«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



»مسافر« أحمد ماهر..
طاووس زاده الخيال يهفو إلي نهر الحب
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 10 - 2011

يطرح فيلم "المسافر" لمؤلفه ومخرجه "أحمد ماهر" سؤالا هاما عن الطرق التي تقرأ بها الأفلام. دونا عن كل الفنون الأخري لا تزال السينما في بلادنا تشاهد وتقرأ علي المستوي المدرسي المباشر لجودة الحكاية ومهارة الأداء التمثيلي وحرفية الاخراج...وقلما تعامل كما يعامل الشعر أو الفن التشكيلي اللذين قد يحتاجان إلي فك الكثير من الشفرات اللغوية والبصرية علي مدار قراءات ومشاهدات متعددة من أجل الوصول إلي كنوز المعني المختبئة.
هذا المقال محاولة لفهم عمل جاد وثري و"متعوب" عليه يحتاج إلي بعض التعب لكي تزداد استمتاعا به.
يبدأ "المسافر" بالشخصية الرئيسية "حسن" نائما داخل قطار يمر بجوار البحر. "حسن" نائم في القطار بين وضع القرفصاء ووضع الجنين، وعربة القطار المظلمة المتحركة تشبه بطن الأم...لكن القطار نفسه له معان أخري في اللاوعي الجمعي: هو رمز السفر والرحلة والرغبة التي تندفع بصاحبها ويمكن أن تدمره. المشهد الأكثر حضورا للقطار في ذاكرة الأدب هو مشهد "آنا كارينينا" تلقي بنفسها تحت عجلاته في نهاية رواية تولستوي. وفي السينما المصرية تم تقديم نفس المشهد ومعني الغريزة المدمرة للقطار في فيلم "نهر الحب".
في نهاية "المسافر" يتكرر مشهد الموت تحت عجلات القطار...حين يقرر "حسن" الذي يصبح شيخا عجوزا أن يستجمع شجاعته للمرة الأولي في حياته، وأن يلعب لعبة مواجهة القطار التي كان يزعم أنه لعبها في مراهقته، فيصعد إلي كوبري امبابة الذي يمر عبره القطار فوق النهر، وينتظر حتي يوشك علي الاصطدام به ثم يلقي بنفسه في النهر.
يستطيع بطلنا أخيرا أن يواجه وينتصر علي قطار الغواية والخوف الذي شغل خياله طوال حياته، ويصبح هذا الانتصار علامة تحوله وميلاده الجديد.
بجانب القطار يمتلئ المشهد الأول بوسائل النقل الأخري: الخيول التي يركبها جنود الاحتلال البريطاني. المراكب في البحر، السيارات والحمير وعربات الحنطور والدراجة.
تزداد معرفتنا بمشكلة "حسن" مع القطار ووسائل النقل عامة في المشهد الثاني من الفيلم حين يلتقي عامل التلغراف في مدينة بور سعيد، الذي يأتي بصحبة دراجة لا يستطيع قيادتها، ولا "حسن" أيضا يعرف كيف يركب هذه الدراجة. في المفهوم الشعبي للدراجة وركوبها معني جنسي معروف، والاشارة واضحة إلي مشكلة "حسن" الأساسية، وهي عدم معرفته بكيفية التعامل مع النساء.
"حسن" الذي يعمل في التلغراف لديه صعوبة في التواصل مع الآخرين، وكذلك مع وسائل المواصلات خاصة التي لا يمكن السيطرة عليها مثل القطار والدراجة وعمود المطافئ. في الجزء الأول يحكي ل"نورا" كيف أنه كان يتمني أن يعمل بالمطافئ في طفولته. وفي الجزء الأخير يطلب من حفيده الذي يعمل بالمطافئ أن يسمح له بالهبوط علي عمود المطافئ. هذا الهبوط السريع غير القابل للتحكم فيه يعبر عن مشكلة "حسن" بطريقة أخري: أنه شخص لا يترك لنفسه العنان ويخشي من المخاطرة كما يخشي أن يترك نفسه لأهواءه ورغباته ولا ينجح في التخلص من هذه المشكلة سوي في المشاهد الأخيرة من الفيلم.
