يقول الرب في العهد القديم:"في البدء كانت الكلمة"، لكن رسامي الجرافيتي يرون شيئاً آخر. "في البدء كانت الرسمة" حيث رسم الربُ آدمَ ونفخ فيه من روحه ثم قال له كن فكان. من كلمات تحمل أسماء أصحابها علي الجدران، إلي رسومات حول الاسم نفسه، ومن قلوب تنتصف حرفين في كل طرف إلي لوحات تعبر عن حال المدينة، تطور فن الجرافيتي. في مصر، بدأ منذ العصور القديمة ثم اختفي، وعاود الظهور في السنوات الأخيرة علي يد فنانين ثائرين فطاردتهم السلطات. اتهمتهم بأنهم عبدة الشيطان، حققوا معهم في أقسام الشرطة، صادروا تجمعاتهم، رغم ذلك لم يتوقفوا. رسموا علي الأرض والجدران، ناهضوا السلطة ولعنوا قمعها. ومع ثورة 25 يناير، التصقت رسومات الجرافيتي بالثورة وعبّرت عنها. أحد هؤلاء الفنانين شاب لم يبلغ الثلاثين بعد، نحيف ومنكوش الشعر، ستعرف بمجرد أن تراه في الشارع أنه رسام، بنظرته المتأملة وخطوته المرتبكة وهيئته الملفتة. وما أن تتحدث معه، حتي تكتشف عالماً مختبئاً، حكايات وملصقات ورسومات، تبقي علي هامش المجتمع رغم أنها تعكسه، تصنع نوعاً من التصالح بين ثقافة الناس وبينه. هي مرآة تخشي السلطة أن تنظر فيها، لكن الناس يستمتعون برؤيتها. جنزير، اسم الشهرة لهذا الفنان، يتحدث بحماس عن فن الجرافيتي، ويفضل أن يسميه Street art، يري أن الجرافيتي "مجرد كتابات، أما فن الشارع فأكبر وأوسع، يحوي بداخله الرسومات والتعليقات عليها". يتحدث بيديه في معظم الأحيان، ويفقد سيطرته علي يده اليسري كلما اندمج في الحديث، كأنه يرسم بها ما يتفوه به. ولد جنزير سنة 1982، وعاش حياته كلها، مثل معظم من شاركوا في ثورة 25 يناير التي أسقطت الطاغية، في ظل حكم رئيس واحد. ومع ملايين آخرين، فاجأوا النظام الفاسد بفنهم الذي اكتسبوه من وسائل أخري لا علاقة للطغاة بها. وقبل ذلك بسنوات، كان جنزير قد اتخذ قراراً بالتفرغ للفن، وهو خريج كلية التجارة، فصنع أفلاماً قصيرة وكوميكس ورسم في الشوارع وعلي جدرانها. يقول رسام الجرافيتي إنه "لا يؤمن بالفن من أجل الفن" هكذا نجده مهموماً بقضايا بلده. يقول :"أحب الرسومات الاجتماعية" ويخلق بذلك علاقة ممتدة بين المجتمع وجدران الشوارع، صور تجعلك تري بوضوح قصة حياة بلد مرسومة علي جدرانها. فنانو الجرافيتي فنانون من نوع خاص، هم يعملون مقابل لا شيء، بل ويشترون خامات أعمالهم وعدتهم من جيوبهم الخاصة. يفعلون ذلك لأنهم مؤمنون بفنهم، ولأنهم مؤمنون أيضاً بأن الفن لا يجب أن يُمارس من أجل شيء. جنزير ينفق علي رسومات الجرافيتي من أعماله الأخري، يبدو زاهداً عندما يقول:"أتربح من أعمالي الأخري وأعيش بشكل جيد". مع نشوب الثورة بزغ نجم جنزير، وجد نفسه متورطاً في رسومات سياسية تعكس رأيه في الطاغية ومن بعده في المجلس العسكري. رسوماته الجريئة دفعتهم للقبض عليه والتحقيق معه واعتقاله لعدة أيام. يقول :"رسمت صورة لرجل يعصّب عينيه