بالفيديو.. أول تعليق من شقيق المفقود السعودي في القاهرة على آخر صور التقطت لشقيقه    مفاجأة أسعار الحديد والأسمنت اليوم 3 يونيو.. عز مزعل المقاولين    إعادة النظر في نظام استبدال نقاط الخبز المدعم    عودة نشاط قطاع التصنيع في اليابان إلى النمو    استطلاع: فوز مرشحة اليسار كلاوديا شينباوم بانتخابات الرئاسة فى المكسيك    الرئيس الأوكرانى يعلن افتتاح سفارة بلاده فى مانيلا خلال 2024    إعلام إسرائيلي: دوي صافرات الإنذار في الجليل الأعلى    حريق كبير إثر سقوط صواريخ في الجولان المحتل ومقتل مدنيين جنوب لبنان    ميدو يعلق على استدعائه للتحقيق بسبب ظهوره الإعلامي    موعد مباراة إنجلترا أمام البوسنة والهرسك الودية والقنوات الناقلة    حالة الطقس اليوم الاثنين 3-6-2024 في محافظة قنا    طلاب الثانوية الأزهرية يؤدون امتحان مادة القرآن الكريم.. فيديو    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 3-6-2024    سيدة تشنق نفسها بحبل لإصابتها بأزمة نفسية بسوهاج    حريق هائل يخلف خسائر كبيرة بمؤسسة اتصالات الجزائر جنوب شرق البلاد    كيفية حصول نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بني سويف    ننشر أسعار الذهب في مستهل تعاملات الإثنين 3 يونيو    كلاوديا شينباوم.. في طريقها للفوز في انتخابات الرئاسة المكسيكية    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 3 يونيو    تراجع أسعار النفط رغم تمديد أوبك+ خفض الإنتاج    متى تفتح العمرة بعد الحج ومدة صلاحية التأشيرة؟.. تفاصيل وخطوات التقديم    استشهاد 8 بينهم 3 أطفال فى قصف إسرائيلى على منزلين بخان يونس    ارتبط اسمه ب الأهلي.. من هو محمد كوناتيه؟    أفشة يكشف عن الهدف الذي غير حياته    الغموض يسيطر على مستقبل ثنائي الأهلي (تفاصيل)    التعليم: مصروفات المدارس الخاصة بأنواعها يتم متابعتها بآلية دقيقة    متحدث الوزراء: الاستعانة ب 50 ألف معلم سنويا لسد العجز    عماد الدين أديب: نتنياهو الأحمق حول إسرائيل من ضحية إلى مذنب    التصعيد مستمر.. غارة جوية على محيط مستشفى غزة الأوروبي    أمين سر خطة النواب: أرقام الموازنة العامة أظهرت عدم التزام واحد بمبدأ الشفافية    أحداث شهدها الوسط الفني خلال ال24 ساعة الماضية.. شائعة مرض وحريق وحادث    حماية المستهلك: ممارسات بعض التجار سبب ارتفاع الأسعار ونعمل على مواجهتهم    أفشة: هدف القاضية ظلمني.. وأمتلك الكثير من البطولات    خوسيلو: لا أعرف أين سألعب.. وبعض اللاعبين لم يحتفلوا ب أبطال أوروبا    أفشة ابن الناس الطيبين، 7 تصريحات لا تفوتك لنجم الأهلي (فيديو)    «زي النهارده».. وفاة النجم العالمي أنتوني كوين 3 يونيو 2001    أسامة القوصي ل«الشاهد»: الإخوان فشلوا وصدروا لنا مشروعا إسلاميا غير واقعي    محافظ بورسعيد يودع حجاج الجمعيات الأهلية.. ويوجه مشرفي الحج بتوفير سبل الراحة    فضل صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وفقا لما جاء في الكتاب والسنة النبوية    «رئاسة الحرمين» توضح أهم الأعمال المستحبة للحجاج عند دخول المسجد الحرام    محمد الباز ل«بين السطور»: «المتحدة» لديها مهمة في عمق الأمن القومي المصري    وزير الصحة: تكليف مباشر من الرئيس السيسي لعلاج الأشقاء الفلسطينيين    تكات المحشي لطعم وريحة تجيب آخر الشارع.. مقدار الشوربة والأرز لكل كيلو    جهات التحقيق تستعلم عن الحالة الصحية