في المشاهد الأولي نتعرف علي مشكلة "حسن" مع النساء ومع غرائزه بطرق متعددة.أنه يدعي الحكمة والقوة ولكنه طفل خائب...لا يجرؤ علي تدخين المخدرات ولا النظر إلي العاهرات وهن يمارسن مهنتهن في بيت العجائب الذي يصطحبه إليه "معلم" شعبي في المدينة الساحلية التي تفيض بحياة اللهو والمتعة...وحين يحاول تقليد ما يراه تتحول حياته إلي جريمة كبيرة. أنه يغتصب المرأة التي يحبها ثم يفقد سيطرته علي نفسه: يتشاجر مع "فؤاد" الذي أنقذ حياته بانتشاله من الماء ويحاول احراق السفينة... ان جانبه الحيواني يخرج حرفيا من القفص بسبب النيران. السفينة تحمل حيوانات يظهر منها الطاووس رمز الكبرياء الذكوري، والأحصنة رمز الغريزة التي تندفع قافزة في المياه. وفعلته الشنعاء هذه سيعاقب عليها بالعزلة والوحدة إلي الأبد.
يأتي "حسن" إلي بورسعيد، كما يأتي الطفل إلي الحياة: جاهلا ومغرورا وممتلئا بالرغبة في الاستحواذ علي الأم. بمجرد أن يسمع بوجود امرأة جميلة ترسل تلغرافا غراميا لشاب تحبه تتملكه رغبة في الوصول إليها، ويذهب إلي السفينة التي تقلها لسبب غير مفهوم. تحت السفينة يسقط في الماء ويتم انتشاله مثل أوديب والعديد من أبطال الأساطير القدامي بواسطة أب بديل. القبطان اليوناني هو امتداد لشخصية "المعلم". رجل شرق أوسطي نموذجي، محب للحياة والنساء ضخم البنيان غليظ الصوت يتولي قيادة الغر "حسن" وتلقينه لكيفية التعامل مع النساء. "فؤاد" حبيب "نورا" هو امتداد آخر لصورة الأب الفحل الشجاع معشوق النساء، وهو أيضا ينتشل "حسن" من المياه حين يغرق للمرة الثانية. "نورا" هي البحر الذي يغرق فيه، وهي رمز للأم ولعلاقة "حسن" بالنساء بشكل عام. وفي التحليل الفرويدي فإن البحر والماء يمثلان رحم الأم غالبا بما ان تجربة السقوط في الماء هي تكرار لحياة الجنين داخل السائل الأمينوزي في الرحم. وكثيرا ما يشبه المحبون الرجال عيون الحبيبة بالبحر العميق. والخوف من الماء حسب التحليل الفرويدي يرمز عادة للخوف من الرحم والنساء. الابتلاع داخل الرحم هو أحد المخاوف الذكورية التقليدية، وطالما عبرت الأساطير والحكايات الشعبية والفنون عن الخوف من المهبل القاتل الذي يلتهم الرجال. البئر العميق هو أحد الصور الأخري للخوف من الأنثي يمكن أن نجده في قصة يوسف وغيرها من الحكايات الشعبية. وفي الجزء الثاني من "المسافر" يغرق الابن "علي" في بئر داخل البحر كان معتادا علي القفز فيه كنوع من اثبات الرجولة. "علي" هو الامتداد الطبيعي لل"معلم" والقبطان وفؤاد...هؤلاء الذين يلقون بأنفسهم في "بحر التهلكة" دون حساب للعواقب...ينجحون أو يدفعون حياتهم ثمنا للمغامرة...ولكن المرء يستشعر أن "علي" نسخة متطرفة من هذا النموذج...أنه مهووس تماما باثبات رجولته، ليس فقط عبر القفز في البحر ولكن بتربية الديوك المقاتلة وممارسة الكثير من الألعاب الخطرة، وهو لا يفعل ذلك من أجل الاستمتاع بالنساء والحياة مثل الرجال السابق ذكرهم، ولكن بدافع من هرمونات الذكورة الفائضة والخوف من النساء الذي يدفعه إلي اثبات رجولته مع أقرانه من الرجال.