ويداري فمه، له جناحان يخرجان من أذنيه، وكتبت عليها : هدية المجلس العسكري لشعب مصر". الصورة تعبّر عن القمع الذي يمارسه المجلس العسكري سيراً علي النظام القديم، وهو الأمر الذي استفز بعض المارة فتجمعوا واحداً وراء الآخر ونشبت مناوشات بينه وبين من يدافعون عن المجلس العسكري، حينها التفت رجال الجيش، فاقتربوا ووجدوا الرسمة وسمعوا اعتراضات البعض علي وصف المجلس العسكري بالقامع، فحملوه معهم وبدأ التحقيق معه واعتقاله لعدة أيام. لا شيء يثنيه عن ممارسة هوايته المفضلة، لا الاعتقال ولا مطاردات السلطة. في بداية الثورة، ومع الخطاب الثاني للرئيس المخلوع، خرج البعض يرددون عبارات مثل "مبارك رمز مصر ولا يجب أن نهينه""علينا أن نقبل بالإصلاحات التي يقترحها الرئيس" لكن الملايين من ثوار التحرير رفضوا ما يقدمه مبارك، ثلاثون عاماً في الحكم كانت كافية لأي إصلاح يود، ولم يفعل. كان قرار الثوار واضحاً: تنحي الرئيس مهما كانت النتائج. حينها رسم جنزير جرافيتي غاية في الذكاء: مبارك لا يساوي النسر. بعد جمعة الغضب وبعد"موقعة الجمل" أو "الأربعاء الدامي" استشهد مئات آخرون، أراد جنزير أن يخلد الموتي، الشهداء، فقرر أن يرسم صورهم علي جدران شوارع العاصمة. وخلال يومين أسماهما ب "يوما الجرافيتي العنيف" عمل مع مجموعة لينجزوا عملهم الفدائي: رسم أكبر عدد ممكن من الشهداء الذين تمكنوا من الحصول علي صورهم. رسومات الشهداء علي الجدران كانت كبيرة وواضحة وملفتة، ما استفز السلطة فقامت بمحوها أو تغطيتها بلون أبيض، وهو ما جعل رسامي الجرافيتي يعيدونها من جديد في تحدٍ مع السلطة. وأضاف إليها جنزير رسمة لدبابة تدهس رجلاً يحمل فوق رأسه قفصاً يحمل خبزاً. يقول جنزير إنه لا يضع خطة معينة لرسوماته، ويضيف:"الظروف وحدها هي التي تحرّكني". هو بذلك يرصد حركة المجتمع، مثله مثل الكاتب الذي يسجّل ما يحدث. رسام الجرافيتي سريع الاستجابة للأحداث، وأكثر عرضة للخطر، ليس فقط من السلطات، بل أيضاً من المارة الذين يتوقفون ليراقبوا ما يرسمه، إما بغرض المتعة أو الاعتراض والمناوشة. لا يبدو جنزير مهتماً بمعارضيه، يعلم أن أذيال النظام الفاسد لا زالت تعبث بالبلد. أسأله إن كان يقبل تسمية "فنان الشارع"؟ فيرد بكل تأكيد:"طبعاً، أنا سعيد بهذه التسمية، لكنني لم أصل بعد لهذه الدرجة". يعترف أن العمل في الشارع صعب، فالفنانون عادة يفضلون الهدوء، لكنه عمل أيضاً له متعته: أن تري رد فعل الناس في نفس التوقيت الذي تنتهي فيه. يتحرك من مكانه بجسده النحيف، يسير في الشوارع متلفتاً حوله بحثاً عن حائط لم يُرسم عليه. يبدو سائحاً يتأمل مدينة جديدة عليه رغم أنه ابن القاهرة. أشير له إلي رسمة جرافيتي من أعماله علي حائط، أقول له بفكاهة:"ابسط يا عم، بقيت مشهور أهو" يرد بابتسامة متواضعة وينظر إلي الجدار، ثم يتوه في فكرة جديدة ستري قريباً النور علي جدار قاهري.