ربما قليلون الذين يعرفون أن محمود درويش هو الذي ساهم في صياغة الجملة الأهم في خطاب أبوعمار والتي أصبحت شعاراً والتي تقول: أحمل لكم سلاح الثائر في يد، وغصن الزيتون في اليد الاخري فلاتسقطوا الغصن الاخضر من يدي. غني عن القول أن محمود درويش الشاعر والانسان حاضر فينا، ومقيم في وجداننا، وغني عن القول ان ابداعه قهر الموت والغياب، وأنه سيبقي علي مر الزمن خالداً مثل طبيعة فلسطين الفريدة الموجودة منذ الأزل، بل سمة من السمات الفريدة لما أبدعه الانسان علي مر العصور فوق ترابها وجبالها ووهادها وشواطئها. لسواي أن يتحدث عن سيرته وإبداعه ومعماره الفني، ومضامين قصائده، وما أضافه للتجربة الشعرية العربية من جهد في التطوير والتحديث وبلاغة الكلام، وما اثاره من تحد لحمرة النص الشعري، وما جلب له ذلك من استحسان، ومكائد الخصوم، بحيث انه صار مثل المتنبي ماليء الدنيا، وشاغل الناس. لكنني رغبت في أن اشير إلي ميزة، خص بها وحده ولم يلتفت إليها النقاد والباحثون، وهذه الميزة يمكن أن نطلق عليها مصطلح: قوة الثقافة في السياسة، ويمكن القول ان كل مثقف سياسي، وليس كل سياسي مثقفاً، ومحمود درويش لم ينخرط تماما في العمل السياسي المباشر، لكنه كمثقف كان سياسياً بامتياز. وفضلاً عن أن شعره رافق كل المحطات التي مرت بها القضية الفلسطينية، وتوافرت فيه كل العناصر الفنية العالية، وحمل القضية ولم يتكيء عليها، وأوصلها إلي عمق الضمير الإنساني، فضلاً عن ذلك فانه حظي بمكانة لم تتح لسواه، ليكون في دائرة صنع القرار في كثير من اللحظات التاريخية، وأهلته هذه المكانة ليسهم بشكل خلاق في رفع مستوي الاداء، ورفع راية القيم. كان أحد اعضاء الفريق الذي أعد لذهاب ياسر عرفات عام 4791 إلي الاممالمتحدة، وكان واضع اللمسات الاخيرة علي خطابه التاريخي الذي ألقاه في الاممالمتحدة، وربما قليلون الذين يعرفون أن محمود درويش هو الذي ساهم في صياغة الجملة الأهم في خطاب أبوعمار والتي أصبحت شعاراً والتي تقول: أحمل لكم سلاح الثائر في يد، وغصن الزيتون في اليد الاخري فلاتسقطوا الغصن الاخضر من يدي. كما أن محمود درويش هو الذي كتب نص بيان الاستقلال نص قيام دولة فلسطين الذي ألقاه ياسر عرفات في المجلس الوطني عام 8891 في دورة المجلس في الجزائر، وهو النص الذي لم يتسم بالبلاغة فقط، وانما بمضمون سياسي وحضاري وإنساني، عبر بشكل لا لبس فيه عن قوة الثقافة في السياسة. وفي أواخر السبعينيات تسلم محمود درويش رئاسة مركز الابحاث الفلسطيني، وهو موقع سياسي بحثي يعادل مراكز الدراسات الاستراتيجية التي تعني برسم السياسات من خلال الدراسات والابحاث، وتسلم ايضا رئاسة تحرير مجلة »شئون فلسطينية« وهي مجلة سياسية بالدرجة الاولي، فعمل محمود درويش في السياسة بروح المثقف والشاعر، واستطاع أن يؤكد حضور الثقافة في السياسة. والشواهد علي محاولاته في أن يضع لمسات المثقف في السياسة الفلسطينية عندما اتيح له ذلك كثيرة. وكان لمحمود مواقفه التي اختلف فيها مع القيادة السياسية لمنظمة التحرير، فقد اختلف مع أبو عمار واستقال من مركز الابحاث عندما غضب عرفات علي بعض ما نشر في شئون فلسطينية، وتم استدعاء سكرتير تحرير المجلة للتحقيق، واختلف ايضاً مع أبوعمار بعد اتفاق اوسلو، وعارض الاتفاق، واستقال ايضاً من عضوية اللجنة التنفيذية. لكنه لم يكن يذهب بعيداً في خلافاته، ولم يحول الخلاف إلي خصومه، فقد دافع عن ياسر عرفات، وخصه بقصيدته مديح الظل العالي)، بل إنه وقف بقوة إلي جانب عرفات بعد الخروج من بيروت، وبعد الانشقاق الذي اخترعه النظام السوري، حتي ان بعض خصومه وجه له تهمة شاعر أو مثقف البلاط، والذين يعرفون درويش عن قرب، يعرفون ان درويش الذي رفض جوائز الانظمة الديكتاتورية، جوائز صدام حسين، القذافي وغيرهم، لم يكن ينتظر جائزة من عرفات ولا منصباً، وانما كان عرفات بالنسبة له رمزاً وطنياً، وكان عندما يكتب عن عرفات، يكتب عن صورة البطل في زمن عزت فيه البطولة. محمود درويش شاعر، أعظم شاعر لأعدل قضية، لذلك هو في قلب المشهد الوطني، يؤثر ويتأثر، وحاول ان يكون هناك مشروع ثقافي، يمثل قوة الثقافة في السياسة، وفي المشروع الوطني. وأذكر أنه قال لي مرة، قبل سنوات قليلة من رحيله، إننا جميعاً كمثقفين صنعنا حقائق ثقافية، لكننا لم نتمكن من صنع مشروع ثقافي. كان درويش يحاول أن يصنع حقائق ثقافية في السياسة ويحلم بمشروع ثقافي لكن حركة الحياة كانت أسرع من حركة السياسة، وأسرع من حركة الثقافة، وأسرع من فسحة التأمل.