كل من "حسن" و"علي" ضحيتان لمجتمع يكره ويخشي ويستبعد النساء. "حسن" يمثل الأوديب الذي يرتكب فعل اشتهاء الأم "نورا" بادعاء أنه شخص آخر والاعتداء عليها جنسيا، وهو ينال عقابا قاسيا بنبذه ورفضها للسماح له بدخول حجرتها...وهذه الصدمة تدفعه إلي الانتقام منها باحراق السفينة، كما تدفعه إلي كراهية غريمه/الأب/فؤاد بالرغم من أنه يتمني أن يكون محله وينتحل الكثير من صفاته.
"علي" شبيه "حسن" -هو نموذج آخر من أوديب،الابن المنبوذ.و»نادية« شبيهة أمها- هي نموذج آخر من المرأة التي انتهكت براءتها. من المؤكد أن "نورا" الجريحة بفعل اعتداء "حسن" لها، واستياء "فؤاد" منها بعد معرفته بعلاقتها العابرة ب"حسن" ( هناك مشهد دال في نهاية الجزء الأول علي رد فعله المصدوم من كلام "حسن" أمام الباب الموصد) قد قضت حياة تعيسة خالية من الحب يعبر عنها البيت الفقير الذي عاشت فيه وابنيها البائسين، "علي" الذي يلقي مصرعه في البئر و"نادية" الضعيفة الخائفة التي تقبل الزواج من "جابر" المعتوه بناء علي أوامر رجل تلقاه لأول مرة في حياتها!
في كتابه "الطوطم والحرام" يكشف "سيجموند فرويد" عن الصلة بين "أوديب" و"هاملت" بإعتبار أن الثاني هو التطور النفسي والحضاري للأول. الطفل الذي يشعر بالذنب من مشاعره تجاه أمه وأبيه يقوم بعكس الموقف فيتخيل أن الأم هي الشهوانية وأنه يحب أبيه ويرغب في الانتقام من الأم وعشيقها اللذين قاما بقتل الأب. في هذه المرحلة "الهاملتية" يتحول اشتهاء المرأة إلي إدانة لها ورغبة في استبعادها. وهناك مشهدان دالان علي هذا التحول في "المسافر". المشهد الأول يدخل "حسن" حجرة "نادية" وهي صورة طبق الأصل من الأم. يقترب منها ويهم بتقبيلها لكنه يتذكر أنها محرمة عليه. وفي المشهد التالي يتخلص منها بتزويجها لرجل معتوه رافضا السماح لها بالزواج من الشاب الوسيم الغندور الذي تحبه. هذا الموقف يبين غيرته عليها ورغبته في استبعادها في الوقت نفسه. ينتهي هذا الفصل بمشهد "نادية" في الماء، تبكي وتتوغل في العمق، ويأتينا الانطباع بأنها "أوفيليا"، الحبيبة التي هجرها وأساء معاملتها "هاملت" فانتحرت غرقا.