لشخص أشعل النيران في جسده بكرداسة    إنفوجراف.. مشاركة وزير العمل في اجتماعِ المجموعةِ العربية لمؤتمر جنيف    الإفتاء تكشف عن تحذير النبي من استباحة أعراض الناس: من أشنع الذنوب إثمًا    دعاء في جوف الليل: اللهم افتح علينا من خزائن فضلك ورحمتك ما تثبت به الإيمان في قلوبنا    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم دراجتين ناريتين بالوادي الجديد    تنخفض لأقل سعر.. أسعار الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الإثنين 3 يونيو بالصاغة    مصرع 5 أشخاص وإصابة 14 آخرين في حادث تصادم سيارتين بقنا    دراسة صادمة: الاضطرابات العقلية قد تنتقل بالعدوى بين المراهقين    محمد أحمد ماهر: لن أقبل بصفع والدى فى أى مشهد تمثيلى    إصابة أمير المصري أثناء تصوير فيلم «Giant» العالمي (تفاصيل)    الفنان أحمد ماهر ينهار من البكاء بسبب نجله محمد (فيديو)    رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني يعلق على تطوير «الثانوية العامة»    حالة عصبية نادرة.. سيدة تتذكر تفاصيل حياتها حتى وهي جنين في بطن أمها    وزير العمل يشارك في اجتماع المجموعة العربية استعدادا لمؤتمر العمل الدولي بجنيف    اللجنة العامة ل«النواب» توافق على موزانة المجلس للسنة المالية 2024 /2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



»مسافر« أحمد ماهر..
طاووس زاده الخيال يهفو إلي نهر الحب
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 10 - 2011

يطرح فيلم "المسافر" لمؤلفه ومخرجه "أحمد ماهر" سؤالا هاما عن الطرق التي تقرأ بها الأفلام. دونا عن كل الفنون الأخري لا تزال السينما في بلادنا تشاهد وتقرأ علي المستوي المدرسي المباشر لجودة الحكاية ومهارة الأداء التمثيلي وحرفية الاخراج...وقلما تعامل كما يعامل الشعر أو الفن التشكيلي اللذين قد يحتاجان إلي فك الكثير من الشفرات اللغوية والبصرية علي مدار قراءات ومشاهدات متعددة من أجل الوصول إلي كنوز المعني المختبئة.
هذا المقال محاولة لفهم عمل جاد وثري و"متعوب" عليه يحتاج إلي بعض التعب لكي تزداد استمتاعا به.
يبدأ "المسافر" بالشخصية الرئيسية "حسن" نائما داخل قطار يمر بجوار البحر. "حسن" نائم في القطار بين وضع القرفصاء ووضع الجنين، وعربة القطار المظلمة المتحركة تشبه بطن الأم...لكن القطار نفسه له معان أخري في اللاوعي الجمعي: هو رمز السفر والرحلة والرغبة التي تندفع بصاحبها ويمكن أن تدمره. المشهد الأكثر حضورا للقطار في ذاكرة الأدب هو مشهد "آنا كارينينا" تلقي بنفسها تحت عجلاته في نهاية رواية تولستوي. وفي السينما المصرية تم تقديم نفس المشهد ومعني الغريزة المدمرة للقطار في فيلم "نهر الحب".
في نهاية "المسافر" يتكرر مشهد الموت تحت عجلات القطار...حين يقرر "حسن" الذي يصبح شيخا عجوزا أن يستجمع شجاعته للمرة الأولي في حياته، وأن يلعب لعبة مواجهة القطار التي كان يزعم أنه لعبها في مراهقته، فيصعد إلي كوبري امبابة الذي يمر عبره القطار فوق النهر، وينتظر حتي يوشك علي الاصطدام به ثم يلقي بنفسه في النهر.
يستطيع بطلنا أخيرا أن يواجه وينتصر علي قطار الغواية والخوف الذي شغل خياله طوال حياته، ويصبح هذا الانتصار علامة تحوله وميلاده الجديد.
بجانب القطار يمتلئ المشهد الأول بوسائل النقل الأخري: الخيول التي يركبها جنود الاحتلال البريطاني. المراكب في البحر، السيارات والحمير وعربات الحنطور والدراجة.
