هل إذا اعتبرنا هذا الديوان هو الجزء المكمل للجزء الأول/ الديوان السابق، والمعنون ب "تأطير الهذيان"، نكون مخطئين؟ قد يكون هذا هو التساؤل الأول الذي يسيطر علي قارئ الديوان ابتداء من القصيدة الأولي "بوق كل ساعتين"، إلي غيرها من القصائد التي تعتمد ما أسميناه في دراستنا عن ديوان"تأطير الهذيان" ب:الفضفضة الشعرية المصاحبة للتوتر النفسي التي كانت تعاني منه الذات و تعاينه وتحققه شعرياً، في الديوان .. فاستمرت تلك الحالة لكن ليس بنفس العنف، فالديوان الحالي يمثل الحال وقد هدأت الذات قليلاًََ لتدخل في مرحلة تالية للانفجار وهي مرحلة الترقب والرصد والتحليل. كما أن الذات انطلقت هنا أيضاً من نفس الفضاء ..فضاء تملؤه الوحدة والاغتراب والشعور الدائم بالاضطهاد وعداء الآخرين، لذا يستخدم النص ما نسميه بالسرد السريع المحموم المناسب لتلك الفضفضة، أما الأمر الثاني المشترك بين الديوانين فهو استخدام الذات لنفس الرموز التي أرقتها وصنعت أزمتها في ديوان "تأطير الهذيان"، وهم "الأولاد" الذين يمثلون مرحلة الطفولة الملتبسة، و"الجارة والحبيبة " اللذان يمثلان المرأة عند الذات، و"الجد" سواء بصفته الشخصية أم بحضوره الرمزي. يتناول الديوان تلك الرموز ليس من خلال إبراز مشاعر الذات تجاهها وعرضها، كنوع من الاستعراض للمفردات التي آلمت الذات، بل تقوم الذات هنا بتشريح تلك الرموز ومحاولة فهمها ثم محاولة الدخول في مواجهة معها بأشكال عدة، تبدأ مع قصيدة "الفائز باللذة" التي تطالعنا ببطل كانت تملؤه الثقة بوهم أنه مكتمل الإرادة- هل يملكها بالأساس؟- فيستطيع مواجهة الآخرين هل خَبُرَ التعامل الأّولي معهم طول تاريخه، هو المراقب وقَنّاص الحيوات من شرنقته الدائمة؟! - يتوق لتحقيق ذلك التواؤم النفسي الذي تصبو اليه الذات: بكل ثقة/ دخلتُ.. لكن ينتهي الأمر بالارتباك والخشية علي حد قول الشاعر، وبالتالي فشل تلك المواجهة- ذلك التواصل- فيقول النص: الارتباك الممزوج /بالخشية الدفينة... ويستخدم لفظة"الدفينة" لندرك كيف يكون الخوف غائرًا في اللحم والروح... هذا الفشل ينجم هنا عن قهر أداة خارجية، كانت الذات قد استخدمتها في المواجهة وهي الرياح ..بمفهومها التاريخي: الريح /تدفعني بنزقها التاريخي .. ذلك المفهوم التاريخي للريح مُحَمّل بدلالات سلبية في الأدب العربي ابتداء من العصر الجاهلي، فتدور دلالات الريح في الغالب حول سلب إرادة الإنسان وتغيير وجهته الي ما لا يشتهي لذلك توصف الريح دائماً بأنها هجومية شرسة ومخيفة ..تكنس مشاعرك وأشواقك وما تملك، يقول الشاعر عامر ابن الطفيل: ألا كل ما هبت به الريح ذاهبُ .. وفي سبعينيات القرن العشرين نجد نفس الدلالة عند البردوني فيقول: وحدي ألوك صدي الرياح وأرتدي عري الجنون.. ونجدها من قبله أيضاً عند السياب: الباب ما قرعته غير الريح في الليل العميق/ الباب ما قرعته كفك.. وبما أن تلك الريح بدلالاتها التاريخية السلبية والتي تتأرجح بين الهجوم والشر من جهة وبين الفشل الدائم والمتوقع وعدم الحصول علي أي شئ من الجانب الآخر، كان الإخفاق هو النتيجة الطبيعية للذات في مواجهة العالم. والأمر ذاته في قصيدة "يلعب بالحروب" التي تبدأ بعمل شبه وحشي يوحي بقوة الذات وجرأتها، بل وقدرتها علي إعلان موقفها واعتراضها بتعليق علم أسود، كعلامة وإعلان عن الوجود، يقول الشاعر: أقطعُ إبهامي / وألّفُ حول اليد غيمة سوداء .. تبدأ مقاومة الذات قوية ومُبادِئة وتأمل في إكمال حالة التعامل مع الآخر ثم اقتحامه - حتي ولو بالإعلان المدوي بتمزيق الذات للحمها- ثم تضعف شيئاً فشيئاً حتي تتلاشي، كالعادة: أُرَكِّبُ يداً خشبية/ وبعد عمرٍ ظلاً حديدياً/ ثم من القماش/ ثم من التراب .... ثم .... وتقوم الذات باستدعاء التمثال الفرعوني "الكاتب الجالس" كنوع من المقاومة السلبية المحمّلة أيضاً، لقد حرص العديد من أصحاب القبور علي تصوير أنفسهم في جلسته كنوع من التعظيم لذواتهم، التعظيم بالإعلان عن: كوني حكيم لكني لا أبادر..