الموت يفتتح ويختم الفصل الثاني من الفيلم. كلا من الذكورة
والأنوثة، ممثلين في التوأم "علي" و"نادية"، لقيا مصيرهما المؤلم الناتج عن ضياع الحب: ضياع "نورا" من "حسن"، وضياع "فؤاد من "نورا". الموقف يمكن قراءته بطريقة أخري: في نظر عالم النفس "كارل يونج" فإن كل انسان يتكون من ذكر وأنثي وكبت أي منهما يؤدي إلي المرض النفسي. التوأم "علي" و"نادية" يمثلان الذكورة والأنوثة أو "الأنيموس" و"الأنيما" بتعبير "يونج" - داخل "حسن". و"حسن" الذي ينبذ "الأنيما" داخله جانبه المؤنث - يسيطر عليه التطرف والمرض وهو لايشفي إلا بعد أن يتصالح مع هذا الجانب في النهاية. ومحاولات "علي" المستميتة لإثبات ذكورته هدفها الخلاص من جانبه المؤنث وهو ما يؤدي إلي موته...وموت "علي" يمثل أيضا موت الجانب المذكر داخل "نادية"، وهو ما يحولها إلي فتاة مسكينة ضعيفة...الإثنان لا يمكن أن يعيشا بدون الآخر.
لنمد الخيط إلي الوعي الجمعي كما يفعل "يونج"...ان المجتمع الذي يكبت ويدفن نصفه المؤنث سيتحول بالتأكيد إلي مجتمع مريض...وهذا هو بالضبط مضمون الفصل الثالث.
إذا كان فعل الموت يهيمن علي الفصل الثاني، فإن حالة الموات هي المسيطرة علي الفصل الثالث. جزء كبير من الأحداث يدور في العالم السفلي للمقابر ومترو الأنفاق، والمناخ الذي يسيطر علي المدينة بشكل عام هو الجفاف والجوع والعطش نحن في شهر رمضان. أنها القاهرة بداية القرن العشرين الغارقة تحت ركام المقابر والعنف والتزمت الديني والتناقضات الطبقية والازدواجية الأخلاقية التي لا يمكن حلها.
هنا يهبط "حسن" و"حفيده إلي مدينة الموتي، حيث يعيش الناس علي المراهنة علي الديوك المتقاتلة. الديوك المتقاتلة صورة أخري من التوأم الذي يأكل نفسه...وهي صورة للذكورة المتناحرة ضد نفسها. المثل الشعبي يشبه صراع الأخوة ب"نقار الديوك". لكن الديوك التي تستخدم في القتال تذكر أيضا بالطيور الجارحة. و"جابر" يحذر "حسن" من أن يعضه أحد الديوك. الحلم بالطيور الجارحة يعني أن شيئا ما يموت وأن المرء يخشي من ضياع شئ مهم منه...شئ ما مات في هذه المدينة التي تلبد سماءها غيوم الطيور الجارحة.
"علي" الحفيد -ابن »نادية« شاب بريء وضعيف و وحيد..أما »حسن« فقد أصبح شيخا عجوزا يواصل ألعاب الكذب والخداع...ولكنه تخلص من الكثير من قسوته وبروده...هل لذلك علاقة بحلول "عمر الشريف" بجاذبيته الطاغية محل "خالد النبوي"...أم أن الأمر له علاقة بإختيار وتعمد المخرج؟ أعتقد أن التفكير في الاستعانة ب "عمر الشريف" في هذا الجزء هو نوع من الالهام الفني.