تزداد معرفتنا بمشكلة "حسن" مع القطار ووسائل النقل عامة في المشهد الثاني من الفيلم حين يلتقي عامل التلغراف في مدينة بور سعيد، الذي يأتي بصحبة دراجة لا يستطيع قيادتها، ولا "حسن" أيضا يعرف كيف يركب هذه الدراجة. في المفهوم الشعبي للدراجة وركوبها معني جنسي معروف، والاشارة واضحة إلي مشكلة "حسن" الأساسية، وهي عدم معرفته بكيفية التعامل مع النساء.
"حسن" الذي يعمل في التلغراف لديه صعوبة في التواصل مع الآخرين، وكذلك مع وسائل المواصلات خاصة التي لا يمكن السيطرة عليها مثل القطار والدراجة وعمود المطافئ. في الجزء الأول يحكي ل"نورا" كيف أنه كان يتمني أن يعمل بالمطافئ في طفولته. وفي الجزء الأخير يطلب من حفيده الذي يعمل بالمطافئ أن يسمح له بالهبوط علي عمود المطافئ. هذا الهبوط السريع غير القابل للتحكم فيه يعبر عن مشكلة "حسن" بطريقة أخري: أنه شخص لا يترك لنفسه العنان ويخشي من المخاطرة كما يخشي أن يترك نفسه لأهواءه ورغباته ولا ينجح في التخلص من هذه المشكلة سوي في المشاهد الأخيرة من الفيلم.
في المشاهد الأولي نتعرف علي مشكلة "حسن" مع النساء ومع غرائزه بطرق متعددة.أنه يدعي الحكمة والقوة ولكنه طفل خائب...لا يجرؤ علي تدخين المخدرات ولا النظر إلي العاهرات وهن يمارسن مهنتهن في بيت العجائب الذي يصطحبه إليه "معلم" شعبي في المدينة الساحلية التي تفيض بحياة اللهو والمتعة...وحين يحاول تقليد ما يراه تتحول حياته إلي جريمة كبيرة. أنه يغتصب المرأة التي يحبها ثم يفقد سيطرته علي نفسه: يتشاجر مع "فؤاد" الذي أنقذ حياته بانتشاله من الماء ويحاول احراق السفينة... ان جانبه الحيواني يخرج حرفيا من القفص بسبب النيران. السفينة تحمل حيوانات يظهر منها الطاووس رمز الكبرياء الذكوري، والأحصنة رمز الغريزة التي تندفع قافزة في المياه. وفعلته الشنعاء هذه سيعاقب عليها بالعزلة والوحدة إلي الأبد.
يأتي "حسن" إلي بورسعيد، كما يأتي الطفل إلي الحياة: جاهلا ومغرورا وممتلئا بالرغبة في الاستحواذ علي الأم. بمجرد أن يسمع بوجود امرأة جميلة ترسل تلغرافا غراميا لشاب تحبه تتملكه رغبة في الوصول إليها، ويذهب إلي السفينة التي تقلها لسبب غير مفهوم. تحت السفينة يسقط في الماء ويتم انتشاله مثل أوديب والعديد من أبطال الأساطير القدامي بواسطة أب بديل. القبطان اليوناني هو امتداد لشخصية "المعلم". رجل شرق أوسطي نموذجي، محب للحياة والنساء ضخم البنيان غليظ الصوت يتولي قيادة الغر "حسن" وتلقينه لكيفية التعامل مع النساء. "فؤاد" حبيب "نورا" هو امتداد آخر لصورة الأب الفحل الشجاع معشوق النساء، وهو أيضا ينتشل "حسن" من المياه حين يغرق للمرة الثانية. "نورا" هي البحر الذي يغرق فيه، وهي رمز للأم ولعلاقة "حسن" بالنساء بشكل عام. وفي التحليل الفرويدي فإن البحر والماء يمثلان رحم الأم غالبا بما ان تجربة السقوط في الماء هي تكرار لحياة الجنين داخل السائل الأمينوزي في الرحم. وكثيرا ما يشبه المحبون الرجال عيون الحبيبة بالبحر العميق. والخوف من الماء حسب التحليل الفرويدي يرمز عادة للخوف من الرحم والنساء. الابتلاع داخل الرحم هو أحد المخاوف الذكورية التقليدية، وطالما عبرت الأساطير والحكايات الشعبية والفنون عن الخوف من المهبل القاتل الذي يلتهم الرجال. البئر العميق هو أحد الصور الأخري للخوف من الأنثي يمكن أن نجده في قصة يوسف وغيرها من الحكايات الشعبية. وفي الجزء الثاني من "المسافر" يغرق الابن "علي" في بئر داخل البحر كان معتادا علي القفز فيه كنوع من اثبات الرجولة. "علي" هو الامتداد الطبيعي لل"معلم" والقبطان وفؤاد...