ضلال مبين لن يجني اصحابه الا الخزي والعار وفي نهاية المرسوم اكدوا علي امكانية عودة الضالين والمنشقين دون مؤاخذة ولا عقاب بشرط ان يتم هذا قبل نهاية جلسة المساء القادم.
لم يلتفت اليهم بتاتا، كان يعلم انهم يقصدونه بالذات بهذه الرسوم، خاصة وقد ثارت ثائرتهم لما وجدوه من الاحترام الذي ناله منذ ان جلب مجلداته المصقولة الي طاولته، بل انه لمح اكثرهم شراسة وهو يكسر عنق زجاجة »سيكو مصر« ويهم بالتوجه اليه ولكن العقلاء منهم اقنعوه بسخف هذا العمل لان مثل هذه الاجراءات لا تتخذ- حسب العادة- الا بعد فقدان الأمل في اصلاح الفاسد وتقويم المعوج.
استأنف بحثه وهو أكثر حذرا منهم فربما قذفه متطرف بكأس فارغة أو بسيجارة مشتعلة امعانا في مضايقته واذلاله لكنه فجأة قفز فرحا فقد وجد في احد المجلدات ما كان يبحث عنه، بل ما كان يخشي فشل مشروعه بأكمله لو لم يتوفر له، ذلك ان سنوات من المناقشات والمساجلات العنيفة والزجاجات الطائرة قد مرت وجميع أهل البار يحاولون معرفة أي الفريقين اجدر بالتجنيد والتجييش، هل يمكن للجمهور ان يكون اداة الدعوة القادمة ام يمكن الاعتماد علي عدوه اللدود الشعب. لهذا سارع بتلخيص البحث في الحال وضمه الي ملفات المشروع الذي وهب حياته من أجله. وكانت هذه الحاشية.
حاشية في تفضيل
الشعب علي الجمهور
وأعلم جعلك الله من الناجين ان اقطابنا القدامي كانوا يطلقون لفظة الجمهور علي كل ما سما قدره وبزغ نجمه حتي قيل جمهور الفقهاء أو جمهور المفسرين للدلالة علي هذه الطبقة السنية ولكن جاء زمن استباح فيه الناس هذا اللقب السامي، فأنزلوه من عليائه وجعلوه قرينا بالتافه من الأشياء والنافل من الأمور حتي اطلقه ملوك عصرنا علي ممالكهم درءا للحسد، ودفعا لأحقاد منافسيهم وحجابا لما هم فيه من العزة والنعيم فتري الممالك المزدهرة تطلق علي نفسها- تقية- اسم الجمهورية، وتسمع عن أباطرة الملوك يتسمون أمام العامة باسم الرؤساء ولولا لطف الله بنا وعظيم رحمته علينا، لما اسعف قرائح ذوي البصيرة بلفظة الشعب التي بزت سائر الألفاظ برقة جرسها وموفور عمقها، ورغم عكوف الأجيال من العارفين علي حل طلاسمها، وفهم اسرارها، فمازالت معانيها وقفا علي الواصلين واصحاب الكرامات ومما قيل في تفصيلها علي الجمهور.
و».. والجمهور ميال بطبيعته الي الفسق والمجون والخلاعة، فتراه عاكفا علي مشاهدة المباذل ومتابعة المهازل في الوقت الذي يكون الشعب فيه مشغولا ببيعة حاكم او جهاد عدو او شنق حاسد واذا انتهي من جليل اعماله تراه عاكفا علي الزهد والعبادة ولولا ذلك ما اصطفاه الله ببعض صفاته، فهو لا يموت ولاينهزم ولا ينام ولا يجوع ولا يظهر للعيان.
ومن كرامات الشعب المتواترة قدرته علي احياء الموتي وقتل الاحياء وتأويل العناصر، ولقد عاينت بنفسي احد الشعوب وقد حول جاويشا الي جنرال وسمعت ان شعبا حوله الي ملك بل واكد بعض اهل الثقة ان هناك شعبا استطاع تحويل الجنرال الي امبراطور دون ان يفقد ايا من خصائصه او يزيد عضوا واحدا.
ولهذا قال فيهم زعيم نابه:
ولولا الشعب ما اغمضت عيني
وحول القصر جمهور الرزايا
ولو خيرت ما ابقيت فردا
من الجمهور يلعق في دمايا
ولو شاء الإله وطال عمري
لسقت نساءهم سوق السبايا
ذلك أن الجمهور لايصل الي افهامه ان الدكتاتور يقوم برسالة انيطت اليه، وان اعماله ليس مبعثها الهوي، والدليل علي ذلك هذا التوافق العجيب بين افكارهم واعمالهم مهما اختلفت الأرض وتبدل الزمان، فقد قال ديكتاتور عاش في غابر الزمان (وقيل بل انه زعيم العماليق) نفس المعني، وان كان في رأينا اكثر بلاغة واعمق حكمة والطف جرسا:
القصر قصري. وهذا الشعب احبابي
ما اطيب العيش بين الشعب والناس
والحقد من شيمة الجمهور، فاحذره
واجعل جماجمهم كالكأس والطاس.
2
فصل في خصائص الخرقة الكاكية:
لست في حاجة الي معجزة اضافية
يكفيك معراجك اليومي الي السماوات
والأزمنة
وحديثك السري مع الجنرالات
والأنبياء والآلهة
فاقترض منهم الخبز والقميص
والسجائر والنساء
فماذا ينقصك اذن سوي شارع ترابي لا يحمل لافتة
وبعض عجائز يرتدين السواد
وجماعة من الشعراء والقراء اليائسين
وحنرال واحد
لايشيخ
ولا يموت
يلبس خرقة لاتشبه خرق اصحابك
ومريديك
من الصوف أحيانا
ومن الحرير احيانا
ومن الكاكي دائما
حكاية
»فصل في خصائص الخرقة الكاكية«
وأعلم أن الكل يصبوا الي سلوك ذلك الطريق، ونيل تلك الخرقة، ولكن الوصول لايكتب الا لقلة قليلة، بل قل لواحد احد لان بلوغ منتهي الطريق يعقبه الفناء والمحو، حينئذ تنكشف له الحجب والاستار، ويدين له القاصي والداني وتخضع لسطوته الثغور والبلدان.
وقد حكي لي بعض من عاينوها- وكلهم أهل ثقة- فذكروا ان ملمسها يكسب البدن قشعريرة سرعان ما تزول بعد ارتدائها وتحل محلها غبطة لاحد لها حتي ينسي لابسها اصله الطيني ويشعر وكأنه خلق من نور ونار، بل يشعر بأنه كان قبل ان يكون هذا العالم العياني ولا يبقي في وجدانه سوي ذاته التي تسكن اليها سائر الذوات وكأن الدكتور قد حل فيه او كأنه فني فيه، وذابت روحه في روحه.
لذلك تري شقاوة من يتخلف عن الطريق، فتخلع عنه الخرقة او يخلعها اضطرارا، فمنهم من يختلف الي العامة فيصير واحدا منهم، ويكابد اضاف ما يكابده السالك، وتنزل عليه المسكنة والذلة، ومنهم من يعكف علي الأذكار وكتابة القصص والأشعار، وبعضهم يشتط في الضلالة فيرتاد وكور المثقفين والشطار بل لقد شاهدت بنفسي احدهم وهو يصرح جهرا وبكل لسان بالديمقراطية وحقوق الانسان غير ان هؤلاء لا يقاس عددهم بمن يتجه الي معاملة التجار وامتلاك الدكاكين والوكالات وفتح الشقق والخانات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.