علي العكس من الجزئين الأول والثاني، فإن الرجال هم الضعفاء هنا في حين أن المرأة الرئيسية الدكتورة "راوية" هي الانعكاس الحتمي لشخصيتي "نورا" و"نادية" العاطفيتين الضعيفتين. "راوية" امرأة عملية بلا قلب تعرف ما تريده وتسعي للحصول عليه...وما تريده ليس أقل من انتزاع أنف "علي" الرومانية، رمز رجولته الذي ورثه من جده فؤاد. الأنف كرمز ذكوري معروف، ولكنها أيضا رمز للحدس والفطرة والكرامة. هذه الأنف هي أيضا العضوالوحيد الذي ورثه "علي" الحفيد من جده "فؤاد"، والباقي من "حسن". ورغبة "راوية" في "تحطيم" هذه الأنف تضع أمام "حسن" السؤال الأهم في حياته: هل يكره فعلا "فؤاد" أم أنه يتمني فقط لو كان مثله؟ في الحقيقة من المستحيل علميا أن تنجب امرأة توأما من رجلين مختلفين. هذا التركيب غير الواقعي للوجوه والشخصيات حيلة خيالية يلجأ إليها ذهن الحالم ( "حسن"/ "فؤاد" / المؤلف) ليحل تناقضا لا يمكن حله في الحياة الواعية...ورغبة "راوية" في إزالة الأنف تجبر "حسن" علي مواجهة هذا التناقض والتصالح معه. الآن عليه أن يحدد هل هو "حسن" أو "فؤاد" أو "علي" الابن أوالحفيد أم الأربعة معا؟
هذا السؤال يفتح وعي "حسن"...وهنا يمتلئ الفيلم بصور الحمام، هذا الطائر المقدس الذي يمثل الوعي وانفتاح الروح والروح القدس التي تحل في الأجساد الميتة كما يمثل التجدد والميلاد الجديد مثل السمك والبيض والقمح في الثقافات الزراعية.
"حسن" ينقذ الحفيد من أيدي "راوية" باشعاله حريقا وهميا في المستشفي، ويصطحبه إلي بيته. يعطيه بعض ملابسه وهو رمز لاعلانه عن بنوته واعتباره خلفا له...ويحضر له علبة من كعك العيد. هذا الكعك هو واحد من أقدم أنواع المخبوزات في العالم، وكان يطلق عليه "كعك ايزيس" وهو يصنع علي شكل قرص الشمس ويحمل نقوشا تدل عليها رمزا لعبادة إله الشمس. وفي الخيال الشعبي يمثل كعك ايزيس طقسا هاما من الاحتفال بالعيد، خاصة عيد الفطر الذي يشبه عيد الفصح الفرعوني ولكن في السنة الهجرية. القرص المستدير قد يشير إلي القمر أيضا وإلي دورة الحياة عموما. والقمح الذي يصنع منه الكعك يرمز للخصوبة والنماء والتجدد.
ومثلما بدأ الفيلم ب"حسن" نائما، ينتهي به نائما يلتهم الكعك حالما بالعودة إلي رحم الأم وحضنها ليولد من جديد. المدينة كلها تحترق وتغمرها المياه. وهنا يتجسد معني اختلاط النار والماء علي مدار الفيلم. النار والماء يرمزان للتطهر والبعث حسب ابن طفيل ودانتي والثقافة الشعبية الدارجة. النار ترمز للوعي وتجدد الطاقة والتحول إلي صورة أخري والماء يغسل ويروي ويحمل سر الحياة.
هنا تتغير صورة الماء من البحر المالح العميق الذي يرمز للخوف من الأم إلي نهر النيل بكل ما يحمل من صفات الأم الايجابية. يفلت "حسن" من القطار ويقفز في النهر وعندما يفيق يجد نفسه في حجر الأم حرفيا...ملفوفا مثل الوليد الجديد محاطا بالأطفال وامرأة شعبية مثيرة ترضع أحد أطفالها وتتناول معهم كعك ايزيس.
يسألها "حسن" عن الأطفال ويعرف أنها تزوجت مرتين وأن طفلها الأخير من رجل ثالث لم تتزوجه...وهي علي عكس "نورا" ليست ضعيفة بأي حال ولا تخجل ولا تتبرأ من أنوثتها ولا تنبذ أطفالها.
الآن لم يعد الانتساب إلي الأباء شيئا مهما...ولا التفكير في منافسة الأب والرجال الآخرين. الآن كل الرجال أطفال تحت أقدام "الأم العظمي" Magna Mater ، أمنا الأرض، والآن يمكن أن تعود لحضارتنا أنوثتها المفقودة تحت وطأة الصراع الذكوري المدمر.
هذا هو حلم "حسن" الأخير لأمة كانت ميتة وبعثت من جديد بعد الانتهاء من صنع هذا الفيلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.