هؤلاء الذين يلقون بأنفسهم في "بحر التهلكة" دون حساب للعواقب...ينجحون أو يدفعون حياتهم ثمنا للمغامرة...ولكن المرء يستشعر أن "علي" نسخة متطرفة من هذا النموذج...أنه مهووس تماما باثبات رجولته، ليس فقط عبر القفز في البحر ولكن بتربية الديوك المقاتلة وممارسة الكثير من الألعاب الخطرة، وهو لا يفعل ذلك من أجل الاستمتاع بالنساء والحياة مثل الرجال السابق ذكرهم، ولكن بدافع من هرمونات الذكورة الفائضة والخوف من النساء الذي يدفعه إلي اثبات رجولته مع أقرانه من الرجال.
كل من "حسن" و"علي" ضحيتان لمجتمع يكره ويخشي ويستبعد النساء. "حسن" يمثل الأوديب الذي يرتكب فعل اشتهاء الأم "نورا" بادعاء أنه شخص آخر والاعتداء عليها جنسيا، وهو ينال عقابا قاسيا بنبذه ورفضها للسماح له بدخول حجرتها...وهذه الصدمة تدفعه إلي الانتقام منها باحراق السفينة، كما تدفعه إلي كراهية غريمه/الأب/فؤاد بالرغم من أنه يتمني أن يكون محله وينتحل الكثير من صفاته.
"علي" شبيه "حسن" -هو نموذج آخر من أوديب،الابن المنبوذ.و»نادية« شبيهة أمها- هي نموذج آخر من المرأة التي انتهكت براءتها. من المؤكد أن "نورا" الجريحة بفعل اعتداء "حسن" لها، واستياء "فؤاد" منها بعد معرفته بعلاقتها العابرة ب"حسن" ( هناك مشهد دال في نهاية الجزء الأول علي رد فعله المصدوم من كلام "حسن" أمام الباب الموصد) قد قضت حياة تعيسة خالية من الحب يعبر عنها البيت الفقير الذي عاشت فيه وابنيها البائسين، "علي" الذي يلقي مصرعه في البئر و"نادية" الضعيفة الخائفة التي تقبل الزواج من "جابر" المعتوه بناء علي أوامر رجل تلقاه لأول مرة في حياتها!
في كتابه "الطوطم والحرام" يكشف "سيجموند فرويد" عن الصلة بين "أوديب" و"هاملت" بإعتبار أن الثاني هو التطور النفسي والحضاري للأول. الطفل الذي يشعر بالذنب من مشاعره تجاه أمه وأبيه يقوم بعكس الموقف فيتخيل أن الأم هي الشهوانية وأنه يحب أبيه ويرغب في الانتقام من الأم وعشيقها اللذين قاما بقتل الأب. في هذه المرحلة "الهاملتية" يتحول اشتهاء المرأة إلي إدانة لها ورغبة في استبعادها. وهناك مشهدان دالان علي هذا التحول في "المسافر". المشهد الأول يدخل "حسن" حجرة "نادية" وهي صورة طبق الأصل من الأم. يقترب منها ويهم بتقبيلها لكنه يتذكر أنها محرمة عليه. وفي المشهد التالي يتخلص منها بتزويجها لرجل معتوه رافضا السماح لها بالزواج من الشاب الوسيم الغندور الذي تحبه. هذا الموقف يبين غيرته عليها ورغبته في استبعادها في الوقت نفسه. ينتهي هذا الفصل بمشهد "نادية" في الماء، تبكي وتتوغل في العمق، ويأتينا الانطباع بأنها "أوفيليا"، الحبيبة التي هجرها وأساء معاملتها "هاملت" فانتحرت غرقا.