كنت هنا والآن لم أعد..وعظمتي في صمتي.. وما إلي ذلك من القيم التي تجمع المتناقضات في إهابها ..وقد تجلي ذلك الطرح بجلاء في قصيدة "الذي قطفته الأغصان". أما الرموز التي استخدمت في ديواني "تأطير الهذيان"، و"يطل علي الحواس" أو بالأحري التي ظهرت في هذه الحالة الممتدة التي استغرقت ديوانين، فتتمثل في: أولاً: "الجد"، الضعيف الذي لا دور له ورغم ذلك يُعَظّم ويُعبد..يقول النص في قصيدة "الفائز باللذة": أوقات الوحدة عالية النبرة/ والجد الصامت/ كإله وثني .. و يرمز الجد كذلك في الديوان لتاريخ الذات، ذلك التاريخ المُحمّل بالعادات والتقاليد والثقافات المكبّلة للذات والكابتة لأشواقها وأمنياتها في التحليق والتي أسهمت في قهرها وأورثتها الضعف والصمت ...إن الجد مازال يعيش في جسد الذات وأشباهها..تحت الجلد وفي الدم.. بضعفه وصمته وكذلك قهره... يقول النص في قصيدة صاحب اللحظة المقطرة " : العجوز/ شَبّكَ جلدنا/ من ساعتها/ واستعد للحياة في ملابسنا/ التي يصطادها الهواء/ كل ممر وضحكة .. ثانياً: "الأولاد"، رمز الطفولة غير السعيدة، التي تظهر الذات معاناتها فيها ومعها وبسببها، عبر النصوص في تجربتيْ الديوانيْن، فالطفولة هي مرحلة الخوف والكبت والحرمان والتشكّل مرتعش في هذه المرحلة، كما أن الأولاد هم مصدر الألم والقهر للذات علي الدوام : الأولاد الذين ظنوني/ ساحر الحي فأشعلو حريقاً/ ورموني دون حبال .. ثالثاً: "المرأة "، ذلك الرمز الذي استحوذ علي الغالبية العظمي من القصائد، و تقدم القصائد المرأة من العمق البعيد، أي من حيث كونها أنثي فقط، وتنحّي المرأة من ناحية كونها كائنا ًاجتماعياً.. بل وتقدم القصائد طرحاً للمرأة علي النقيض من رؤية الكثير من النقاد الذين اعتبروا الكتابات النسوية التي تعرضت للعلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة نوع من الفضح والكشف للقهر الجسدي التي تتعرض له المرأة نتيجة ثقافات وعادات مجتمعية تنتصر للرجل ( الذكر ) علي المرأة ( الأنثي ) ، فيقدم النص المرأة المستغلة لأنوثتها والتي تعتبر علاقتها الجسدية بالرجل هي أداتها لقهره..المرأة هي القاهرة سواء بأنوثتها أو بجمالها أوحتي بحنانها، لذا تؤكد الذات علي أن الاقتراب من المرأة بمثابة الضياع والانهيار والابتلاع.. بل تربط الذات بين المتعة ومفهوم المؤامرة في قصيدة " بوق كل ساعتين " : " هل كانت الأكف ستنتشي علي الحافة ؟ ، لو لم تكن نهمةً هكذا .... ألم تكن اللزوجة عاشت قرب المؤامرة ؟ ".. والمرأة ، كذا ، في مفهوم الذات - أو ضمن مخاوفها المتعددة الأشكال- تتلون وتتحول من حال الي حال في ذات اللحظة ببراعة لا تستطيع الذات مجاراتها أو اكتشافها حتي....فمثلاً ، رغم تيقن الذات منذ بداية اللعبة أنها هذه المرة تأتي في صورة امرأة المشرحة ، وأن قفازاتها بالضرورة قاسية ، تصيبها الغفلة : كلما غافلتنا/ امرأة المشرحة /وخلعت القفازات/ القاسية/ التي تمنع الصداقة والتواصل .. فتنخدع الذات بالنظرة الحانية ، أداة القنص الدائمة : أُقبّل النظرة الحانية/ وانحني . بل يصل نهم الأنثي للعلاقات الجسدية وهنا يُلمّح الشاعر إلي مفهوم سلطة الجسد عند المرأة إلي تمتعها بلحظة اغتصابها فتلمح الذات نظرة النشوة في عيني المرأة وذلك في " نصف الصفحة الأخيرة " .. كذلك تقدم المرأة في صورة مرعبة أشبه بالحكايات الشعبية الخرافية في قصيدة " القاسية " فتربطها بتعبيرات مثل:" الخوف، الجلد الميت، الأشباح، الكلام الساذج، العظام". وفي المقابل يقدم النص الرجل، يهفو إلي حب مثالي وليس جسدي فقط وذلك كما في قصيدة " الراقص الوحيد " التي تملؤها كلمات روحانية غاية في العذوبة مثل العيون، البريق، القلب، الدفء، الصمت، والحب. ولما لهذا الرمز من جوهرية - بتمثّلاته المتعددة: الأم، الحبيبة،الأخت،القاتلة، البعيدة في الأحلام..الخ - في تكّوين وتشكيّل الذات المحكي عنها وفي إدارتها لصراعاتها نجده يطغي في حضوره علي الرموز الأخري في الديوان.