أخي الحبيب أمل ها هي الدوامة توشك أن تنتهي، ويمر الاسبوع الأول بكل تقلباته وجوانبه الجديدة، لأجلس في عطلة نهاية الاسبوع الي جوار زجاجة من مشروب سويدي لأكتب لك. وطبعا مذاق المشروب يثير تداعيات لا نهاية لها ولا آخر، ولو كنا - في حالة شعرية - لحدثتك عن لعب الأضواء علي النيل ومرور الأيام التي تذكر بتلك الشهور، الزهور علي حافة القلب تنمو. ولكن لنعد الي الواقع. الحق كانت الرحلة امن القاهرة مرهقة - مطار القاهرة بكل ما فيه من احتياطات الأمن، ثم ساعات الطيران حتي روما، وساعات الانتظار في روما، ومعابثة الطلاينة (وطبعا ضحكوا علي وسرقوني في المطعم وفي السوق الحرة) ثم ساعات أخري من الطيران حتي كوبنهاجن (وبها أجمل مطار رأيته حتي الآن) ثم من الدنمارك الي السويد، وكلما دخلت الطائرة البلاد الاسكندنافية تغير الجو وبدأ الاحساس بالحر يحل محله البرد.. البرد الحقيقي، وتختفي شمسك ذات العيون الشتائية المطفأة لتحل محلها شمس غائبة لا تبين بين الضباب أو يغطيها الظلام. كان في مطار استكهولم من ينتظرني ليصحبني الي حجرة قاتمة جدا كأنها القبر في بنسيون تديره سيدة عجوز كهل علي مشارف القبر، ولكن جاء من صحبني الي الخارج - مندوب - من الجامعة للعشاء ولمشاهدة كيف تسهر المدينة في آخر يوم في العطلة. ثم جاءت الجامعة ويالدفء اللقاء الذي قوبلت به هناك، كدت أصدق أني عالم كبير فعلا، وبدأت المحاضرات، وكل يوم جديد يمسح عني مرارة الأيام الأخيرة في القاهرة هنا تقدير للعلم والعلماء، هنا معرفة بما تفعل، احترام لكل ماتقوم به. وأتي السبت - سابع يوم - وحل معه احساس بالراحة والتعود علي الجو، بل حل قبله بيوم تقدير من المسئول عن الكلية و ترحيب حار. ولكن تظل مصر في القلب، وتظل الضحكة التي تتورد بعد كوب من البيرة، علي النيل تغمر الروح بالدفء. مشاكل السكن تحل. أخيرا وعدتني البلدية (الحكومة - هنا - تشرف علي الاسكان فعلا وليس دعاية) بشقة من حجرة في الثالث من نوفمبر، وتكرم أستاذ في الجامعة بإعارتي شقته (في وسط المدينة تماما) وحتي استلم شقتي (في ضواحي المدينة). أما عن الجامعة فالتعليم فيها بالمجاني تماما، والخدمات الصحية والاجتماعية بالمجاني، وتمنح الجامعة الطلبة قروضا ليتفرغوا للدراسة تماما، إذا شاءوا. ومع ذلك لا يقول لك أحد شيئا عن الاشتراكية الديمقراطية التي تعيش فيها السويد، وكنت أحسبها مجتمعا رأسماليا آخر. أما عن الحياة الثقافية، فكل ما أنتجه العالم من ثقافة موجود في السويد، سينما موسيقي، فرق زائرة، مسرح، أوبرا، باليه، معارض. لم أشاهد - حتي الآن - سوي فيلم سويدي واحد يسخر من أمريكا وطريقة هوليود في السينما، وفيلم عن عمر المختار (انتاج واخراج مصطفي العقاد وبطولة انتوني كوين وايرين باباز) ويالحماس السويديين وهم يشاهدون هذا الفيلم. العمل - هنا - سهل جدا بالنسبة لي، ليست هناك مشكلة، لأنهم يعرفون الانجليزية التي أتحدثها دون صعوبة - عدد الساعات التي أدرسها حتي الشهر القادم سبع ساعات في الاسبوع (أي أقل ثلاث ساعات من جامعة القاهرة). والطلبة - عموما - كبار في السن (واحد منهم علي المعاش تصور!؟) فالباقي يدرسون اللغة العربية للهواية، أو للعمل، أو للتخصص الجامعي. أما الأساتذة فأغلبهم من التقدميين، بالمعني الحقيقي وليس بالبركة. ويخيل إلي أن الفراغ سيكون كبيرا، وسوف استغله لكتابة ما أريد ولتعلم اللغة السويدية إذا أمكنني ذلك. تلك هي بعض أخباري، فما أخبارك، أرجو أن تكتب لي بالتفصيل، ولا تنس أن تكتب وان كنت أعلم أنك كسول في الكتابة، ولكنني أتوقع منك الكتابة. هل أدخل - في حديث عاطفي - وأتحدث عن الحنين والوحشة والشجن، لا بأس فلنغادر الرومانسية، ولنتمثل بما قاله الشاعر القديم: »سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا« تحياتي الي عبلة العزيزة (ولا تغر أيها الصعيدي فهي أختي الحبيبة) ولست في حاجة الي أن أوصيك بأختك ثريا والأولاد، قبلهم لي، وقد كلمتهم بالأمس تليفونيا، وعلي فكرة مكالمة القاهرة تليفونيا تتم في دقائق ولو أخبرتموني بموعد محدد تجتمعون فيه جميعا لكلمتكم بالتليفون عنواني حتي الآن علي الجامعة حتي استقر. وسأرسل لك هذا الخطاب علي الاتيليه، وسأرسل لعبلة علي الأخبار، وأرجو أن تردا معا، وأكتب لي عنوان منزلك الجديد. وابق لمن يحبك جابر عصفور