الموت يفتتح ويختم الفصل الثاني من الفيلم. كلا من الذكورة
والأنوثة، ممثلين في التوأم "علي" و"نادية"، لقيا مصيرهما المؤلم الناتج عن ضياع الحب: ضياع "نورا" من "حسن"، وضياع "فؤاد من "نورا". الموقف يمكن قراءته بطريقة أخري: في نظر عالم النفس "كارل يونج" فإن كل انسان يتكون من ذكر وأنثي وكبت أي منهما يؤدي إلي المرض النفسي. التوأم "علي" و"نادية" يمثلان الذكورة والأنوثة أو "الأنيموس" و"الأنيما" بتعبير "يونج" - داخل "حسن". و"حسن" الذي ينبذ "الأنيما" داخله جانبه المؤنث - يسيطر عليه التطرف والمرض وهو لايشفي إلا بعد أن يتصالح مع هذا الجانب في النهاية. ومحاولات "علي" المستميتة لإثبات ذكورته هدفها الخلاص من جانبه المؤنث وهو ما يؤدي إلي موته...وموت "علي" يمثل أيضا موت الجانب المذكر داخل "نادية"، وهو ما يحولها إلي فتاة مسكينة ضعيفة...الإثنان لا يمكن أن يعيشا بدون الآخر.
لنمد الخيط إلي الوعي الجمعي كما يفعل "يونج"...ان المجتمع الذي يكبت ويدفن نصفه المؤنث سيتحول بالتأكيد إلي مجتمع مريض...وهذا هو بالضبط مضمون الفصل الثالث.
إذا كان فعل الموت يهيمن علي الفصل الثاني، فإن حالة الموات هي المسيطرة علي الفصل الثالث. جزء كبير من الأحداث يدور في العالم السفلي للمقابر ومترو الأنفاق، والمناخ الذي يسيطر علي المدينة بشكل عام هو الجفاف والجوع والعطش نحن في شهر رمضان. أنها القاهرة بداية القرن العشرين الغارقة تحت ركام المقابر والعنف والتزمت الديني والتناقضات الطبقية والازدواجية الأخلاقية التي لا يمكن حلها.
هنا يهبط "حسن" و"حفيده إلي مدينة الموتي، حيث يعيش الناس علي المراهنة علي الديوك المتقاتلة. الديوك المتقاتلة صورة أخري من التوأم الذي يأكل نفسه...وهي صورة للذكورة المتناحرة ضد نفسها. المثل الشعبي يشبه صراع الأخوة ب"نقار الديوك". لكن الديوك التي تستخدم في القتال تذكر أيضا بالطيور الجارحة. و"جابر" يحذر "حسن" من أن يعضه أحد الديوك. الحلم بالطيور الجارحة يعني أن شيئا ما يموت وأن المرء يخشي من ضياع شئ مهم منه...شئ ما مات في هذه المدينة التي تلبد سماءها غيوم الطيور الجارحة.
"علي" الحفيد -ابن »نادية« شاب بريء وضعيف و وحيد..أما »حسن« فقد أصبح شيخا عجوزا يواصل ألعاب الكذب والخداع...ولكنه تخلص من الكثير من قسوته وبروده...هل لذلك علاقة بحلول "عمر الشريف" بجاذبيته الطاغية محل "خالد النبوي"...أم أن الأمر له علاقة بإختيار وتعمد المخرج؟ أعتقد أن التفكير في الاستعانة ب "عمر الشريف" في هذا الجزء هو نوع من الالهام الفني.
علي العكس من الجزئين الأول والثاني، فإن الرجال هم الضعفاء هنا في حين أن المرأة الرئيسية الدكتورة "راوية" هي الانعكاس الحتمي لشخصيتي "نورا" و"نادية" العاطفيتين الضعيفتين. "راوية" امرأة عملية بلا قلب تعرف ما تريده وتسعي للحصول عليه...وما تريده ليس أقل من انتزاع أنف "علي" الرومانية، رمز رجولته الذي ورثه من جده فؤاد. الأنف كرمز ذكوري معروف، ولكنها أيضا رمز للحدس والفطرة والكرامة. هذه الأنف هي أيضا العضوالوحيد الذي ورثه "علي" الحفيد من جده "فؤاد"، والباقي من "حسن". ورغبة "راوية" في "تحطيم" هذه الأنف تضع أمام "حسن" السؤال الأهم في حياته: هل يكره فعلا "فؤاد" أم أنه يتمني فقط لو كان مثله؟ في الحقيقة من المستحيل علميا أن تنجب امرأة توأما من رجلين مختلفين. هذا التركيب غير الواقعي للوجوه والشخصيات حيلة خيالية يلجأ إليها ذهن الحالم ( "حسن"/ "فؤاد" / المؤلف) ليحل تناقضا لا يمكن حله في الحياة الواعية...ورغبة "راوية" في إزالة الأنف تجبر "حسن" علي مواجهة هذا التناقض والتصالح معه. الآن عليه أن يحدد هل هو "حسن" أو "فؤاد" أو "علي" الابن أوالحفيد أم الأربعة معا؟
هذا السؤال يفتح وعي "حسن"...وهنا يمتلئ الفيلم بصور الحمام، هذا الطائر المقدس الذي يمثل الوعي وانفتاح الروح والروح القدس التي تحل في الأجساد الميتة كما يمثل التجدد والميلاد الجديد مثل السمك والبيض والقمح في الثقافات الزراعية.
"حسن" ينقذ الحفيد من أيدي "راوية" باشعاله حريقا وهميا في المستشفي، ويصطحبه إلي بيته. يعطيه بعض ملابسه وهو رمز لاعلانه عن بنوته واعتباره خلفا له...ويحضر له علبة من كعك العيد. هذا الكعك هو واحد من أقدم أنواع المخبوزات في العالم، وكان يطلق عليه "كعك ايزيس" وهو يصنع علي شكل قرص الشمس ويحمل نقوشا تدل عليها رمزا لعبادة إله الشمس. وفي الخيال الشعبي يمثل كعك ايزيس طقسا هاما من الاحتفال بالعيد، خاصة عيد الفطر الذي يشبه عيد الفصح الفرعوني ولكن في السنة الهجرية. القرص المستدير قد يشير إلي القمر أيضا وإلي دورة الحياة عموما. والقمح الذي يصنع منه الكعك يرمز للخصوبة والنماء والتجدد.
ومثلما بدأ الفيلم ب"حسن" نائما، ينتهي به نائما يلتهم الكعك حالما بالعودة إلي رحم الأم وحضنها ليولد من جديد. المدينة كلها تحترق وتغمرها المياه. وهنا يتجسد معني اختلاط النار والماء علي مدار الفيلم. النار والماء يرمزان للتطهر والبعث حسب ابن طفيل ودانتي والثقافة الشعبية الدارجة. النار ترمز للوعي وتجدد الطاقة والتحول إلي صورة أخري والماء يغسل ويروي ويحمل سر الحياة.
هنا تتغير صورة الماء من البحر المالح العميق الذي يرمز للخوف من الأم إلي نهر النيل بكل ما يحمل من صفات الأم الايجابية. يفلت "حسن" من القطار ويقفز في النهر وعندما يفيق يجد نفسه في حجر الأم حرفيا...ملفوفا مثل الوليد الجديد محاطا بالأطفال وامرأة شعبية مثيرة ترضع أحد أطفالها وتتناول معهم كعك ايزيس.
يسألها "حسن" عن الأطفال ويعرف أنها تزوجت مرتين وأن طفلها الأخير من رجل ثالث لم تتزوجه...وهي علي عكس "نورا" ليست ضعيفة بأي حال ولا تخجل ولا تتبرأ من أنوثتها ولا تنبذ أطفالها.
الآن لم يعد الانتساب إلي الأباء شيئا مهما...ولا التفكير في منافسة الأب والرجال الآخرين. الآن كل الرجال أطفال تحت أقدام "الأم العظمي" Magna Mater ، أمنا الأرض، والآن يمكن أن تعود لحضارتنا أنوثتها المفقودة تحت وطأة الصراع الذكوري المدمر.
هذا هو حلم "حسن" الأخير لأمة كانت ميتة وبعثت من جديد بعد الانتهاء من صنع هذا الفيلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.